الدوحة: في كتاب "رحلتي مع العلاج النفسي" تأليف موزة عبد الله المالكي الصادر عن شمس للنشر والتوزيع في 120 صفحة يقول الناشر: علي الرغم من أن علم النفس هو العلم الذي يسمح للإنسان بأن يغوص في أعماق نفسه ودهاليزها، يفتش في ماضيه وظلاله علي حاضره، يراقب نفسه مع نفسه ومع من حوله وغير هذا مما يتيحه علم النفس للإنسان عامة والمهتم به خاصة، إلا أن كثيرا من كتب علم النفس لا تصلح سوي للمتخصصين، فهي مليئة بالمواد العلمية المعقدة والمصطلحات الغريبة الصعبة، أما من يتمتع بالقدرة علي تقديم العلم مغلفا بالمتعة الفكرية فهو قليل. لكن ما يعوضنا ويسعدنا هنا أن هذا الكتاب الذي بين يدينا هو من هذا القليل، وهو علي صغر حجمه يقدم لنا تجربة إنسانية ورحلة عمرية عاشتها المعالجة النفسية الدكتورة "موزة عبد الله المالكي" بين أروقة العلاج النفسي في كثير من أنحاء العالم المختلفة. ومن الكتاب نقرأ: كان من بين متطلبات بعض المقررات الدراسية؛ الحصول على ساعات عمل مع مؤسسات غير هادفة للربح، بهدف اكتساب خبرات في العلاج النفسي. وكنتُ في أمس الحاجة للحصول على 100 ساعة عمل، وكان من الطبيعي أن اختار مركزاً للعلاج النفسي يكون الأقرب إلى منزلي، فوقع الاختيار على مركز متخصص في تقديم الخدمات النفسية لمرضى السرطان الذين هم على أعتاب الموت، أو الذي بلغ بهم المرض الخبيث حداً يستعصي علاجه، وينتظرون الموت بين آونة وأخرى. وفي الواقع إن عملاً كهذا يحمل في طياته الكثير من الحزن والألم والشعور بالفقد لرؤية الإنسان وهو يستعد للقاء حتفه، فكان ذلك أمراً بالغ الصعوبة. وكانت المعضلة هي كيف نستطيع أن نقوم بعملية العلاج النفسي دون أن تحتك مشاعرك الخاصة، بدورك الذي يتعين عليك القيام به. فالإنسان في لحظات الاستعداد الموت، تختلف مشاعره من عمر إلى عمر، وربما أن الصغار على وجه الخصوص؛ الأطفال المرضى بالسرطان الذين وصل بهم حد المرض إلى درجة خطيرة؛ لا تستطيع مقاومة حزنك عليهم. كان من بين الأطفال الذين التقيتهم في هذا المركز؛ طفلة صغيرة تبلغ من العمر سبع سنوات ومريضة بسرطان الدم، وقرر الأطباء لها أن تمكث بالمركز انتظارً للموت الذي سيخطفها بعد أيامٍ قلائل، وكان عليّ أن أشارك في قيادة جماعة مكونة من تلك الطفلة وعدد من الأطفال ينتظرون نفس المصير، وأن أساعدها وهي طفلة صغيرة على تقبل هذه الحقيقة، وأن تتكيف خلال الساعات الباقية من عمرها؛ مع الموت الحتمي الذي لا مناص منه. كنت أدير معها حوارً تلو الآخر، وكان الأطباء قد قرروا أنها الأقرب إلى الموت من بين الجماعة التي كنتُ أعمل معها، نظراً لتدهور حالتها. وكانت الطفلة حينما تسأل عن ماهية الموت الذي لا تعرفه؛ أقول لها: هو أن تلتقي بربك، فكانت تحلق بعينيها: وماذا يمكنني أن أفعل معه؟ فكنت أقول لها إن الله هو الذي خلقنا، وهو الذي يأخذ أرواحنا، وهو الذي يحقق لنا آمالنا وطموحنا وأهدافنا... فكانت تدور على كل أعضاء الجماعة وتسأل كل واحدة: ماذا تودين من الله لكي أنقله إليه حينما تصعد روحي؟ وهكذا فهمت هذه الصغيرة الموت على أنه انتقال من عالم زائل إلى عالم آخر دائم.. واستطعنا أن نصور لها الحياة على أنها رحلة نهايتها الموت؛ الذي هو بداية الحياة في عالم آخر غير عالمنا... وما أذهلني هو أن هذه الصغيرة قد استقبلت هذا التبسيط بقناعة كاملة، حتى أنها لم تهاب الموت، ولم تذرف دمعة واحدة؛ مثل ذلك النهر من الدموع الذي كنت أذرفه عليها كلما عدت إلى المنزل... كانت هذه الصغيرة على قناعة بما يصعب على الكثيرين الاقتناع به، وكانت تصدق كل كلمة أقولها لها، وقد كنت صادقة معها، لأن ما أقوله هو بالفعل نتاج إيماني بالله وقناعاتي كمسلمة. ولم يدر بمخيلتها البريئة كم أننا جميعاً حزانى عليها ونحن ننتظر الموت الذي سيأخذ روحها ويخطفها من بيننا بين لحظة وأخرى. وماتت هذه الطفلة، ولم أستطع أن أفصل بين مشاعري كأم، وكمعالجة نفسية، فالأمومة وجدت البكاء مجالاً لتعزي الإحساس الفادح بالحزن، أما دوري كمعالجة نفسية فكان يقتضي أن ابتسم لها طول الوقت، وأن أنظر إليها وعلى وجهي ابتسامة... وهكذا بالنسبة لبقية الأطفال، كان عليّ أن أحاورهم وأجيب على أسئلتهم البسيطة، وأن أكون بجانبهم؛ وأنا أعرف إنهم بين بين وقت وآخر سيرحلون إلى مثواهم الأخير. الدور المهني كان يقتضي أن لا أحبس الدموع، بل أن أسكبها إلى داخلي، وألا تغرورق عيناي بالعبرات حزناً على طفولة بريئة داهمها هذا المرض اللعين، وقضت بسببه نحبها؛ في براءة كاملة، وفي وداعة نفس... بل رحت أفكر كيف أن هذه الصغيرة المريضة أردات ببراءة شديدة أن تكون في خدمة الآخرين، وظنت نفسها حاملة لرسالة من حولها، وأنها سوف تحقق لهم أمانيهم ورغباتهم، أي أن الدافعية إلى الخير في هذه النفس البريئة كانت حتى اللحظة الأخيرة. لم نخفي عليها أنها ستموت، ولكننا جعلنا للموت معنى آخر غير المعنى الرهيب الذي يخافه الجميع. لهذا كانت هذه التجربة زاخرة بالمعاني بالنسبة لي، فالإرشاد النفسي ليس فقط من أجل الحياة، ولكن لمساعدة الإنسان حتى وهو في لحظات الاحتضار. ولهذا فقد استفدت شيئاً من عملي بهذه المؤسسة، وهو أنه من الضروري أن يكون العلاج النفسي ملتصقاً بالإنسان، ليس فقط في حياته العادية، ولا في حالته النفسية، ولكن أيضاً في لحظاته الحرجة أو الأخيرة. فهذه المؤسسات؛ مؤسسات نفسية علينا الاستفادة من الفلسفة التي تقوم عليها، ذلك أن الإنسان حينما يكون في لحظات المرض الشديد، وبانتظار الموت؛ يكون بحاجة ماسة لمن يرعاه رعاية خاصة، ولمن يجعله يتسقبل الموت دون ألم، ودون أوجاع نفسية تعجل من نهايته، أو تجعله يغادر دنياه مشحوناً بكثير من الآلام. وقد وجدت أن الفقدان صدمة كبيرة، ليس على المصاب فقط، ولكن على ذويه. ورأيت الرعب والألم الذي يعانيه الأهل وهم يرون فلذة كبدهم تذبل كالزهرة قبل أوانها، وشعورهم بالعجز يمزقهم؛ ذلك العجز الذي تعانيه النفس البشرية أمام الموت..إنها حالات الضعف البشري أمام الأقدار. وتري الدكتورة موزة المالكي في كتابها "رحلتي مع العلاج النفسي" أنه ما زال البعض يتعامل مع الطب النفسي علي أنه طب المرضي التعساء الذين تطاردهم ذكريات ماضيهم المرضي، حتي أن التردد علي عيادة الطب النفسي أشبه بوصمة العار الاجتماعية التي يخجل منها الكثيرون، كما أن البعض يرفض الذهاب إلي العيادة النفسية حتي لا تلاحقه الشائعات لارتباط المرض النفسي في ذهن البعض بالجنون والخلل العقلي الذي يخجل منه الناس، ورغم قناعة البعض أنهم مرضي أو مضطربون، إلا أنهم يتعايشون مع المرض ولا يذهبون إلي العيادة النفسية، بل إن البعض حينما يذهب إلي العيادة النفسية ويخضع لبرنامج علاجي ثم يمن الله عليه بالشفاء، فإنه يحاول نسيان تلك المحطة المرضية في حياته ويسقطها تماماً من ذاكرته بل وقد لا يعترف بفضل المعالج النفسي في عملية علاجه وشفائه. وتضيف: حدث ذات مرة أن حضرت إلي العيادة فتاة مريضة نفسياً، وبعد عدة جلسات تمكنت من معرفة ماضيها وتاريخها المرضي ومنشأها والتناقضات التي في حياتها، وأمكنني مساعدتها علي استرداد عافيتها النفسية والشفاء من الأعراض المرضية التي كانت عائقا أمام استمتاعها بالحياة، حتى أنها أقبلت علي الحياة، بل وتقدم لخطبتها شاب مناسب وتحدد موعد الزواج، وهي ما زالت في المرحلة العلاجية الأخيرة، وأخبرتني هذه الفتاة عن علاقتها بخطيبها واستعدادها للزواج، وإعدادها لمكان الحفل، وطباعتها لكروت الدعوة، وكل التفاصيل الأخري التي تتخذ في مثل هذه المناسبة، وكنت معها في كل خطوة أزودها بالقوة النابعة من الأسلوب العلاجي الذي كنت أتبعه معها في زيادة ثقتها بنفسها، والارتقاء بقدراتها الكامنة لديها، وفرحت لها وأبديت لها سعادتي وتمنياتي بالتوفيق في حياتها الزوجية ولكني فوجئت بها تقول لي أنها تأسف وتحس بالألم لأنها لن تستطيع دعوتي إلي حفل زفافها، فكان من الطبيعي أن استفسر عن سبب ذلك مع أنني عادة حتي ولو دعيت لأي فرح نادرا ما ألبي دعوات الأفراح، فقالت إنني اخشي أن تراك بعض القريبات فيعرفان من خلال وجودك في حفل زفافي أنني كنت مريضة وكنت تعالجينني وبكت وهي تقول لي أنها تتمني أن أكون معها في تلك اللحظة ، وأنها تعترف أنني كنت مساعدة لها في الوصول إلى ما وصلت إليه في حياتها، فأظهرت لها تفهمي لما قالت وأكدت لها أنني سأكون معها بقلبي ومشاعري، ولكني أحسست في الوقت ذاته بمرارة مصدرها أن المعالج النفسي أشبه بالجندي المجهول.. مطلوب منه أن يقوم بدوره في الخفاء أو كأن المرض النفسي وباء يتبرأ الكثيرون من الاعتراف بإصابتهم به، وبالتالي محاولة إسقاط المعالج النفسي من الذاكرة اعتقادا منهم أنهم بذلك يمحون تلك الفترة من حياتهم. يذكر أن المؤلفة رشحت لجائزة نوبل للسلام عام 2005م، حصلت على جائزة الدولة التشجيعية في قطر عام 2005م، جائزة المرأة المثالية في المجتمع القطري، جمعية بيوت الشباب، الدوحة قطر 1996م، والجائزة السنوية لمجلس مدينة جاكسون- المسيسيببي، الولاياتالمتحدةالأمريكية عام 1996م.