في مقدمة كتابه التي جاءت تحت عنوان " لماذا نقد العقل المصري" يقول د. زين عبد الهادي: ما هي تركيبة العقل المصري الآن؟... هذا العقل الذي أصبح عُمره يربو على النصف قرن، هذا إذا اعتبرنا أن ثورة يوليو هي العقل الجديد المعاصر الذي بدأ منه المصريون في القرن الماضي حين شعروا بأن الوطن وطنهم، وبأن هناك ما يسمى بالحرية والعدل والمساواة والحق، لنكتشف بعد سنوات من التجارب والخطايا المتوالية، أن حبنا كان للكلام وليس للفعل، فنحن لم نتخلص من الملكية، ولم نتخلص من الإقطاع، ولم نتخلص من الاستعمار، لقد استبدلنا الأقنعة فقط، تغيرت الوجوه، إلى وجوهٍ من أبناء الوطن كانتْ أسوأ في تعاملها مع أبناء جلدتها... لقد ارتكبت الجمهورية الخطايا نفسها التي اُرتكبتْ في عهد الملكية. هل يمكن أن أصدق بأن أزمتنا كانت إدراك العلاقة بين الحرية والديمقراطية، وبأن حريتنا المنتظرة كانت تُمضغ دائمًا بين فكيّ أصحاب السلطة والمثقفين؟! لقد أخذنا نفكر طويلاً فيما وفيمن سنتوجه إليه بالنقد، وهي نفس الحيرة التي تملكتْ تاريخًا طويلاً من البشر حين فكروا، هل العقل فقط هو الذي يستحق النقد، هل نضم إليه الإحساس والمشاعر؟ هل نضم إليه كذلك إرادة المصريين؟ هل هي كل ذلك؟ هل هو ميراثنا الطويل من السكينة؟ بشكل عام لقد تكلمنا في ذلك جميعًا، لكن العقل كان هو المرصود، بسبب معرفته المتشابكة، والتي أدتْ في النهاية إلى العديد من الضلالات التي أعتقد أنها لوّثت جذور هذا العقل، فوصل إلى هذه الحالة من التراخي واللا مبالاة، أو إلى أقصى حدود عبقرية الانحراف، أو إلى المشاركة المحمومة في تدمير الذات. لماذا يحدث ما يحدث؟ قرأتُ الكثير من الكتب والمقالات لمفكرين مصريين وعرب وغربيين، ومع ذلك لم أستطع الاهتداء للسبب الحقيقي وراء كل ما يحدث، كان الجميع يحاول تبرير ما فعله الجميع، بشكل فئوي ومتضامن، ومع ذلك لم يقل لنا أحد ما هو الصواب، نرجسية الفكر كانت هي المسيطرة، سأستعير تلك الجملة التي أشار إليها (عادل حمودة) في كتاب نشره في منتصف الثمانينيات عن أزمة المثقفين مع (عبد الناصر)، كانت ل(عبد الناصر)، حين كان يحاول البحث عن مخرج لكل ما يحدث محاولاً الاستعانة بآراء الحكماء والعقلاء، كان دائمًا يفاجأ بأن كل من كان يتحدث معه في تلك الفترة البعيدة من تاريخ الوطن يقول له كلمة "أنا"، "أنا الحل"، "الحل عندي"، "أنا أرى". أليس هذا تقريبًا ما يحدث الآن؟ أم أننا نكرر أخطاء الماضي التي حاول أحدهم أن يُخلصنا منها لكنه لم يستطع لأن الجرذان تعود دائمًا لنفس البالوعة. منذ زمن ونحن لا نرى سوى "أنا" فقط ولا شيء آخر، تتبعتُ كل الطرق والخطوات، وقلتُ لعلي أنا الآخر واحدٌ من الذين تعلموا رفضَ أفكار الآخرين دون أن يتفحصوا فيها، وأقلقني هذا التصور، وعدتُ لأبُدي قناعتي بالعديد مما تمت كتابته من قبلُ حول أوضاع المصريين، إنها وجهات نظر مختلفة بعضها صحيح وبعضها يعوزه الصواب، وربما أكون واحدًا من هؤلاء، إذن فأنا لا أملك سوى أن أقدم رأيي دون أن أجزم بأنه صحيح ). ويقول أيضًا د. زين عبد الهادي: ( إنني لا أكتب هذا العمل لأنفض يدي مما يحدث في مصر الآن وأعطي ظهري لوطني، أنا أكتب هذا لأتفحص فيه كل صباح بأن هناك وطنًا أحبه وأتمنى له - رغم كل ما فيه - أن يصبح الوطن الأول في العالم في كل مؤشرات التنمية، أتطلع لأن تختفي منه المعتقلات، والترزية، أن يختفي حكم الفرد، أن تختفي اتهاماتنا لبعضنا البعض بدون سبب، أتطلع بأن أتنفس فيه هواءً نظيفًا، وأن أسير في شوارع نظيفة تملؤها الورود والأشجار، أن لا أجد شحاذًا ينتظر على قارعة الطريق، أتطلع أن نصبح جميعًا أصدقاء، وأتطلع بأن نعطي كل ما لدينا وليس بقدر ما نأخذ نعطي، أتطلع لأشياء كثيرة جميلة.. فهل هذا كثير؟
وعلى ذلك فأنا أتوجه بهذا العمل البسيط إلى الناس، إلى العمال والفلاحين وسائقي التاكسي وربات البيوت والتلاميذ والطلاب، إلى الأجيال الجديدة الناشئة، إلى كل من يريد أن يساعد في إعادة بناء وطن جميل، له في التاريخ والثقافة والعلم والفن فتوحات لن يستطيع أحد أن يُهيل عليها التراب أبدًا... أبدًا. أؤمن أيضًا بأن الحروف لا تُغير المعالم لكنها تنير الطريق، فلا يمكن وضع روشتة سياسية وإصلاحية في بضع أوراق، لكن يمكننا الإشارة إلى مكمن العلة ومن ثم وضع خطوط عريضة لما يمكن أن نقوم به جميعًا، ولما يمكن أن أبدأ به مع نفسي. سأبدأ من المقولة الأولى للفلسفة، أو الفلسفة اليونانية على وجه التحديد: "لا أعرف سوى شيء واحد، وهو أنني لا أعرف شيئًا"، سنبدأ من الإنسان ونترك المؤسسة للمسؤولين عنها، ليس بحثًا عن تفسير للسلوك الفردي أو المؤسسي ولكن بحثًا في الجذور، ليس بهدف العلاج، فهناك بعض الأمراض التي استفحلت وأصبح علاجها مستحيلاً، وربما يكون علاجها الوحيد هو البتر من جسد الوطن، وإذا كان الأمر لن يستقيم إلا بهذا فمرحبًا بالتضحية بجزءٍ من الوطن من أجل الحفاظ على بقية الوطن، وهذا الجزء لن يكون إلا بعض القيم الجديدة القديمة الخبيثة التي حان وقت اقتلاعها من الصدور ليعود الوطن وطنًا للجميع ).