إضافة كلية طب العريش إلى منصة «ادرس في مصر» بكافة تخصصاتها    يورتشيتش يمنح لاعبى بيراميدز إجازة 10 أيام بعد التأهل لمجموعات أبطال أفريقيا    مدرب مانشستر يونايتد يكشف أسباب التعادل مع كريستال بالاس    هل يُمكن استخدام السيارات الكهربائية في عمليات تفجير عن بُعد؟.. خبير سيبراني يوضح    وزير الخارجية: نرفض أي سياسات أحادية للمساس بوحدة أراضي الصومال    أحمد موسى: حزب الله معندوش قرار حتى الآن لضرب معسكرات الجيش الإسرائيلي    عبد العاطي يلتقي وكيلة السكرتير العام للأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية    المحطات النووية تدعو أوائل كليات الهندسة لندوة تعريفية عن مشروع الضبعة النووي    نائب محافظ قنا: مبادرة «بداية جديدة لبناء الإنسان» تعزز مقومات التنمية الشاملة    هل تشهد مصر سيول خلال فصل الخريف؟.. خبير مناخ يوضح    التحريات تكشف ملابسات مصرع ابن المطرب إسماعيل الليثي في الجيزة: سقط من الطابق العاشر    مياه الأقصر تنفي انقطاع المياه أو تلوثها داخل المحافظة    انطلاق فعاليات المرحلة الخامسة لمسرح المواجهة والتجوال من قنا    حصلنا على التصريح من الرقابة.. منتج فيلم «التاروت» يكشف حقيقة مشهد خيانة رانيا يوسف لحبيبها مع كلب    تجديد الثقة في المخرج مسعد فودة رئيسا لاتحاد الفنانين العرب بالتزكية    أحمد سعد يعود لزوجته: صفحة جديدة مع علياء بسيونى    قناة «أغاني قرآنية».. عميد «أصول الدين» السابق يكشف حكم سماع القرآن مصحوبًا بالموسيقى    قرارات عاجلة من إدارة الأهلي بعد التأهل لمجموعات أفريقيا قبل مواجهة الزمالك    حزب المؤتمر: منتدى شباب العالم منصة دولية رائدة لتمكين الشباب    موسم شتوي كامل العدد بفنادق الغردقة.. «ألمانيا والتشيك» في المقدمة    "علم الأجنة وتقنيات الحقن المجهري" .. مؤتمر علمي بنقابة المعلمين بالدقهلية    فصائل فلسطينية: استهداف منزلين بداخلهما عدد من الجنود الإسرائيليين ب4 قذائف    تعرف على أهداف منتدى شباب العالم وأهم محاوره    الحكومة تكشف مفاجأة عن قيمة تصدير الأدوية وموعد انتهاء أزمة النقص (فيديو)    بلقاء ممثلي الكنائس الأرثوذكسية في العالم.. البابا تواضروس راعي الوحدة والاتحاد بين الكنائس    هل يمكن أن يصل سعر الدولار إلى 10 جنيهات؟.. رئيس البنك الأهلي يجيب    عبدالرحيم علي ينعى الشاعر أشرف أمين    بيكو للأجهزة المنزلية تفتتح المجمع الصناعي الأول في مصر باستثمارات 110 ملايين دولار    السجن 6 أشهر لعامل هتك عرض طالبة في الوايلي    تدشين أول مجلس استشاري تكنولوجي للصناعة والصحة    إيطاليا تعلن حالة الطوارئ في منطقتين بسبب الفيضانات    كاتبة لبنانية لإكسترا نيوز: 100 غارة إسرائيلية على جنوب لبنان وهناك حالة توتر    شروط التحويل بين الكليات بعد غلق باب تقليل الاغتراب    فتح باب التقديم بمسابقة بورسعيد الدولية لحفظ القرآن الكريم والابتهال الدينى    توتنهام يتخطى برينتفورد بثلاثية.. وأستون فيلا يعبر وولفرهامبتون بالبريميرليج    وكيل صحة شمال سيناء يتفقد مستشفى الشيخ زويد المركزى ووحدات الرعاية    وزيرة التنمية المحلية تعلن انتهاء استعدادات المحافظات لاستقبال العام الدراسي 2024-2025    بلد الوليد يتعادل مع سوسيداد في الدوري الإسباني    الاستخبارات الهنغارية تؤكد أنها لم تنتج أجهزة "البيجر" التي تم تفجيرها في لبنان    إصابة 3 أشخاص في حادث تصادم «توك توك» بدراجة نارية بالدقهلية    بالصور.. إصلاح كسر ماسورة مياه بكورنيش النيل أمام أبراج نايل سيتي    علاج ارتفاع السكر بدون أدوية.. تناول هذه الفاكهة باستمرار للوقاية من هذا المرض    اليوم العالمي للسلام.. 4 أبراج فلكية تدعو للهدوء والسعادة منها الميزان والسرطان    بطاقة 900 مليون قرص سنويًا.. رئيس الوزراء يتفقد مصنع "أسترازينيكا مصر"    بداية جديدة لبناء الإنسان.. فحص 475 من كبار السن وذوي الهمم بمنازلهم في الشرقية    حزب الله يعلن استهداف القاعدة الأساسية للدفاع الجوي الصاروخي التابع لقيادة المنطقة الشمالية في إسرائيل بصواريخ الكاتيوشا    هانسي فليك يفتح النار على الاتحاد الأوروبي    المشاط تبحث مع «الأمم المتحدة الإنمائي» خطة تطوير «شركات الدولة» وتحديد الفجوات التنموية    ضبط شركة إنتاج فني بدون ترخيص بالجيزة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 21-9-2024 في محافظة البحيرة    توجيهات عاجلة من مدبولي ورسائل طمأنة من الصحة.. ما قصة حالات التسمم في أسوان؟    اسكواش - نهائي مصري خالص في منافسات السيدات والرجال ببطولة فرنسا المفتوحة    حكاية بطولة استثنائية تجمع بين الأهلي والعين الإماراتي في «إنتركونتيننتال»    فيديو|بعد خسارة نهائي القرن.. هل يثأر الزمالك من الأهلي بالسوبر الأفريقي؟    مريم متسابقة ب«كاستنج»: زوجي دعمني للسفر إلى القاهرة لتحقيق حلمي في التمثيل    «الإفتاء» توضح كيفية التخلص من الوسواس أثناء أداء الصلاة    "ألا بذكر الله تطمئن القلوب".. أذكار تصفي الذهن وتحسن الحالة النفسية    ضحايا جدد.. النيابة تستمع لأقوال سيدتين يتهمن "التيجاني" بالتحرش بهن في "الزاوية"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في ظل عقيدتها القائمة علي الهيمنة : أمريكا عدو . أم عدو!؟
نشر في مصر الجديدة يوم 02 - 07 - 2013

إن الهيمنة الأمريكية، بهذا الاندفاع المحموم، وهذا الهيجان المتغطرس، مهما تعددت تفسيراتها، فإنه يصعب أن تكون في منأى عن التطلعات أو الطموحات الصهيونية، المسكونة بروح الانتقام، والمستندة إلى المستوى المتردي لفكرة انعدام الثقة في المستقبل، ما لم يكن ذلك المستقبل تحت سيطرتها المطلقة، دون غيرها، وما لم يكن مرتهناً في قبضتها الحديدية هي، وليس أي أحد سواها. ومن منظور آخر فإن تقاطع المصالح الإسرائيلية مع الأمريكية أمر يُعد من السهل جداً إدراكه. فإسرائيل لا تتوقف عن لعب الدور الذي حدده لها مؤسسها الروحي ثيودر هرتزل، وهو أن تكون "حصناً متقدماً للحضارة الغربية في مواجهة بربرية الشرق". وبرنامج إسرائيل هو "تفكيك الدول المجاورة من النيل إلى الفرات بمقتضى ما جاء في نشرة "كيفونيم" الصادرة عن المنظمة الصهيونية العالمية. وليس هناك أفضل من ذلك ليلتقي مع أطماع السيطرة العالمية للولايات المتحدة ولا سيما في النقطة الأكثر حساسية لحدود الإمبراطورية الأمريكية، وهي منطقة الخليج العربي، حيث توجد أغنى منابع النفط الذي سيظل عصب التنمية الغربية لعدة قرون قادمة. إن الخليج، في النتيجة، هو أكبر مستودع للاحتياطات النفطية، وبالتالي فهو نقطة مفصلية في أمر السيطرة على العالم، وكيسنجر هو صاحب نظرية "تفتيت المنطقة" وتقسيم دولها، وتقاسم خيراتها، وتجزئة الحلول السلمية بينها وبين إسرائيل، لضمان السيطرة الكاملة عليها، وبالتالي السيطرة على العالم. ويقول كيسنجر: " المصلحة القومية تكمن في مقاومة جهود أي قوة تريد الهيمنة على آسيا، وينبغي أن تكون أمريكا مستعدة للقيام بذلك من دون حلفاء إذا لزم الأمر". وهذا هو ما يحدث اليوم بالفعل، فأمريكا تقوم بغزواتها المظفرة في المنطقة، دون حاجة إلى حلفاء (عدا بريطانيا واستراليا!)، ودون حاجة إلى شرعية تسوغ لها فعلها. وفي هذه الأثناء، وفي إثر التصريحات المتكررة للإدارة الأمريكية، منذ أحداث 11 سبتمبر، حول ضرورة إصلاح الأوضاع السياسية والثقافية في المنطقة، صدر في بيروت كتاب جديد للدكتور فهد العرابي الحارثي بعنوان "أمريكا التي تعلمنا الديمقراطية والعدل" وقد جعل المؤلف عنواناً فرعياً للكتاب هو: (تأملات في سلوكات البطل: من الهندي "القذر" إلى العربي "الكريه" إرهابياً ماثلاً ومحتملا)، والكتاب مقسم إلى ثلاثة عشر فصلاً وملحقين وكشافين للأعلام والأماكن، ويقع في أربعمائة واثنين وتسعين صفحة (492) من القطع العادي. وقد أشار المؤلف في "مقدمة" الكتاب إلى بعض ما أسماه بالمسلمات التي قلَّما يختلف حولها أحد، ومنها: إن المنطقة العربية تحتاج إلى برنامج طويل من الإصلاحات السياسية والاقتصادية، والثقافية. ولا يجب التعامل مع فكرة الإصلاحات على أنها، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، دليل، بالضرورة، على التقصير أو الإهمال أو عدم الإكتراث، بل إن الصحيح هو أن الإصلاح دينامية وحيوية مستمرة ينبغي أن تكون دائماً نشطة، مهما تعاظم رصيد الأمة في الفلاح والقوة. كما أن قيم العدل، والحرية، والديمقراطية، هي قيم مليئة بالإغراءات البهيجة، وما من أحد يستطيع أن يقاوم مفاتنها ولذائذها، مُذْ هي مجرد أفكار، إلى أن تصبح ممارسة طبيعية، ومعاشاً يومياً للناس، في أي مكان، وفي أي زمان. والشعوب عموماً تقترب أو تبتعد من، أو عن، مثل هذه المسلمات طبقاً لما يتوفر لها من الحظوظ والفرص. نحن اليوم، في هذه المنطقة من العالم لنا مشكلة مع الولايات المتحدة الأمريكية، ومع الديمقراطية والعدل عندما يقترنان بها، وهي مشكلة يمكن النظر إليها من خلال مستويات عدة: ومن تلك المستويات أن الولايات المتحدة دأبت، منذ نشوئها، على الاعتقاد بأن قيم العدل والحرية والديمقراطية ما هي إلا قيم "أمريكية" خالصة.. وبامتياز.. وبمعنى ما فإن الثقافات الأخرى ليست على شيء من كل ذلك، أو أنها إن كانت على شيء من ذلك فهو لا يمكن بحال أن يرقى إلى مستوى المفهومات أو الممارسات الأمريكية في هذا الخصوص. والولايات المتحدة عندما لا تجد مبرراً عسكرياً، مفتعلاً غالباً، للتوسع والهيمنة فهي تلجأ إلى فكرة الديمقراطية، أو أنها تتذكر فجأة أحد أهدافها "النبيلة!" في هذا العالم، وهو السعي الدائم إلى تخليص الناس من مظالم أنظمتهم، وهذا بالتحديد ما سمعناه وما نسمعه مؤخراً من مسؤولين أمريكيين في مناسبات مختلفة تجاه الأنظمة التي لا تروق لهم، أو التي تكون قد أدرجت سلفاً على الأجندا الأمريكية الطويلة المفعمة، هي نفسها، بالمظالم وانعدام العدل. ونحن قرأنا في تاريخ الولايات المتحدة، القديم والحديث، أنها في كل تدخلاتها، خارج الحدود الأمريكية، لم يكن هدفها، في أي يوم، نشر الديمقراطية، أو تعميم العدل، أو دعم الحرية. أن الأهداف الحقيقية التي من أجلها تتحرك الجيوش الأمريكية، كانت دائماً أهدافاً أخرى تخص المصالح السياسية والاقتصادية للولايات المتحدة، ولا شيء غير ذلك. لا، بل إن دولة الديمقراطية والعدل هذه عملت في كثير من الأحيان على الإطاحة بأنظمة "منتخبة" لأنها تزعجها، أو لأنها لا تراعي مصالحها، أو لا تطيع أوامرها، وقد نصَّبت في مكان تلك الأنظمة ديكتاتوريات عسكرية باطشة لأنها تتعاون معها، ولأنها تساعد على تمكينها من كل ما تريد.. لكل ذلك، نحن في المنطقة العربية، مأخوذون بحلاوة الديمقراطية والإصلاحات، ولكننا مرتابون جداً من اليد الملوثة التي تمتد نحونا وهي تزعم أنها ستمكننا من مفاتيح الفردوس، وخاتم سليمان، وعصا موسى التي ستبتلع الظلام لتلد النور والفجر البهيج!.. وليس هناك من شيء، ولو واحد فقط، يحملنا على الاطمئنان إلى النوايا الأمريكية. نحن في المنطقة العربية نريد الديمقراطية، ونروم العدل، ونتطلع دائماً إلى أن نكون من ذويهما، ومن المنتسبين إلى بلاطهما، ولكن الإلحاح الأمريكي، أو الدعم الأمريكي، هو المشكلة، فمن هي اليد التي تمتد إلينا ملوحة بمزيد من تلك الديمقراطية ومزيد من ذلك العدل ؟! أن التدخل الأمريكي في الإصلاح أصبح أمراً مثبطاً ومعرقلاً، على مستوى القوى الشعبية، أكثر منه دافعاً، أو مشجعاً. وهو "تهمه" أكثر منه "خبرة" ونوايا طيبة. وعلى الرغم من كل شيء فلا سبيل إلى التقليل من أهمية الإصلاح وضرورته، فهو السبيل القويم للأنظمة التي تشعر بمسؤولياتها الكبرى تجاه شعوبها. وهو مهم، اليوم تحديداً، لقطع الطريق على من يريدون أن يتخذوا منه طريقاً إلى الوصول لأهداف أخرى لا تصب إلا في مصلحتهم، هم وحدهم. ولابد، في النهاية، أن نتحلى بقدر كبير من الشجاعة لتجاوز مجمل الحساسيات المصاحبة للإصلاح. فالخيار الذي نأخذ به لا ينبغي أن يكون خيار الرضوخ لتلك الحساسيات، والارتهان لمضاعفاتها وهواجسها، والإذعان لما تثيره من مخاوف وحسابات ليست دائماً دقيقة أو صحيحة، فنرجئ، بناء على ذلك، الإصلاحات، لنترك بهذه الطريقة الباب الذي سيدخل إلينا منه الخصوم مشرعاً. إن الثقة بالنفس مهمة، وإن الإصلاحات في حد ذاتها مهمة جداً هي الأخرى. أن ننظر إلى مجمل الأوضاع الدولية الراهنة من حيث علاقتها بما جرى ويجري عندنا أو بسببنا، ولاسيما إذا اقتنعنا فعلاً بأن منطقتنا قد أصبحت اليوم بؤرة الأحداث الكبرى المجلجلة، سواء أنتجتها هي، أو كانت، بالمقابل، هدفاً صريحاً لها. لقد زاد في حجم الاهتمام بهذه المنطقة مؤخراً، ورفع من مستوى التركيز عليها، فجعلها "محوراً" للمتغيرات التي طرأت على العالم كله، ومرتكزاً للمستجدات التي أثرت بالغ الأثر في مسيرته، (وهي مازالت تؤثر) الجريمة الإرهابية التي حدثت في 11 سبتمبر، واستهدفت الولايات المتحدة الأمريكية، ملحقة أبلغ الأضرار المادية والبشرية بالعاصمتين السياسية والاقتصادية للقوة الأعظم (واشنطن ونيويورك) وما كان لتلك الجريمة أن تبقى مجرد حدثٍ محلي، يخص الأمريكيين وحدهم، بل إن طبيعة تكوينها (العناصر والأفكار الأهداف) جعلت من تلك الجريمة حدثاً عربياً أيضاً من جهة، باعتبار أن المنفذين كانوا من العرب، وجعلت منها أيضاً حدثاً دولياً، لأنها كشفت عن الحجم الحقيقي لخطر ماحق، من شأنه أن يهدد أمن الجميع، ومن شأنه أن يضع السلام العالمي كله على حافة الخطر، ونعني الإرهاب. وبناء عليه فقد تحولت المنطقة العربية إلى نقطة ساخنة، مفتوحة لمختلف أنواع التحديات والصراعات والحروب، فأصبح أي تغيير أو تطوير أو تحوير في النظام العالمي بكامله، أو، على الأقل، في ما يخص "الإصلاحات" التي تحتاج إليها بعض البلدان المتهمة بتنمية الإرهاب، لابد له أن يمر عبر السياقات التي خلّفتها أحداث 11 سبتمبر ومن خلالها. فإعادة ترتيب العالم، وإصلاحه، وتخليصه من أمراضه، تبدأ من هنا، فصار العرب (أو المسلمون) هم الهدف أولاً، وهم الوسيلة ثانياً. هم الهدف لمشروع التغيير والإصلاح في ذاتهم، وهم الوسيلة، من بعد ذلك، وكما تريد أمريكا، إلى إعادة ترتيب العالم وفق المنظور الأمريكي الخاص، بحيث يؤدي ذلك إلى العودة بقوة إلى العقيدة الأمريكية القديمة، في ضرورة أن تقود الولايات المتحدة العالم، أو بتعبير أدق تهيمن عليه بكامله، رضي من رضي، وغضب من غضب. وفي النتيجة فقد فتحت أحداث 11 سبتمبر حقل خيارات واسع أمام الولايات المتحدة للمضي في دعم وتأكيد سيادتها على العالم، وهيمنتها على مستقبله. إن الباحث هنا سعودي وعربي ومسلم، وهو بناء عليه، من أقرب الأقربين للظى تلك الأحداث، ولتفاعلاتها المختلفة، ولاسيما فوق ساحته المحلية والإقليمية، قبل الدولية. وهو سيقرأ نتائج أحداث 11 سبتمبر من هذا المنطلق، معيداً بعض الأفكار إلى جذورها التاريخية أو السياسية أو الثقافية أو الموضوعية. ومن المتعذر فهم الكثير مما يجري في العالم اليوم دون العودة إلى الجذور البائسة التي اقتلعها الزلزال العنيف من عمق الأرض، ثم جعلها عارية للشمس، ذلك الزلزال الذي أطلق يد الولايات المتحدة في عالم اليوم، لتؤكد تقاليد السياسة الإنفرادية "العنيدة" كما وصفها بوش مؤخراً للرئيس الفرنسي جاك شيراك، فالولايات المتحدة هي التي تقرر الحرب وتقرر السلم، وهي التي تختار المكان، وهي التي تحدد الزمان، وهي التي ترسم الإيقاع المطلوب لنظام العلاقات الدولية، وهي التي ستدخل إلى ذلك النظام "الأخيار" المنضبطين، وستخرج منه "الأشرار" الذي يهددون أمن العالم!! أن العالم العربي، ونتيجة لما يواجهه من العقوبات والاعتداءات والتهديدات، فقد بلغ من الإنهاك والاختلال ما ردّه الآن إلى أسوأ ظروفه السياسية والاقتصادية، مما لم يشهد له مثيلاً في كل تاريخه الحديث أو القديم. وذلك لم يكن يعني سوى شيء واحد، وهو تحقيق أهم أهداف إسرائيل، بأن يصل محيطها العربي إلى ما وصل إليه اليوم من الضعف والخور والتردي، والأجيال العربية تعلم يقيناً أن ذلك إنما يتم بمباركة ودعم من أمريكا ذاتها. وهكذا تستطيع إسرائيل، من خلال عملائها في واشنطن، أن تُقصي الولايات المتحدة عن موقعها المحتمل في وجدان العالم بما تبدو عليه من غطرسة وبطش وإنفراد بتقرير مصير الكوكب. كما إنها — أي إسرائيل — تستطيع أن تقصي الولايات المتحدة أيضاً عن أي فرص ممكنة للتقارب مع العرب (والمسلمين) وهم مَنْ كانوا، من أوائل المفتونين بمنجزها الحضاري والثقافي، لتصبح هكذا رهينة ذليلة للصهيونية، بعد أن فقدت كل صلة منصفة لها بالآخرين. إن الخطاب المناقض الصادر من العرب، باتجاه الغرب، لا ينتمي، في نظر الغرب نفسه، إلى خلاف في الأفكار، وهو ليس مجرد تعبير متوخى، أو متوقع، يصدر، في العادة، نتيجة تنوع في الأيدلوجيا أو تعدد في الثقافة، كما كان يظن في السابق، بل هو، وكما عبرت أحداث 11 سبتمبر، خطاب عدائي ينتمي إلى "عقيدة" أصيلة، ظلامية، منغلقة، تبطل أي فرص للتعايش بين الطرفين!! وفي مواجهة هذه الحملات، لا السعوديين، ولا العرب عموماً، استطاعوا أن يضعوا أمام الرأي العام الأمريكي البديل القوي المؤثر. فالبديلُ إما أنه كان خجولاً، متردداً، ضعيفاً، وبالتالي غيرَ مؤثر، فلم يكتب له أيُّ لون من ألوان الصمود، في وجه الأمواج الهادرة العاصفة، التي احتكرت بالفعل عقول الناس خلال هذه الأزمة. أو أنه — أي البديل — كان إنفعالياً، دعائياً، ليس على شيء من الرصانة المنهجية، وهو يقترض من الخطابين، الثوري والإسلاموي، أسوأ ما فيهما من إنشاء وخطابية، دون الولوج إلى عمق الخلافات والاختلافات، فالغرب هو مجرد الإمبرياليةُ المقيتة، وهو
المستأثرُ بخيرات الأرض كلها، وهو الذي يعمل على زيادةِ الفجوة بين أغنياءِ الغرب وفقراءِ الشرق، وهو المتطلع إلى مزيد من الهيمنة على مقدرات الشعوب ومصائرها. والغرب هو "المؤامرة" والغزو الفكري. والغربُ هو ذلك الشرير الأرعن، الممتلئُ بالمفاسد والموبقات، الذي يريد أن ينشر رذائله وانحلالاته بين الناس في كل مكان، فهو في عبارة واحدة: الشيطان الأكبر الذي تجب مقاومته دائماً. والخطابان، الثوري والإسلاموي، قد تتضمن أحياناً ما يوحي بالغبطة حيال ما حدث في أمريكا في 11 سبتمبر، بل إنهما قد لا يخفيان روح التشفي، تجاه الأنف المتغطرس الباغي الذي تمرغ في التراب. أن أول خطوة في ترميم الصورة الأمريكية في المنطقة العربية والعالم الإسلامي، إن كان لابد لتلك الصورة أن تترمم (الفصل الثالث)، هو أن يحس المسلم العادي، في كل بلاد المسلمين، إن أمريكا ليست ضد الإسلام، ولا يكفي لهذا، أن يخرج الرئيس الأمريكي أو بعض معاونيه بتصريحات صحفية، منقطعة عن أي مواقف إيجابية صلبة وجلية وراسخة من حضارة الإسلام، يرددون فيها، بعبارات باردة ومنهكة بألوان من الدبلوماسيات الفجة، أنهم ليسوا ضد الإسلام، وأنهم يقدرون هذا الدين، ويعترفون بإسهاماته في بناء الحضارة البشرية على مر التاريخ. لا يكفي هذا أمام ما يقرأ الناس أو يسمعون عما تبيِّته السياسات الأمريكية لمستقبل الإسلام والمسلمين، ابتداء من التدخلات السافرة في شئونهم، وغزو أراضيهم أو احتلالها، وانتهاء بإعادة ترتيب "الأفكار" فوق الكوكب كله، بما لا يتعارض مع توجهات الولايات المتحدة أو يعرقل أهدافها. السياسات الإنفرادية للولايات المتحدة الأمريكية، وهي السياسات التي تلغي فكرة "الشراكة" في النظام الدولي التي كانت قائمة قبل الإدارة الحالية. و(في الفصل الخامس) يشرح المؤلف الظروف التي تم فيها استغلال الولايات المتحدة لفكرة التحالف الدولي معها في الحرب على الإرهاب، فهي جعلت من ذلك التحالف غطاء لتحقيق أهداف أخرى تعزز غاية الهيمنة، بعد أن عمدت إلى خلق حالة من الخلط الشديد بين "الإرهاب" وأنواع "المقاومة" الوطنية التي كانت هدفاً للسياسات الأمريكية الجديدة، وبالتالي لإسرائيل التي انتظرت طويلاً مثل هذه الحالة التي مكنتها من القضاء على المقومات الأساسية لمستقبل القضية الفلسطينية. أن الخلط الذي طرأ على مفهوم الإرهاب، وأنواع المقاومة الوطنية، أسهم إلى حد كبير في إضعاف موقف الفلسطينيين، أمريكياً، ودولياً، وبالمقابل فهو أعطى أفضل الفرص لشارون وللآلة العسكرية الإسرائيلية، كي تعوث فساداً في الأرض المحتلة، وكي تعطي لنفسها الحق في قتل من تريد من الفلسطينيين، وفي اعتقالهم وسجنهم، وتدمير مزارعهم ومتاجرهم، وهدم بيوتهم فوق رؤوسهم، ثم، قبل ذلك وبعده، إنهاك البنيتين التحتية والفوقية بكاملهما في المدن الفلسطينية، فضلاً عن إذلال القيادة الفلسطينية وحصارها، والتلويح المستمر بطرد عرفات أو حتى قتله. والعالم كله يتفرج على ما يحدث، وأمريكا لا تكتفي بالفرجة، بلى أنها تدعم التصرفات الإسرائيلية، بالتصريحات في وسائل الإعلام، وباستخداماتها للفيتو في مجلس الأمن، وبغير ذلك ممن وسائل الدعم المادي والمعنوي. لا شك أن هناك حالة نفسية جديدة أوجدتها أحداث 11 سبتمبر، وهي تتمثل في تفاقم الحساسية الخاصة المرعبة تجاه الإرهاب، أو أي شبهة من شبهاتة. والخلط بين الإرهاب والمقاومة لم يعد صعباً بعد فاجعة سبتمبر، ولاسيما إذا كان من يعرف الإرهاب، ويحدد مواصفاته وشروطه وظروفه، هي الولايات المتحدة الأمريكية، التي أصابها ما يشبه البارانويا تجاه الإرهاب. والفلسطينيون هم أجدر الناس، وفق التصور الأمريكي - الإسرائيلي، بأن يُنظر إليهم بوصفهم "إرهابيين". وربما يساعد في تسويق الموقف الإسرائيلي - الأمريكي من المقاومة الفلسطينية، على مستوى العالم، كون بعض الفصائل أو التنظيمات الفلسطينية قد ارتكبت بعض الأخطاء الفادحة في عملياتها العسكرية، وأبرز تلك الأخطاء الاستمرار في تنفيذ العمليات الانتحارية فيما وراء الخط الأخضر، مما ليس مقبولاً طبعاً لا أمريكياً ولا دولياً. إن العالم ينظر إلى تلك التصرفات على أنها أعمال إرهابية، ومن الخطأ أن يفترض العرب أن نظرة غيرهم إلى الإسرائيليين يجب أن تكون متطابقة مع نظرتهم، فهم إذْ يعدون الإسرائيليين محتلين، وبالتالي فهم جميعاً في وضع المحاربين الذين يجوز قتالهم، في الطرقات، والأسواق، والفنادق، والمطاعم، فإن العالم اليوم، بل ومنذ اعترافه بالدولة العبرية، له في تلك المسألة رأي آخر، فالمواطنون الإسرائيليون، وفق ذلك الرأي، هم مواطنون كالآخرين، ولهم الحق في العيش داخل "حدود دولتهم" في أمان واطمئنان، وأي اعتداء أو قتل أو تفجير يكون هدفه المدنيين، أو تكون ساحته المدن الإسرائيلية فهو "إرهاب" تجب مقاومته، ولابد من التصدي له واجتثاثه. ولقد تضاعف الإحساس بمثل هذه الأمور في العالم كله، بعد أحداث 11 سبتمبر، ولم يعد لدى أي أحد الاستعداد للأخذ والرد في هذه المسائل، وأصبح من غير المقبول، أمريكيا وعالمياً، أي أعمال يكون ميدانها الشوارع والساحات والمرافق العامة في إسرائيل، ويكون ضحاياها من المدنيين، وفيهم الشيوخ والنساء والأطفال!! ولم تكتف الإدارة الأمريكية بالاستغلال غير الأمثل للتحالف الدولي في الحرب على الإرهاب، بل هي استغلت أيضاً مشاعر الخوف الفظيع الذي خيم على رؤوس الأمريكيين، وذلك من أجل ابتزاز مواقفهم لدعم سياسات البيت الأبيض ولا سيما فيما يتعلق بسلسلة الحروب اللاشرعية التي بدأها بأفغانستان والعراق والقائمة مازالت حافلة بآخرين. فلم يعد خافياً على أحد بأن الحرب على الإرهاب لم تكن سوى الذريعة التي تختبئ وراءها الدولة الأعظم من أجل اكتمال الهيمنة، بما في ذلك منابع النفط في الخليج من خلال الواقع الذي خلقته في العراق، وهذا مما يؤدي إلى إنهاك المنافسين، ومما يؤدي كذلك إلى خلق واقع التبعية للاقتصاد المركزي (الفصل الثامن) والمكائد الأمريكية قديمة في تاريخ دولة "العالم الجديد"، فهي جعلت من أمريكا اللاتينية حديقتها الخلفية، وهي ابتلعت، على طريقة الكابتن مورجان، الإمبراطوريات المهشمة في أوربا، وهي هدمت اليابان، وأدخلت يديها في الجيوب الأفريقية، وامتدت ذراعها إلى الفلبين وفيتنام، وهي أخيراً شهدت مصرع "الوحش" السوفياتي في بداية التسعينات، بل إنها هي التي هيأت لسقوطه وتهاويه (الفصل التاسع) وهي تتفرد اليوم وحدها بمصير الكوكب، فألغت العالم كله، وامتهنت "برلمان الإنسان" الذي لم يعد يستطيع أن يؤكد دلالات مسماه (الأمم المتحدة) ولم يعد هناك أبداً ما يدفع الولايات المتحدة التي إخفاء نهجها في سياسات "القوة"، فهي تقصر اهتماماتها الأولى على دعم تكنولوجيتها العسكرية التي تدفعها إلى المزيد من رعونات التأديب، التي تصل بها في النتيجة إلى كسر شوكة العالم بأسره (الفصل العاشر) ويدعم كل ذلك سياسات الاستعلاء القومي والثقافي التي تظهر في الغالب في شكل المزاعم المتكررة التي تحيط بفكرة موقع أمريكا من وجدان العالم من خلال إشاعة "القيم الأمريكية" التي ينبغي أن تكون قيماً للعالم كله (الفصل الحادي عشر) تلك القيم التي مرت بأصعب اختبارات لها على طول تاريخ الولايات المتحدة فيستعرض المؤلف (في الفصل الثاني عشر) فظاعات القتل الأمريكي داخل أمريكا، وخارج أمريكا: في أفريقيا وأوربا وآسيا، كما يستعرض السياسات الأمريكية الداعمة للقتل ولامتهان حقوق الإنسان، ودعم الديكتاتوريات، والقضاء حتى على الأنظمة "المنتخبة" كلما احتاج الأمر إلى ذلك، أو كلما رأى الساسة الأمريكيون أن ذلك يخدم مصالحهم. وهذا كله مما يناقض القيم الأمريكية التي تدور العجلة الدعائية اليوم بسرعة فائقة من أجل تسويقها، وجعلها غطاء لكثير من النوايا الأخرى، فقد اقترن تاريخ الولايات المتحدة — منذ التأسيس — بسمعة غير حسنة فيما يتعلق بحقوق الإنسان، فقد استخدم العنف والقتل بحق سكان البلاد الأصليين (الهنود) الذين قتل منهم الملايين في مذابح بشعة استخدمت فيها كل وسائل الإبادة، إبتداء من سحق القرى برمتها، وإنتهاء بنشر الطاعون وتعقير النساء. وهم لم يحصلوا على الجنسية الأمريكية إلا في العام 1924م، وفي العام 1976م فقط أقر الكونجرس للهنود الحمر بممارسة دياناتهم الخاصة بهم. سجل الولايات المتحدة، بحق الأثنيات والعرقيات، وهو سجل مخزٍ. ومن ذلك العبودية البشعة التي عانى منها الأمريكيون الأفارقة، أثناء تجارة الرقيق. وهي طالت عشرات الملايين من الذين جلبوا من القارة السوداء، عن طريق الاختطاف والعنف المسلح. وقد قضى الملايين منهم أثناء المعارك، أو خلال رحلة الألم والعذاب عبر المحيط، أو تحت سياط المالكين، وقسوة أرباب العمل، حيث كانوا يعملون بالسخرة، ويعاملون كالحيوانات. وقد استمرت سياسية التمييز العنصري المعززة بالقانون، حتى أواسط الستينات من القرن العشرين، إذ ألغيت التشريعات العنصرية (مارتن لوثر كنج) في تلك المرحلة، إذ أقر الكونغرس القوانين والتشريعات التي تنهي التفرقة، وتؤكد عدالة توزيع الفرص المتساوية لجميع الأمريكيين، فتم تحريم الفصل في التعليم، والإسكان الحكومي وغيرها من أنواع الخدمات، وأتيح حق التصويت للسود، غير أن هؤلاء، في واقع الأمر، مازالوا يعانون من التمييز في الوظائف والأجور، وتعسف رجال الأمن، وتحيز القضاء. ويحصل 30% من السود الأمريكيين، و20% من الأسبان الأمريكيين، على رواتب أقل من الخط الرسمي للفقر. ويقبع في السجون الأمريكية من السود 3000 شخص من أصل كل 100.000 أسود ذكر. وما تزال "العنصرية" قضية ساخنة، ولا سيما عندما يستغل بعض السياسيين هذه القضايا، والمخاوف، ومشاعر القلق. ومن الدراسات المشهورة تلك التي أجراها مختص أكاديمي في حقوق الإنسان في أمريكا اللاتينية، هو لارس شولتز (Lars Schoultz) من جامعة نورث كارولاينا (North Carolina) حول مساعدات الولايات المتحدة لأمريكا اللاتينية. فقد بيّن في دراسته عن وجود علاقة وثيقة جداً بين المساعدات الأمريكية والإساءة إلى حقوق الإنسان في أمريكا اللاتينية. وكان مما قاله: "تتدفق المساعدات الأمريكية بصورة غير متكافئة على حكومات أمريكا اللاتينية التي تعذب مواطنيها.. إلى أفظع منتهكي حقوق الإنسان في نصف الكرة الأرضية ذاك". كان ذلك قبل عشرين سنة فقط. أن من يعرف تاريخ الولايات المتحدة مع الديمقراطية والعدل في العالم كله، ومن يعرف أيضاً تردي مستوى الصورة الذهنية للدولة العظمى في عقل ووجدان العرب والمسلمين، يدرك بأن ذلك لا يشي سوى بفكرة واحدة فقط، وهي أن الولايات المتحدة ستدخل هذه "النوايا الحسنة" تجاه مستقبل الديمقراطية في المنطقة ضمن حملة "العلاقات العامة" التي كرست لها ملايين الدولارات من أجل تحسين سمعتها السيئة، فليس هناك ما يدفع إلى الثقة في سلامة نوايا أمريكا، وليس هناك في التاريخ الأمريكي كله ما يؤكد أن الديمقراطية، في خارج الولايات المتحدة، كانت في يوم ما همّا حقيقياً للإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ التأسيس. إننا لا نظن أن التجربة العراقية يمكن لها أن تشجع الذين يضعون المخططات الأمريكية، ويدفعون إلى تنفيذها، على أن يجعلوا تلك التجربة نموذجاً مغرياً للقبول بالتدخلات الأمريكية في أماكن أخرى من العالم. كما لا نعتقد أن دعاوى الإصلاح، والتخلص من الأنظمة الفاسدة، وإنشاء الديمقراطيات، ودعم الحريات، ستظل في كل حين مبررات مقبولة، وذات مصداقية، لتسويغ التدخلات العسكرية الأمريكية. أن يظهر أو ينمّي فكرته المركزية (المحورية) وهو التي تدور حول عقيدة الهيمنة الأمريكية التي أتضح أنها، لدى القادة الأمريكيين المتعاقبين، قديمة بقدم الولايات المتحدة نفسها، فهي أصل في الفلسفة التي قام عليها الكيان. وقد اعتبرها الكثيرون من أولئك القادة قدراً محتوماً لبلادهم. وما العمل المستمر المتواصل، من أجل تحقيقها، سوى استجابة ل "مباركة الرب". والهدف الذي تختبئ وراءه النوازع الإمبراطورية هو أن تفيد الزوايا المظلمة من الكوكب من تجربة "العالم الجديد" في الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وأن تنهل تلك الزوايا مما تتضمنه مثل هذه المشروعات الخيرة، من قيم للعدل والمساواة، حتى وإن تمّ ذلك في الوقت الذي تتذوق فيه الأقطار المقصودة مرارات الذلّ، تحت القادة الديكتاتوريين الذين تختارهم، أو
تدعم وجودهم وبقاءهم، لسوء الصدف، الولايات المتحدة الأمريكية نفسها! وحتى وإن تم ذلك أيضاً نتيجة غزو أو احتلال مباشر، من قبل هذه الأخيرة نفسها!ان شواهد متعددة على عقيدة "الهيمنة" التي جعلت من الولايات المتحدة الشرطي البغيض الذي يخافه الناس حتماً، ولكنهم لا يحبونه قطعاً. فيذكر أنه، في القديم مثلاً، قال السيناتور هارت بنتون، في خطاب أمام مجلس الشيوخ، في العام 1846م: "إن قدر أمريكا الأبدي هو الغزو والتوسع، إنها مثل عصا هارون (يقصد موسى) التي صارت أفعى، ثم ابتلعت كل الحبال. فهكذا ستغزو أمريكا الأراضي، وستضمها إليها، أرضاً بعد أرض. ذلك هو قدرها المتجلِّي. إعطها الوقت، وستجدها تبتلع، كل بضع سنوات، مفازات بوسع معظم ممالك أوربا. ذلك هو معدل توسعها". أما في العصر الحديث، مثلاً أيضاً، فيرى إيرفينج كرستول، الذي ينحدر من أصل يهودي، أن الوضع الإمبراطوري للولايات المتحدة، فرضته عليها الظروف الدولية، والتطورات التاريخية، وقد استمر ذلك الوضع الإمبراطوري قائماً على الرغم مما تعرضت له السياسة الأمريكية من فشل في فيتنام، أو غيرها. وهو سيستمر كذلك في المستقبل لأن ذلك هو قدرها. وهو يقول بلغة أكثر دقة وصرامة في الكتاب الذي صدر له في 1997م بعنوان (The Emerging American Imperium) أن قيام إمبراطورية أمريكية هو أمر يجري بشكل طبيعي، فلا تحتاج المسألة إلى "إكراه" ويقول: "في يوم قريب سيمتلك الشعب الأمريكي وعياً بكونه صار أمة إمبراطورية... لقد حصل هذا لأن العالم أراده أن يحدث"، مفسراً ذلك بأن "قوة عظمى يمكن أن يتطور بها الأمر بالتدريج إلى القيام بمسؤوليات دون أن تكون قد سعت إليها بصورة مسبقة". وهو ينظر إلى أوربا كطرف تابع للولايات المتحدة، "ولو أنها تتمتع باستقلال داخلي واسع". أما أمريكا اللاتينية فهو يرى أنها "بدأت تعترف بشرعية زعامة الولايات المتحدة عليها، وأنها قد قبلت بأمركة متدرجة ومتنامية لثقافتها الشعبية ونمط حياتها". أن الولايات المتحدة قد حققت إنجازات كبيرة، على مدى تاريخها الطويل، في مجال تحويل عقيدة الهيمنة على العالم إلى واقع ملموس، وهذا يتضح في ثنايا فصول الكتاب المختلفة، وهو يشير، في مرحلة ما، إلى وثيقتين للبنتاجون أكدت ذلك التوجه الذي ينصب على تأكيد عزم الولايات المتحدة منع ظهور أي قوة يمكنها أن تعرقل هدف سيطرتها على العالم. الوثيقة الأولى تحت إدارة بول دي وولفوفيتش، والأخرى تحت إدارة الأميرال جيريميا، نائب رئيس لجنة رئاسة الأركان، وقد ذكرت الوثيقتان: إن الولايات المتحدة، هي الضامن للنظام العالمي، لذلك يجب أن تتصرف باستقلالية في حال وقوع كارثة تتطلب رد فعل سريعاً، أو عندما يصعب تجميع موقف عالمي موحد، وعليها التحرك لمنع تكوين نظام أمني في أوروبا، يمكنه تهديد توازن حلف شمال الأطلنطي، وعليها إذابة ألمانيا واليابان في النظام الجماعي الذي تقوده هي، وعليها إقناع جميع المنافسين المحتملين بعدم ضرورة التطفل للعب دور عالمي أكبر من الذي يلعبونه الآن بالفعل. وللوصول إلى ذلك، يجب عليها الحفاظ على قوتها الهائلة، كما يجب عليها تخليد الهيمنة، عبر إيقاع الهزيمة بأسلوب مدمر، وقوة عسكرية تكفي لردع أي أمة، أو مجموعة من الأمم، عن تحدي إرادة الولايات المتحدة. ولقد تلقى شركاء الولايات المتحدة ومنافسوها، إبان أفغانستان، وفي أثناء الحرب على العراق، أكبر الصفعات في حمى الهياج الأمريكي، كما تلقت الأمم المتحدة (ومجلس الأمن) أكبر النكسات المريرة في حياتها. ومازلنا نذكر موقف العالم العربي والإسلامي، المسلوب الإرادة، وهو موقف لم يكن ليقوى على فعل أي شيء تجاه ما أرادته أو تريده أمريكا. كما نتذكر أيضاً الموقف الذي وجدت نفسها فيه بعض دول الاتحاد الأوروبي (فرنسا وألمانيا تخصيصاً) وكذلك روسيا والصين، وغيرها من الدول التي لم تستطع أن تفعل أي شيء غير الإكتفاء بإعلان رفضها ومعارضتها (الشفهية) لما يجري، وماذا بيدها أن تفعل أكثر من ذلك في مواجهة هذا التنين الهائج، المدجج بالسلاح إلى أسنانه، كما يقول الفرنسيون. إن عمل أي شيء آخر قد يقتضي المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة، وهذا ما لم تعد تقوى عليه أي قوة أخرى في هذا العالم، فلقد عملت أمريكا، طوال سنوات عمرها، على أن تحقق ما أراده لها صانعوها الأوَّلون، وهو ما ردّده اليوم صامويل هنتغتون وغيره من المنظرين والمفكرين الأمريكيين، من ضرورة الحفاظ على تفوقها العسكري والتكنولوجي، بحيث تتمكن فعلاً من قيادة العالم، أو بالأحرى الهيمنة عليه. ونتيجة للانفتاح الشديد على مشروع "الهيمنة" أصبح عالم اليوم يلتقي كله حول مزيد من "الكراهية" لأمريكا. فالبعض يكرهها لقاء ما ترتكب، في حقه أو في حق غيره، من مظالم. والبعض يكرهها لما تتمتع به من استعلاء مقيت، ومن غطرسة وبطش. والبعض الثالث يكرهها إضطغاناً عليها، وغيرة من تصرفاتها، واحتجاجاً على استئثارها وحدها بتقرير مصير الكوكب، وبتحويل مؤسساته ومنظماته، فضلاً عن مفهوماته ومبادئه وقيمه، إلى شأن أمريكي بالدرجة الأولى. أنه كان في إمكان الولايات المتحدة أن تتولى "ريادة" العالم بدلاً من "الهيمنة" عليه، وكان في إمكانها أن "تقوده" بدلاً من أن تقهره وتضطهده. و"الريادة" و"القيادة" شيئان مختلفان عن الغزو، والإحتلال، والتدخلات العسكرية، والبطش، والإستعلاء. "القيادة" هي الشراكة بشرف، مع دول العالم وشعوبه، من أجل التقدم، والسلام، والرفاه. و"الريادة" هي المنجز الحضاري الأمريكي الباهر الذي أخذ بألباب الناس في كل أرجاء الأرض، حتى بين صفوف المنافسين، بل حتى داخل بيوت الخصوم التقليديين الذين منهم من قضى نحبه، ومنه من ينتظر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.