نص برنامج الثورة العرابية, كما سجله بيان الحزب الوطني الأول, علي أن هذا الحزب هو حزب سياسي غير ديني. وفي ثورة1919 بقيادة سعد زغلول, عبر المصريون عن ذات الموقف بشعار الدين لله والوطن للجميع. والتف المصريون حول حزب الوفد وقيادته المدنية, وعجز تحالف السراي الملكي مع الإخوان المسلمين عن النيل من شعبية حزب الوفد. ولم تهتز شعبية جمال عبد الناصر رغم العنف الذي تعامل به مع الإخوان المسلمين. وقد انتصرت مصر بقيادة مبارك علي الإرهاب المحلي بجرائمه كما ستنتصر علي الإرهاب من الخارج. وتبقي المعركة الفكرية لإعلاء الولاء والإنتماء لمصر ودولة المواطنة المدنية مهمة جميع مسلمي ومسيحيي مصر بعد مجزرة كنسية القديسين النكراء بالإسكندرية. والواقع أن مبدأ المواطنة كان قرين الدولة المدنية في مصر الحديثة. وقد تقبل المصريون أفكار الوطنية المصرية ودولة المواطنة المدنية, والتفوا بحماس حول القيادات الوطنية, التي حملت هذه الأفكار, بعد قرون من الانضواء تحت قيادات دينية, وصارت مصلحة الوطن بالنسبة لهم تسبق تمايزهم الديني, الذي بقي في وجدانهم أمرا شخصيا بين المرء وربه. ويسجل الدكتور طاهر عبد الحكيم, في كتابه المهم الشخصية الوطنية المصرية.. قراءة جديدة لتاريخ مصر, أن الدور العسكري السياسي الذي لعبه محمد علي باسم مصر تحت شعار القومية العربية في مواجهة الخلافة العثمانية قد أسهم في استعادة معني الكيان السياسي الوطني المستقل لها. وكان إدخال محمد علي اللغة العربية لتحل محل اللغة التركية كلغة للمعاملات الرسمية خطوة مهمة نحو استعادة الملامح الوطنية لمصر. وأعادت معاهدة1840 التي أعطت أبناء محمد علي حق وراثته في حكم مصر لمصر كيانها الجغرافي السياسي المحدد. وكان من أهم ما ترتب علي سياسات محمد علي الاحتكاك الواسع بالثقافة الغربية, سواء من خلال البعثات الي أوروبا أو من خلال الخبراء الأوروبيين في مصر. وقد فتحت البعثات العلمية بابا نفذت منه فكرة دولة المواطنة المدنية, خاصة من خلال ترجمات وبعض مؤلفات رفاعة الطهطاوي, والشيخ حسين المرصفي. وكانت إنجازات الطهطاوي الفكرية تدور حول الوطن والأمة. وأصبح الوطن في فهم الطهطاوي حقيقة جغرافية وتاريخية وحضارية. ولم ير الطهطاوي مصر كحقيقة حضارية بدأت فقط مع الفتح العربي الإسلامي, وبدأ وتلامذته يكتبون تاريخ مصر منذ بداية أيام الفراعنة. وكانت إنجازات الطهطاوي الفكرية فيما يتعلق بالوطن والأمة ونظرته المدنية للعلاقة بين الشريعة والقوانين الطبيعية بدايات نسج عليها مفكرو الثورة العرابية, وكان لها أثرها في تشكيل إرهاصات هذه الثورة. وهكذا, يقول بيان الحزب الوطني الصادر في4 نوفمبر1879: إن المسلمين والنصاري واجميع من يرث أرض مصر ويتكلم لغتها إخوان, وحقوقهم في السياسة والشرائع متساوية. وأما عبد الله النديم فيضع المسألة بوضوح أكثر: العيش الكريم في ظل الاستقلال والانتشار الشامل للوطنية هو أفضل من العيش المهين ولو كان في ظل وحدة العقيدة. وفي عديد من مقالات وخطب النديم تأكيد علي أن الوحدة الوطنية أهم من الوحدة علي أساس الدين, وأن الروابط القومية أقوي من الاختلاف في العقيدة الدينية. ولدي مفكري الثورة العرابية لم نعد بإزاء مسلمين وذميين كما كان الحال عند الطهطاوي, ومهما كانت درجة التسامح والحرية اللتين كان يطالب بهما للذميين بل نحن بإزاء مواطنين مصريين مدعوون إلي الوحدة والترابط بصرف النظر عن الانتماء الديني. وبعد أربع سنوات من صدور كتاب المرشد الأمين للطهطاوي يستهل مجلس شوري النواب الثاني رده علي خطاب العرش بالقول: نحن نواب الأمة المصرية ووكلاؤها المدافعون عن حقوقها, الطالبون لمصلحتها. وكانت كلمة الأمة عندما ظهرت في الفكر الاجتماعي والسياسي المصري في القرن التاسع عشر تعني علي وجه التحديد الأمة المصرية. وحسم مجلس شوري النواب الثاني هذا الأمر عندما تحدث أعضاؤه باعتبارهم نواب الأمة المصرية. وعندما قال أحمد عرابي لتوفيق في ميدان عابدين: نحن هنا باسم الأمة كان يعني الأمة المصرية. وحينما تعرض الشيخ محمد عبده لموضوع الأمة, في بيان الحزب الوطني, كان واضحا وضوحا لا لبس فيه أن الأمة التي يعنيها هي الأمة المصرية, وكذلك حينما تحدث عنها عبد الله النديم. وفي ثورة1919 وما بعدها, وحينما كان حزب الوفد بقيادة سعد زغلول يتحدث عن نفسه باعتباره وكيل الأمة, أو أنه هو الأمة, كان يعني الأمة المصرية. وفي تطور فكرة الأمة المصرية ودولة المواطنة المدنية لعب الإمام جمال الدين الأفغاني دورا مهما. وهو يتحدث عن المصريين باعتبارهم أمة فيقول في كتابه الخاطرات: إذا اتحد المصريون ونهضوا كأمة لا تري بدا من استقلالها فبشر المصريين بأحسن المآل ونيل الاستقلال. وهو مؤمن بالوطنية المصرية, ويذكر من مناقب المصريين أنه كان لهم زمن أحس فيه كل واحد بنسبته من الآخر بأنه: وطني مصري! ويقول الأفغاني في الخاطرات: أما اختلاف أهل الأديان فليس هو من تعاليمها ولا أثر له في كتبها, وإنما هو من صنع بعض رؤساء تلك الأديان الذين يتجرون بالدين. وأعلن الأفغاني أن التشريعات تتبدل بتطور الزمان, وأنه من الخطأ الذي لا يغتفر الجمود والوقوف عند أقوال أناس هم أنفسهم لم يقفوا عند أقوال من تقدمهم, وكان يوجه نقده هذا للقائلين بأن باب الاجتهاد قد أغلق بعد الأئمة الأربعة. وعند جمال الدين الأفغاني مصدر قوة الأمة هو في تمسكها بالأصول الجوهرية, أما مصدر ضعفها فهو تغليب الخلافات الفرعية, ولذلك كان يركز علي الوحدة الوطنية في المصالح العامة. وكان الأفغاني أول من صاغ عبارة مصر للمصريين التي صارت شعارا للثورة العرابية وللحركة الوطنية التالية لها بقيادة مصطفي كامل. وعلي طريق ترسيخ فكرة دولة المواطنة المدنية, أصدر الشيخ الإمام محمد عبده أحد أهم أحكامه حين قال: علمت أن ليس في الإسلام سلطة دينية سوي سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلي الخير والتنفير من الشر. وفرضت هذه الفتوي المهمة الحصار مبكرا علي الدعوي السلفية التي حمل لواءها الشيخ رشيد رضا والقائلة بأن الإسلام دين ودولة, كما كانت سلاحا أساسيا في المعركة التي بدأها الشيخ علي عبد الرازق في كتابه الإسلام وأصول الحكم في عام1925 ضد محاولة الملك فؤاد وهيئة كبار العلماء في الأزهر, والشيخ رشيد رضا, بدفع ودعم من الإنجليز, لنقل الخلافة إلي القاهرة بعد أن أسقطها كمال أتاتورك في إسطنبول, ووقف الشيخ رشيد رضا, الأب الروحي للإخوان المسلمين, بقوة إلي جانب الملك فؤاد. وتبقي المعركة الفكرية ضد دعاة دولة الخلافة وزمرة أعداء المواطنة ومن أجل إعلاء الولاء والإنتماء الوطني مهمة مستمرة لمسلمي مصر. كما يبقي علي مسيحيي مصر أن يخوضوا معركتهم الفكرية ضد نزعة الدولة الكنسية وزمرة الاستقواء بالخارج علي حساب الانتماء والولاء الوطني. ولا أشك قط في انتصار مصر والمصريين لإعلاء دولة المواطنة, لأن هذا الانتصار حليفهم طوال تاريخهم الألفي. وقد بقيت الوحدة السياسية لمصر, فلم تعرف القسمة لا طولا ولا عرضا, وبقيت الوحدة الوطنية ركيزتها, منذ كون المصريون أول أمة علي وجه الأرض, ولم يقوضها التمايز الديني رغم تعدد المعتقدات الفرعونية القديمة, كما قدمت نموذجا فريدا لتعايش الأديان السماوية لن ينجح في اختراقه أهل الكهف!