في أواخر سبعينيات القرن الماضي رأيت- واستمتعت إلى- الشيخ إمام عيسى وأحمد فؤاد نجم، رجلان ضئيلا الحجم، فقيران، لا يملكان إلا الموهبة، كانا يقضان مضجع الديكتاتور الذي يأمر بسجنهما واعتقالهما، وفي كل مرة كانا يخرجان بالمزيد من القصائد والأغنيات الثورية التي نحفظها ونرددها في تجمعاتنا: بقرة حاحا، والبحر بيضحك ليه، ومصر يا امه يا بهية، وكلمتين يا مصر: كل عين تعشق حليوة وانت حلوة ف كل عين/ يا حبيبتي أنا قلبي عاشق واسمحي لي بكلمتين/ كلمتين يا مصر يمكن هما آخر كلمتين/ حد ضامن يمشي آمن أو مآمن يمشي فين؟ وفي بداية الثمانينيات رأيت أمل دنقل في مسرح السلام- جاء من المستشفى خصيصًا وعاد إليه- يقرأ قصائده المقاومة التي كانت شعارات مظاهرات الطلاب: الكعكة الحجرية وكلمات اسبارتكوس الأخيرة ولا تصالح، وقتها كنت أتابع عمود فريدة النقاش في جريدة الأهالي- كانت في الثلاثينات من عمرها- تحارب الظلم والفساد بيد، وبالأخرى ترعى شعراء شباب وتنمي مواهبهم. كما رأيت عبد الرحمن الأبنودي عام 1986 في مدرسة بنها الإعدادية في مؤتمر انتخابي لخالد محيي الدين، يقرأ قصيدة سوق العصر: "من إمتى شفنا الرأسمال يتفسح؟ من إمتى شفنا الرأسمال إنساني؟ جاي يطمس الأسماء ويمحي الملمح، ويحطنا في السلسلة من تاني". وقتها حين كنا نذهب لحضور ندوة نجد سيارات الأمن مصطفة في مشهد مهيب، والشرطيين في بدلاتهم السوداء يتحدثون في أجهزة اللاسلكي ويتحركون باستعراض مبالغ فيه ليخيفونا، مع ذلك ندخل تلك الأماكن الضيقة المغلقة، نغني ونقرأ الشعر ونستمع إليه ونهتف، كل هذا بينما كانت جريدة اللواء الإسلامي، التي تصدر صباح كل خميس بصفحاتها الخضراء التابلويد، تشن هجومًا ضاريًّا على الأدباء والكتاب والمفكرين المعارضين لأنهم يتحدثون إلى الله ومعه! في هذا الوقت أيضًا، كنا نعقد ندوات لتوعية الطلاب بحقوقهم في كلية التجارة ببنها، وفي غيرها من الكليات، ونستضيف مثقفين وفنانين وكتابًا يقيمون حوارات حول الأوضاع القائمة وسبل الخروج منها، ويجهرون بمعارضتهم للديكتاور وتفنيد أخطائه وخطاياه في جو خانق مكهرب خائف ومذعور لا يسمح بهذا، وكنا ندفع مقابل ذلك ملاحقة وسجنًا واعتقالاً ومضايقات في الدراسة، يتم تحويلنا إلى مجالس التأديب، ونشطب من قوائم مرشحي اتحاد الطلاب دون سبب، ووقتها أيضًا عرفنا الطريق إلى مجلس الدولة، رفعنا قضية ضد العميد وحصلنا على حكم ضده بمساعدة شباب المحامين: سامح عاشور وعصام الإسلامبولي وسيد عبد الغني ومحمد متولي، بينما كان زميلنا الذي ينتمي لجماعة الإخوان المحظورة يقيم علاقة طيبة مع ضباط أمن الكلية، ويجمع بعض الطلاب حوله ليجمعوا الزبالة وينقلونها في سيارات نقل لا أعرف من أين تأتي ولا من الذي يدفع أجرتها، بينما يتحدثون عن كرهنا لله والرسول، وانفلاتنا الأخلاقي، وخوفنا من تطبيق الشريعة الإسلامية! كنا نولف المسرحيات ونخرجها ونمثلها في الساحات بدون إمكانيات، نأخذ من شعر صلاح عبد الصبور ومسرحه: "لا.. لا أملك إلا أن أتكلم/ يا أهل مدينتنا/ يا أهل مدينتنا/ هذا قولي: انفجروا أوموتوا/ رعب أكبر من هذا سوف يجيء/ لن ينجيكم أن تختبئوا في حجراتكمو/ أو تحت وسائدكم، أو في بالوعات الحمامات/ لن ينجيكم أن تلتصقوا بالجدران، إلى أن يصبح كل منكم ظلاً مشبوحًا عانق ظلاً/ لن ينجيكم أن ترتدوا أطفالاً/ لن ينجيكم أن تقصر هاماتكمو حتى تلتصقوا بالأرض/ أو أن تنكمشوا حتى يدخل أحدكمو في سم الإبره/ لن ينجيكم أن تضعوا أقنعة القرده/ لن ينجيكم أن تندمجوا أو تندغموا حتى تتكون من أجسادكم المرتعدة/ كومة قاذورات/ فانفجروا أو موتوا"، ونأخذ من مسرحيات عبد الرحمن الشرقاوي: الحسين ثائرًا والحسين شهيدًا، ومن أشعار فؤاد حداد وصلاح جاهين: "القمح مش زى الدهب/ القمح زى الفلاحين/ عيدان نحيلة جدرها بياكل فى طين/ زى اسماعين/ ومحمدين/ وحسين أبو عويضه اللى قاسى وانضرب/ علشان طلب/ حفنة سنابل ريَّها كان بالعرق/ عرق الجبين"، نقتبس من لوركا وبابلو نيرودا وبدر شاكر السياب ومظفر النواب ومحمود درويش: "سقطتْ ذراعك فالتقطها/ واضرب عَدُوَّك.. لا مفرُّ/ وسقطتُ قربك، فالتقطني/ واضرب عدوكَ بي.. فأنت الآن حُرُّ/ حُرٌّ وحُرُّ../ قتلاكَ، أو جرحاك فيك ذخيرةٌ/ فاضربْ بها.. إضربْ عدوَّكَ...لا مَفَرُّ"، نصهر كل ذلك معًا في توليفات من عندنا نبدعها شعرًا ونثرًا، نتقدم للمسابقات ونحصل على المراكز، لم يخرج أحدهم في مظاهراتنا، ولم يشارك في ندواتنا أو حلقاتنا النقاشية ومسرحياتنا، لم أسمعهم يتحدثون عن الظلم والقهر والانفراد بالسلطة ووجوب المقاومة، فقط كانوا يتحدثون باستهجان عن تمايل أم كلثوم وكلمات أغنياتها المائعة، وعن زندقة نجيب محفوظ واحتفائه بالساقطات والغواني، وعن تجرؤ توفيق الحكيم على الله الذي ادعى أنه يكلمه، وعن مروق يوسف إدريس.. الخ. كنا نتحدث عن الطريق إلى القدس الذي يمر عبر القاهرة بوعي، نعرف أن قضيتنا العربية واحدة، وأن العدو يحاربنا في كل مكان ليضعفنا وينال من عزيمتنا، لهذا كنا نعتبر أنفسنا شركاء أبي عمار في القرار الفلسطيني، وشركاء سميح القاسم في قصيدته، وشركاء غسان كنفاني ومعين بسيسو وفدوى طوقان.. والجميع. هذه المشاهد الحية في ذاكرتي، وغيرها كثير، ليس مقصودًا منها تسجيل مواقف بقدر ما هي إشارة إلى ما فعلته الثقافة لمقاومة الظلم والاستبداد بالقصيدة والمقال والأغنية والمظاهرة وتأليف الشعارات، وما عاناه المثقفون لقاء مواقفهم المعارضة من تشريد وسجن وتجويع وإهانة، ونفي أحيانًا، هذا ليس كثيرًا على الوطن، بل هو الدور الذي على المثقف أن يؤديه في تنوير بيئته ومحيطه. لكن جلد الذات الذي أراه الآن وأتابعه وأشاهد فصوله، خصوصًا من الشباب الذين يعتبرون أن الأجيال السابقة لم تقاوم المستبد ولم تقل كلمة حق في وجهه، فضلاً عن أنه ليس واقعيًّا، إذ إن التطورات لا تحدث فجأة كقفزة في فراغ، فهو ليس حقيقيًّا بالتأكيد، فكل جيل فعل ما يستطيع وأكثر بمعطيات وقته وبالأدوات التي يملكها. كما أنها- المشاهد- ليست الدليل الوحيد على أن التيار الإسلامي كان خارج الحركة الوطنية في كل تاريخها، على الأقل في الجزء الذي أنا شاهد عليه.