«الدولة اليهودية» نحن أمام معتقد ومفهوم يبدو أنه دينى وهذا خطأ يقع فيه كثير من المتعاملين معه حتى من الكُتّاب والمفكرين حينما يتعاملون مع اليهودية بمفهومهم هم وليس بمفهوم أصحابها، فاليهودية بالنسبة لليهودى هى جنسية وعرق وخصوصية تاريخية وثقافية قبل أن تكون ديناً أو عقيدة. ثمة خطأ آخر وهو تصور البعض أن طرح فكرة الدولة اليهودية طرح حديث رفضه رئيس الوزراء الإسرائيلى الأسبق شارون وأخرجه إلى الوجود اللاحق له إيهود أولمرت وبعث فيه الحياة بنيامين نتنياهو ليغرى به الأحزاب اليمينية والأحزاب الدينية للانضمام إلى حزبه فى ائتلاف يستطيع أن يضرب به حزب كاديما ويشكل الحكومة الحالية.أما الحقيقة فهى أن الدولة اليهودية فكرة أقدم بكثير، أقدم من نتنياهو وأولمرت وشارون إذا عدنا بالترتيب إلى الوراء، بل أقدم من الصهاينة الذين أعلنوا قيام دولة إسرائيل قبل 61 عاماً ولا أبالغ إذا قلت إنها أقدم حتى من أيام تيودور هرتزل باعث الصهيونية ونبيها فى العصر الحديث ويمكن أن نعود فيها إلى عزرا نبى الصهيونية الأول الذى جمع التوراة وقاد هجرة اليهود من بابل فى العراق إلى فلسطين بعد أن أقام لهم الهيكل أو المعبد لثانى مرة وكان قد هدمه نبوخذ نصر وساق يهود فلسطين سبايا إلى العراق . وفى رحلة العودة استبعد عزرا من استبعد واختار من اختار من بين اليهود المنفيين فى العراق على أساس عنصرى ، وفى وجودهم الثانى فى فلسطين لم يستطع اليهود أن ينشئوا كيانا مستقلا لكنهم عادوا من العراق ومعهم أسطورة استلهموها من العقيدة البابلية وهى أن هناك رسولا يأتى إلى الأرض كل ألف عام لينشر فيها السلام والعدل بعد الظلم والجور، هذه الأسطورة صنع منها اليهود أسطورتهم المقدسة عن المسيح المخلَّص الذى سوف يأتى من نسل داود ليعيد إليهم ملكهم ومملكتهم ويجعلهم يسودون كل الأمم، ومع زيادة الضربات على اليهود عبر العصور المختلفة صارت هذه الأسطورة هى حلم الأجيال المتعاقبة، حتى المسيح عيسى بن مريم الذى بُعث إليهم يدعوهم إلى مملكة السماء وملكوت الله طلبوا منه مملكة الأرض وحاولوا أن ينصبوه ملكاً وقائدا حربياً، وعندما رفض ساقوه إلى الصلب!حكاية التاريخ مغرية بالاسترسال.. فلنقفز إلى الماضى القريب لنفهم كيف عاد الديناصورات إلى الحياة ؟ ومن بعث فيها الروح ؟! زواج الدين والسياسة خلال القرنين ال 18، وال 19 ظهر بين اليهود فى أوربا ما يسمى باليهودية العصرية لتقف أمام التيار الأصولى الدينى أو الراديكالى الذى تركز فى الحارات والأحياء المغلقة ليهود أوربا الشرقية.ومع اليهودية العصرية أنهى كثير من اليهود انتظارهم السلبى للمسيح اليهودى المخلص وبدأوا البحث عن تفسيرات أخرى لتحقيق الحلم المسيانى أو مجىء المسيح اليهودى لينشئ لهم مملكة اليهود فوجدوا فى النشاط الصهيونى هذا التفسير. ولم يكن نبى الصهيونية هرتزل ولا رجاله الذين اضطلعوا معه بالمشروع الصهيونى يعيرون للدين أو العقيدة اليهودية اعتبارا لكنهم كانوا يرون إنشاء دولة لليهود ضرورة اجتماعية والدليل على هذا أن فكرة إنشاء كيان سياسى يجمع اليهود دون النظر إلى العقيدة الدينية يفسرها قبول بعض الصهاينة لطرح ومناقشة اقتراح القبول بوطن بديل عن فلسطين فى أوغندا أو أمريكا الجنوبية أو سيناء لكنهم قرروا فى النهاية توظيف العقيدة الدينية لإقناع كل يهود العالم بالهجرة إلى فلسطين .ونستطيع أن نلخص نظرة الصهيونيين الأوائل للدين اليهودى كالتالى: «حيث إن اليهود شعب كسائر الشعوب على غرار النموذج الأوربى التقدمى يمكن منح كهنة الدين المكان الجدير بهم فى النطاق المحدود الذى حدده لهم هرتزل على غرار الثكنات العسكرية إلى آخره...».وعلى الأساس السابق تعاملت صهيونية العصور الحديثة العلمانية مع الديانة اليهودية التى رأت فيها فلكلور الشعب اليهودى المقدس ومن بعد هرتزل جاء بن جوريون ورفاقه ليستخدموا نفس الأسطورة أو الفلكلور ويصنعوا منها برنامجهم السياسى لدولة إسرائيل فيقرر بن جوريون حدوداً للدولة الإسرائيلية مسترشدا بمفاهيم التوراة التى لا يؤمن هو نفسه بها لأنه كان ملحدا!أكثر من هذا استخدم الصهاينة رجال الدين لنشر الفلسفة الصهيونية وعلى سبيل المثال فالحاخام الأكبر لفلسطين أيام الانتداب البريطانى واسمه إبراهام كوك دعا إلى توحيد الجسد والروح، الوطن والإيمان وبشر بالوحدة بين المقدس والدنيوى أو رجال الدين والصهاينة العلمانيين، وهكذا لبس الصهاينة الملحدون عباءة البركة الدينية لأنهم شاركوا فى المخطط الإلهى وأعلنوا اقتراب المسيح المنتظر بإنشائهم دولة إسرائيل.واستمرت اللعبة نكتفى بهذا القدر من التاريخ ونعود من حيث ابتدأنا فنقول إن لعبة استخدام الدين اليهودى لأغراض الصهيونية السياسية استمرت فى إسرائيل وزادت مع دخول الأحزاب الدينية لعبة الحكم وفرضها لدور مؤثر فى تشكيل الحكومات الإسرائيلية خلال ربع القرن الأخير على الأقل وإسرائيل التى ظل يحكمها العلمانيون منذ نشأتها إلى اليوم لم تجد لوجودها تفسيراً أو لبقائها معنى إلا فى التمسك بالقومية اليهودية، وفى أواسط التسعينيات من القرن ال 20 كوَّن البرلمان الإسرائيلى (الكنيست) لجنة لكتابة دستور لإسرائيل فاختلفت (اللجنة) هل تسمى إسرائيل دولة يهودية أم ديمقراطية وهل يتعارض هذا مع ذاك ؟!وفى مفاوضات الحل النهائى عام 2000 وضع الإسرائيليون أمام الفلسطينيين شرطين للتوصل إلى اتفاق الشرط الأول إقرار الجانبين بانتهاء أية مطالب تاريخية والثانى إقرار الفلسطينيين بيهودية دولة إسرائيل. والمعنى واضح وهو ألا يطالب الفلسطينيون بعودة اللاجئين وفى ذات الوقت يعترفون بيهودية إسرائيل! فأى عسف أو جبروت هذا؟!وبعد تفريغ أرض إسرائيل من الغرباء العرب لتحقيق تصور اليهود عن الأرض التى منحها الرب لهم ميراثاً أبدياً يتم إعلان القدس عاصمة موحدة للدولة اليهودية ولا يخفى قادة إسرائيل هذا، بل على العكس يعلنونه كل يوم فإذا ما استولوا على القدس وفرّغوها تماماً ومنعوا المسلمين من الوصول إلى مقدساتهم فمن السهل تدبير زلزال صناعى لإسقاطها والقيام فى غفلة من العالم بإنشاء المعبد الثالث على أنقاضها وليأتى بعد ذلك المسيح المخلص ملكاً لإسرائيل وربما يعلن واحدا مثل نتنياهو أو ليبرمان نفسه هذا الملك .. لا تستبعدوا أى شىء عليهم إنهم يرون أنفسهم أبناء إله إسرائيل الأنقياء يريدون أن يعيشوا فى وطن مغلق عليهم أو جيتو خاص بهم فالعنصرية تجرى فى عروقهم مجرى الدم وهم لا يدرون أن فى هذا هلاكهم!