سوف يحاسبنا الله، ويحاسبنا التاريخ، وتحاسبنا الأجيال القادمة، إذا لم نبادر بمحاسبة أنفسنا على وجه السرعة، والتحرك للخروج من تلك الحالة الغريبة التي يمر بها العالم العربي وهو يكتفي بالفرجة على ما يحدث، تاركاً مصير الأحداث في المنطقة بيد الآخرين. قبل أكثر من خمسين سنة، ومع تنامي الصحوة العربية وانهيار الإمبراطوريتين اللتين كانتا تسيطران على المنطقة (الفرنسية والبريطانية) وسعي أميركا لوراثة نفوذهما، أطلق الرئيس الأميركي أيزنهاور نظرية الفراغ، زاعماً أن هناك فراغاً في المنطقة سينشأ برحيل الاستعمار القديم، وعلى أميركا أن تملأ هذا الفراغ. وكان الرد العربي الذي جسده موقف الزعيم الراحل عبد الناصر والتفت حوله الشعوب العربية جميعها، هو أن الأمة العربية لم تقدم التضحيات في معركة الاستقلال لكي تستبدل احتلالاً باحتلال، وأن الدفاع عن الأرض العربية هو مسؤولية العرب أنفسهم، وليس بإدخالهم في أحلاف عسكرية تكون فيها السيطرة للقوى الكبرى وفي مقدمتها أميركا وللقوى الإقليمية غير العربية، وأن تأمين المنطقة يكون بالاعتراف بالحقوق المشروعة للعرب في استكمال وحدتهم وتنمية مجتمعاتهم والسيطرة علي ثرواتهم والنهوض بدولهم. بعد خمسين عاما من الصراع الهائل في المنطقة، أعادت الولاياتالمتحدة طرح نفس الفكرة من خلال مشروع «الشرق الأوسط الكبير»، حين تصور الرئيس غير المأسوف على رحيله بوش الابن، أن غزو العراق وتدميره هو البداية لإعادة رسم خريطة المنطقة لتحقيق المصلحة الأميركية التي كان يعتقد هو وإدارته أنها وحدها التي ينبغي أن تحكم مصير العالم. وقد سقطت هذه النظرية سقوطاً بشعاً، بعد أن كبدتنا وكبدت العالم وأميركا نفسها أفدح الخسائر. وجاء أوباما ليحاول إنقاذ أميركا من المستنقع الذي سقطت فيه على يد بوش، داعيا إلى شراكة مع القوى الكبرى في قيادة العالم، وإلى محاولة لمد الجسور التي انقطعت مع العالم الإسلامي، وإلى محاولة حل الصراعات في المنطقة والعالم بالتفاوض والتسويات السياسية بدلاً من الحرب. تغيرت السياسات الأميركية في المنطقة وفي العالم، وبدأت كل القوى الدولية والإقليمية في التعامل مع الواقع الجديد في المنطقة واكتساب الأوراق لترجمتها إلى نفوذ ومصالح، بينما بدا النظام العربي وكأنه قد أصبح مؤمنا بنظرية أيزنهاور في الفراغ، تاركا كل من يستطيع أن يمد نفوذه على الأرض العربية ليفعل ما يشاء! فإذا كان الغزو الأميركي للعراق قد أعطى لإيران أثمن الفرص لكي تكون اللاعب الأساسي في العراق الذي تم تدميره، فإنها لم تترك الفرصة تضيع منها، بل استثمرتها خير استثمار، ولعبت ببراعة لكي تكتسب نقاط قوة إضافية بمساندة حركات المقاومة ضد إسرائيل في لبنان وفلسطين، وبالمضي في برنامجها النووي رغم الضغوط والعقوبات والتلويح بضربة عسكرية ظل العرب يرفضونها، وكنا نستبعدها لأنها تعني إغراق المنطقة في الفوضى. ولأننا كنا نعتقد دائما أن الرهان الأميركي الاستراتيجي هو الاحتفاظ بإيران كقوة إقليمية، ومحاولة تغيير توجهاتها من الداخل أو بالتفاهم حول المصالح المشتركة للطرفين وهي كثيرة، خاصة في ظل الانسحاب الأميركي المرتقب من العراق وزيادة التورط في أفغانستان والوضع الخطير في باكستان. على الجانب الآخر تتقدم تركيا لتثبيت أقدامها كقوة أساسية إقليمية. وتتوالى المواقف التركية التي تقترب من العرب وتبتعد عن تحالفها القديم مع إسرائيل. وتبني تركيا على هذه المواقف توجهاً أساسياً، لا يكتفي باكتساب احترام الشارع العربي أو زيادة الروابط الاقتصادية والثقافية والسياسية، بل يحقق اختراقاً هاماً بالاتفاق الأخير مع سوريا على فتح الحدود وبناء علاقات استراتيجية، والسعي لتوحيد الجهد مع العراق في إطار تحالف لدول الفرات. وقد يكون الوقت مبكراً للحكم على هذه التوجهات، في ظل تباين المواقف داخل تركيا بين الحكومة المتحمسة لها والجيش بعلاقاته القديمة مع إسرائيل، وفي ظل الموقف الإيراني المترقب، وفي ظل الخلافات بين دمشق وبغداد التي أجهضت المعاهدة الاستراتيجية بين البلدين في مهدها.. ولكن ما يهمنا أن الطرفين الإقليميين الإسلاميين يتحركان من أجل مصالحهما، وأن العرب إما غائبون، وإما في حالة انتظار لما تسفر عنه التطورات بين أميركا وإيران، أو في حالة بحث عن تحالفات هم فيها الطرف الأضعف.. وفي كل الأحوال يبدو الأمر وكأن هناك إقراراً بنظرية الفراغ التي رفضناها قبل نصف قرن، حين كنا قادرين على الرفض حين يكون هو الموقف الصحيح. في ظل الفراغ العربي تتحرك تركيا وتتحرك إيران لتعزيز مواقعهما وتأمين مصالحهما، وهي مصالح يمكن أن تتكامل مع المصالح العربية، إذا كان هناك موقف عربي واحد ينطلق من إدراك أن العرب وحدهم هم القادرون على الدفاع عن أنفسهم، إذا وحدوا الجهد واستغلوا الإمكانيات لبناء قوة إقليمية عربية قادرة على مواجهة أطماع إسرائيل وعدوانها المستمر، وقادرة على إقامة علاقات التعاون مع القوى الصديقة في المنطقة، من أجل ضمان المصالح المشتركة.