عبد الرازق الشعر رفع الصقر مخلب الاتهام في وجه الديك ذات يوم متهما إياه بالعقوق ونكران جميل رجل دأب على توفير الطعام والشراب لكافة المناقير دون انتظار لمقابل، واعتبر فراره من بين يدي صاحبه كلما دنا جحودا من فرط تدليل. لكن الديك نفى أي رغبة في كبر أو نية في تمرد، وبادل الصقر اتهاما باتهام. فالصقر حيوان قوي مفتول المخالب مرهوب المنقار، لا يجرؤ إنسان مهما كانت قوته على إشهار سكين في وجهه أو لف حبل حول ساقيه. المداهنة إذن كانت الخيار الأوحد أمام رجل أفرط في تدليل صقره ورفع مخالبه فوق ساعديه وكتفيه، وكان الصمت المتآمر على الرقاب النحيلة حصاد الوفاء الذي كان على الصقر أن يوفيه لصاحبه. هكذا منطق الديكة المغلوبة على ذبحها والتي اعتادت منذ أول صيحة فجر على مشهد الدماء تروي أعتاب الحظيرة. كان على الصقر إذن أن يتمهل قبل أن يصوب تهمة العقوق إلى صدر ديك اصطبغت أحلامه بالأحمر القاني وامتلأت لياليه الهادئة بصرخات أطلقتها حناجر صديقة ذات موسم ذبح. كان عليه أن يلتمس لأخيه عذر المراوغة والنوم واقفا فوق تلال الريش التي ملأت جوانب الحظيرة وسدت أفق الشمس من جهة المشرق. وكان على الديك أن يتمهل قبل أن يصدر حكما على الصقر بممالئة اليد التي تنز منها دماء الديكة ومصادقة السكين التي تعرف طريقها جيدا إلى رقاب يثقلها اللحم عن الفرار. في زمن تشيع فيه حمى الاتهام والتخوين، وتنتشر فيه فيروسات المؤامرات والدسائس، يصعب على الوطن أن يتنفس ملء رئتيه. فالمتتبع للجرائد ونشرات الأخبار ومواقع التواصل الاجتماعي يشعر أننا في وطن يتنازل عن قدميه طواعية بعد أن تجاوزت التهم الموجهة إلى شبابه ورجاله عدد القضايا التي نظرتها المحاكم طوال عقود العبودية الأخيرة. فالمجلس العسكري متهم بالتآمر على الثورة، والثوار متهمون بالتآمر على الوطن، والحكومة المؤقتة متهمة بالتشيع للنظام السابق، والشرطة متهمة بالوقوف وراء كل أحداث البلطجة، والقضاة متهمون بييع القوانين في سوق المصالح، والبلطجية متهمون بقبض ثمن الفوضى ممن يكيدون للوطن، والمسجونون في زنازينهم متهمون بالتخطيط للمذابح والفتن، والإخوان والسلفيون متهمون بالرغبة في القفز على السلطة وتجاوز المخالفين في الرأي والمعتقد، والمواطن متهم في صوته حتى يثبت العكس. ما هذه الفوضى غير الخلاقة وغير البناءة وغير الجادة في بناء الإنسان أو بناء الوطن؟ ومن أي ريح غربية أتتنا ثقافة التخوين تلك؟ وما الذي يمكن أن تؤدي إليه على المدى القصير أو البعيد لو امتدت لا سمح الله إلى العلاقات الشخصية ليتهم الرجل أباه أو ولده أو زوجته؟ لم تعرف مصر في أي عصر من العصور هذا الكم الهائل من قضايا التخوين والبيع رغم أننا كنا نعلم يقينا أن الوطن يباع وكنا نعرف تحديدا من يقبض الثمن في ليل خريف فيه صمت النعام وجلسنا أمام فحشه القرفصاء. ما بالنا اليوم نسهب في مد ألسنتنا وشهر أقلامنا ورفع أصابعنا وأصواتنا بتهم نعلم في دواخلنا أنها باطلة أو على الأقل غير مؤكدة ضد الآخر - أي آخر. هل أسهمت ثقافة الحرية التي نحياها اليوم في نشر فساد التهم ونشر الغسيل القذر فوق الجرائد الصفراء والفضائيات الممولة والقاعات الحمراء وعلب الليل العنكبوتية التي صارت مصدر ثقافة ضحل وغير موثوق لبناء أي وعي؟ وهل ننتظر حتى تأكل ديدان الشك كل أخضر ويابس في حقول الوطن؟ أم نقف معا ضد كل من يخون شريفا أو يتهم بالباطل مواطنا صالحا حتى يثبت صدق ادعائه؟ علينا أن نحارب هذا الفكر التخويني ما استطعنا إلى ذلك سبيلا وأن لا نروج لأي إشاعة لا سند لها من واقع أو دليل، وإلا أثمنا وشاركنا من حيث لا ندري في هدم الوطن. صحيح أن بعض الظن من حسن الفطن، ولكن بعض الظن إثم أيضا لا سيما حين يشك المرء في صديق أو أخ خبره ذات ميدان. ولنتذكر جميعا مقولة عمر رضي الله عنه حين قال: (لا تظن بكلمة صدرت من أخيك شراً وأنت تجد لها في الخير محملاً). عبد الرازق أحمد الشاعر أديب مصري مقيم بالإمارات [email protected]