وكيل الأزهر يستقبل وزير الأوقاف الصومالي السابق ويهنئه بتكريم رئيس الجمهورية    الموافقة على زيادة أعداد المقبولين بمدرسة التمريض في الوادي الجديد    أول رد فعل من ناصر عبدالرحمن بشأن صورته المتداولة مع صلاح التيجاني    956 شهادة تراخيص لاستغلال المخلفات    استشهاد وإصابة 7 فلسطينيين جراء اقتحام قوات الاحتلال لجنين بالضفة    تزايد الضغط للدعوة إلى انتخابات مبكرة في أيرلندا عقب ارتفاع شعبية رئيس الوزراء    رئيس الوزراء: لا عودة لتخفيف الأحمال وأمنا احتياجاتنا من الوقود    الدكتورة رشا شرف أمينًا عامًا لصندوق تطوير التعليم بجامعة حلوان    التحالف الوطني للعمل الأهلي يوقع مع 3 وزارات لإدارة مراكز تنمية الأسرة والطفولة    حسن نصر الله: شن إسرائيل حرب برية على لبنان فرصة تاريخية لنا    "مجلس حقوق الإنسان": المجتمع الدولى لا يبذل جهودا لوقف إطلاق النار فى غزة    مصر بجوار المغرب.. تعرف على قرعة أمم أفريقيا للكرة الشاطئية    مباحث الدقي تكشف حيلة عاطل للاستيلاء على مبلغ مالي من مالك مطعم شهير    ورشة للمخرج علي بدرخان بالدورة ال40 لمهرجان الإسكندرية السينمائي    جيش الاحتلال: مقتل ضابط وجندى فى استهداف بصاروخ مضاد للدروع على الحدود مع لبنان    مرصد الأزهر يحذر من ظاهرة «التغني بالقرآن»: موجة مسيئة    مستشفى "حروق أهل مصر" يعزز وعي العاملين بالقطاع الصحي ضمن احتفالية اليوم العالمي لسلامة المرضى    مهرجان أيام القاهرة الدولي للمونودراما يُكرم «هاني رمزي» في دورته السابعة    مركز الأزهر للفتوى: نحذر من نشر الشذوذ الجنسى بالمحتويات الترفيهية للأطفال    محافظ كفرالشيخ يوجه بالتيسير على المواطنين في إجراءات التصالح على مخلفات البناء    الأزهر للفتوى الإلكترونية يعلن الإدعاء بمعرفة الغيب يؤدى إلى الإلحاد    القوات البحرية تنجح في إنقاذ مركب هجرة غير شرعية على متنها 45 فردا    رسميا.. موعد صرف معاشات أكتوبر 2024 وطريقة الاستعلام    تقرير يُكشف: ارتفاع درجات الحرارة بريء من تفجيرات " البيجر " والعملية مدبرة    محافظ بني سويف: إزالة 272 حالة بحملات المرحلة الثالثة من الموجة ال23    "صحة أسوان": لا يوجد بمستشفيات المحافظة حالات تسمم بسبب المياه    بينها التمريض.. الحد الأدنى للقبول بالكليات والمعاهد لشهادة معاهد 2024    التغذية السليمة: أساس الصحة والعافية    فيلم عاشق على قمة شباك تذاكر السينما في مصر.. تعرف على إيراداته    الحكومة تستعرض الخطة التشريعية خلال دور الانعقاد المقبل لمجلس النواب    بنك إنجلترا يبقى على الفائدة عند 5 %    توقعات برج الحمل غدًا الجمعة 20 سبتمبر 2024.. نصيحة لتجنب المشكلات العاطفية    أول ظهور لشيرين عبدالوهاب بعد أنباء عن خضوعها للجراحة    برلماني عن ارتفاع أسعار البوتاجاز: الناس هترجع للحطب والنشارة    أخبار الأهلي: بعد تعاقده مع الأهلي.. شوبير يعلن موعد بداية برنامجه    من هن مرضعات النبي صلى الله عليه وسلم وإِخوته في الرَّضاع وحواضنه؟ الأزهر للفتوى يجيب    فانتازي يلا كورة.. ارتفاع سعر لويس دياز    "الموت قريب ومش عايزين نوصله لرفعت".. حسين الشحات يعلق على أزمتي فتوح والشيبي    أبرز تصريحات الشاب خالد ف«بيت السعد»    "بداية جديدة".. تعاون بين 3 وزارات لتوفير حضانات بقرى «حياة كريمة»    "ناجحة على النت وراسبة في ملفات المدرسة".. مأساة "سندس" مع نتيجة الثانوية العامة بسوهاج- فيديو وصور    "خناقة ملعب" وصلت القسم.. بلاغ يتهم ابن محمد رمضان بضرب طفل في النادي    مركز الأزهر: اجتزاء الكلمات من سياقها لتحويل معناها افتراء وتدليس    لبحث المشروعات الجديدة.. وفد أفريقي يزور ميناء الإسكندرية |صور    خبير سياسي: إسرائيل تريد مد خط غاز طبيعي قبالة شواطئ غزة    انتشار متحور كورونا الجديد "إكس إي سي" يثير قلقًا عالميًا    جامعة الأزهر تشارك في المبادرة الرئاسية «بداية جديدة لبناء الإنسان»    محافظ الإسكندرية يتابع المخطط الاستراتيجي لشبكة الطرق    إخماد حريق نتيجة انفجار أسطوانة غاز داخل مصنع فى العياط    حزب الله يهاجم تمركزا لمدفعية إسرائيلية في بيت هيلل ويحقق إصابات مباشرة    «لو مش هتلعبهم خرجهم إعارة».. رسالة خاصة من شوبير ل كولر بسبب ثنائي الأهلي    دوري أبطال أوروبا.. برشلونة ضيفا على موناكو وآرسنال يواجه أتالانتا    «الرقابة الصحية»: نجاح 11 منشأة طبية جديدة في الحصول على اعتماد «GAHAR»    ضبط عنصر إجرامى بحوزته أسلحة نارية فى البحيرة    مأساة عروس بحر البقر.. "نورهان" "لبست الكفن ليلة الحنة"    دورتموند يكتسح كلوب بروج بثلاثية في دوري الأبطال    لو عاوز تمشيني أنا موافق.. جلسة حاسمة بين جوميز وصفقة الزمالك الجديدة    هل موت الفجأة من علامات الساعة؟ خالد الجندى يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"حروب الرحماء".. بلاغة السرد وجمالياته
نشر في مصراوي يوم 12 - 12 - 2020

تكتسب رواية "رحلة الدم" بجزأيها: القتلة الأوائل وحروب الرحماء- قيمتها العظيمة من كونها تواجه جمودا عقليا وفلسفيا عظيما تعيشه الحضارة العربية الإسلامية في الوقت الراهن، أمة بكاملها تدفن رأسها في الرمال كالنعام، لا تريد مواجهة تاريخها أو أسئلته أو قضاياها الكبرى وتراجع أفكارها أو تتخذ لنفسها سبيلا فكريا مؤسسا على نظرات عميقة.
مناطق تاريخية- إن جاز التعبير- هي الأخطر ومساحات هي الأكثر ألغاما في تاريخ هذه الأمة، كل ما فعلته أنها ضربت حولها سياجا وتركتها متحفا غير قابل لأن يدخله أحد أو أن يلامس ساحته عقل أو قلم. مساحات هي الأخطر فرضت عليها الأمة أسوارا من التقديس الزائف الذي يمنع من المراجعة والفهم والإدراك والاستيعاب والوصول إلى نتيجة.
ممنوع الاقتراب والتصوير من المنطقة الأخطر في تاريخ تُحارب فيه رموزٌ، وقَتَل بعضُهم بعضا في المساجد، وغدر بعضهم بعهود بعض، وخطط بعضهم، ودبر وتآمر، وآخرون كانوا يظنون أنهم ما يقتلون إلا لوجه الله.
وهكذا، عاشت هذه الفترة، وظلت خالدة في سلوكيات كثيرين منا أو عقولنا نتيجة ذلك التحصين الذي يمنع من المراجعة والفهم واتخاذ موقف جلي منها، ومنحناها تقديسا جعل مقولاتها المتحفية ممتدة وفاعلة دون أن يمسسها عقل أو سؤال.
أسئلة كثيرة تخص الدين والسياسة والفصل بينهما، وفكرة الخلافة والحاكمية وتدبير شئون المسلمين وفكرة الدولة أو الأنظمة الحاكمة وغيرها كثير من الأفكار والأسئلة المهمة التي تواجهها هذه الرواية عبر السرد وعبر الاستعادة والتأمل لتلك المرحلة التاريخية الأكثر أهمية.
وبعيدا عن الجانب الفكري والدلالي ورسالة هذا الخطاب السردي، فإننا نلاحظ أن وراءه تكنيكات سردية خاصة ومهمة وذات طاقات جمالية بارزة واستثنائية أحيانا، فلدينا استراتيجية محددة من البداية، وتتعاون فيها تقنيات كثيرة ومواقف سردية وجمالية عديدة، منها ما يختص بالزمن أو بالوصف أو بالانتقاء والاختزال أو السرعة والتحول المشهدي أو التجسيد النفسي وجماليات المعرفي وغيرها الكثير مما نراه درسا في السرد الروائي يحتاج إلى وقفة تفصيلية مطولة وأكثر تدقيقا.
من هذه الاستراتيجية السردية- مثلا- ذلك النسق من الوصف التفصيلي في مواقف سردية عديدة، ولكنه يصبح بارزا جدا في وصف الحرب تحديدا، وهو يجعلنا نسأل: لماذا يختار خطاب سردي أن يجسد معركة حربية بشيء كبير من التفصيل في مواجهات الضرب والطعان والقتل والدماء بين رجالها؟
كان الاختيار المعتاد لأغلب السرد الروائي أن يجنح إلى الاختصار والاختزال في وصف الحروب، ويخلص إلى نتيجتها أو التعرض لأكبر أسرارها الحاسمة في ترجيح كِفة فريق دون الآخر أو أبرز تحولاتها، أما أن يميل خطاب سردي إلى وصف المواجهات بشيء كبير من التفصيل، ويقتربَ من رجال بأعينهم، ويجسد العراك والاقتتال على نحو سينمائي، فإن هذا- فضلا عن كونه قيمة جمالية تكنيكية مرتبطة بالاستراتيجية السينمائية- يرتبط بالأساس بسؤال هذا الخطاب السردي الأساسِ أو السؤال المركزي حول اقتتال رجال كانوا بالأمس القريب في صف واحد وقريبين من بعضهم حد الأخوة والتساوي والمحبة التي تعلو فوق أي عصبية قبلية وفوق كل رغبة في جاه أو مال أو سلطة... إنه أمر- باختصار- يرتبط بما في عقل كثيرين من المسلمين حول هذا التاريخ وتلك الفترة.
السؤال الأهم والأبقى والأشد وخزا والأبعد من إجابة أو منطق، هذا السؤال كيف تقاتل صحابة النبيّ بين عشية وضحاها؟
كيف أباحوا دماء بعضهم؟ وكيف كانت مواجهاتهم بعد كل تلك المحبة والتعاضد؟ ولأي شيء وبأي عزيمة كان قتالهم ومواقفهم الفردية واحدا واحدا وفيهم بين الفريقين المبشرون بالجنة، وفي الفريقين من كانوا من أشد المقربين للنبي؟
وهكذا فإن هذا الخطاب السردي اختار ألا يعتمد تكنيك الهرب أو التخلص من أي أزمة أو أي مواجهة فنية بالأساس تجرها عليه اختياراته وإرادته لأن يجسد تلك الفترة بكل ما فيها من حرج وعقبات.
إنه أمر يرتبط بحال نادرة وطريفة من الناحية الثقافية يمكن تسميتها بشجاعة السرد... السرد الذي لديه الزاد من التاريخ الحاسم القاطع بأن هذه الوقائع وهذه المعارك بين صحابة النبي وقعت وقتل فيها أقرب المقربين، فكان لا بد أن يكون له الزاد من القوة التخيلية التي تساعده على ترميم هذا التاريخ وسد ثغراته وفجواته ورصد منعطفات هذا الصراع وتحولاته بين شد وجذب وميل للسلم تارة وعزم على الإبادة ووفرة من الكراهية والغل والسخط والنقمة تارات أخرى. حالات من الحيرة والتردد والضبابية على المستويين الفكري والنفسي لدى رجال هذا العالم التاريخي الروائي في آن، وتنعكس بالضبط هذه التجليات النفسية حتى في سلوكيات الاقتتال بين من يحاربون بكل عزيمة واثقين بأنهم على الحق البيّن وآخرين مذبذبين مترددين.
تجسيد الخلفية الشعبية من التخبط والحيرة والانقسام
إن السرد الروائي في رواية حروب الرحماء حين يختار أن يقتحم هذه التفاصيل الصغيرة لنزال وقتال يبدأ من أول اليوم إلى مغيب الشمس، ويتتبعه بعين الكاميرا الراصدة، فهو هنا يختار أن يقتحم عجائبية منسية، أساطيرَ من نوع خاص، يريد أن يقترب مما يمكن تسميته بأسطورية اللحظة وعجائبيتها النادرة والخاصة؛ لأنها أسطورة من نوع جديد تماما، أسطورة الفتنة الدينية في عصور وسطى، تُحول صفًا من الأحبة أقرب إلى الملائكة ليكونوا بشرا عاديين متحاربين متقاتلين، أيدي بعضهم ملطخة بدماء بعض! أسطورة الأخ يحارب في جيش، وأخته وأخوه في الجيش الآخر! أسطورة أن يكون ابن عمر بن الخطاب في صف جيش وابن أبي بكر في الجيش الآخر! أسطورة اثنين يهرب أحدهما من قتل الآخر، ويصر كلاهما على قتل أصحابهما! أسطورة حال من الكر والفر والهروب والخذلان والغيم والخوف والإصرار ومجموع من التناقضات التي نادرا ما تتوافر في أي لحظة أخرى غير لحظة موقعة الجمل وحروب المسلمين الأوائل ضد بعضهما، وتفاصيل هذه الحروب وكل خلجة فيها أدرك العقل المنشئ للخطاب السردي أنها مساحة إنسانية خصبة بالمعاني المتناقضة وحالات النزاع النفسي الاستثنائي.
هذه رواية نفسية بامتياز، تجعل الحدث التاريخي مجالا لبحث نفسي وتنقيب عميق في تكوين كم كبير من الشخصيات، وثمة موازنة استثنائية في دقتها وانضباطها بين التاريخي والتخييل الروائي، يصبح فيه الحدث ميزانا للتخييلي والنفسي، فلا يكون هناك انزلاق لمزايدة أو اندفاع في مبالغة لرسم صورة أو تضخيمها أو اندفاع نحو إدانة أو تبرئة، فكل هذا يمسك به الخطاب السردي بدقة وبتوازن نادر ووعي متفرد؛ فالعاطفة الحاضرة لا تندفع منحازة لفريق دون آخر أو تعبر عن موقف منشئ الخطاب، وهو ما كان كفيلا بهدم السرد أو نقضه من داخله بأهون الأسباب، لكن هذا التوازن جعل المكون التاريخي المرجعي هو المتسيد والقائد، كما جعل التخييلي دائما مدعوما بسند من هذا التاريخي؛ وهو ما كفل حالا خاصة من الرسم وتشكيل لوحة عامة يأخذ منشئ الخطاب منها مسافة، تجعل السرد أكثر مصداقية وملامح هذه اللوحة الكبيرة النابضة بالحيوية والحركة والصدق- ذا طابع فيلمي- إن جاز التعبير- موضوعي، ومتوازنة تسهم بأكبر درجة لأن يتماهى المتلقي مع هذا العالم، ويندمج فيه.
الشخصيات الروائية كذلك، على الرغم من كونها شخصياتٍ تاريخيةً، فهي تأخذ رسما خاصا وتشكيلا متكاملا يجعل الحدث مبررا؛ لأنه نتاج بشر متكاملي الأبعاد، وليسوا مجرد شخصيات على الورق، بل هم كيانات من لحم ودم، أضحوا مبتعثين من موتهم بكامل أبعادهم وبأعمقها وهي غالبا الأبعاد الفاعلة والمنتجة للحدث أو الصانعة للأزمة والصراع، ويمكن رصد هذا التراكب والتعقيد في تكوين الشخصيات الروائية عبر تحليل شخصية عبدالرحمن بن ملجم المرادي، الذي نراه الشخصية الإطارية أو المركزية، وكأننا هذا أمام تلميح من الخطاب الروائي بأنه النموذج المحوري الصانع لأزمة المسلمين، فهو نموذج غياب العقل أو انحساره، ودال على فهم معين للدين، كان سببَ الأزمات كافةً.
مم تتكون وتتركب شخصية عبد الرحمن بن ملجم المرادي، بوصفها واحدة من أهم الشخصيات في الرواية، وقد جعل منها السرد خطا ثابتا يكاد يكون الأكثر بروزا؟
في تقديرنا، يتراكب من عدد من الأبعاد التي هي منجز الخطاب السردي واكتشافات قراءته في التاريخ أو في الأحداث التاريخية التي قام على سردها، وهنا يتجلى دور السرد الروائي بوصفه تأويلا أو قراءة بشكل ما.
البعد الأول وهو ما يرتبط بفهم الدين وفق نسق معين يدمج الديني بالدنيوي إلى حد الخلط الكامل، ولا يقدر على أن يرى شيئا يسمى بالسياسة، فهو لا يفصل بين الدين والسياسة أو الدين والدنيا، ومن هنا يمثل نموذجا لتيار كامل هو الحرفي أو الشكلانية الدينية التي تمثلها الجماعات والتنظيمات الدينية التي تقول بالحاكمية والخلافة وولاية الفقيه، ويمكن أن نرى هذا البعد في تكوين ابن ملجم رأيه في علي بن أبي طالب إمامه الذي كان يؤيده، ثم تحول إلى كراهيته وقتله. ويتجلى ذلك في هذا الجزء من الحوار بينه وبين عمرو بن الحمق - الصحابي قاتل عثمان بن عفان.
"ألا يعرف أمير المؤمنين بهذا؟ أليس هو ابن عم النبيّ ووليه؟ فكيف يخيب اللهُ ظنه؟ وكيف لا يمنع عنه كيد الكائدين؟ وكيف لا يرد عليٌّ مكرَ معاوية وابن العاص في نحريهما؟
ماذا تقصد؟
أليس مؤيَّدا من الله؟
ليس في ذلك شك.
فلماذا ينخدع بخداعهما؟
دفع عمرو بن الحمق بيد ابن ملجم:
أَفِق يا رجل، فليس ما جرى مع قيس بن سعد إلا ظنٌّ أدخله الشيطان!
هنا ضجّ ابن ملجم:
وهل يدخل الشيطان قلب عليّ بن أبي طالب وهو من هو؟". الرواية ص327.
البُعد الثاني الذي يتراكب في تكوين شخصية ابن ملجم المرادي قاتل عليّ بن أبي طالب الذي تبدأ الرواية به في جزأيها، وتنتهي كذلك به- هو أقرب لمركَّب نقْص فاعل بقوة ناتجٍ عن قلة الأهل والعزوة وعدم الزواج؛ فهو جانب نفسي مهم كشف عنه السرد بذكاء؛ عبر التنقيب في تاريخ الشخصية، ويمثل أبرز الجوانب الصانعة والمفجرة لتحولاته، وإن كانت هذه التحولات والسلوكيات هي جماعَ ونتاجَ الأبعاد كافة، التي تشكلت، وتراكبت منها شخصيته، فهو بلا قبيلة تقريبا، كان مولًى وخادما أعتقه معاذ بن جبل في اليمن، وهو حافظ القرآنَ، وبلا زوجة لأسباب كثيرة، دائما يكون تابعا لأصحابه بلا رأي مقبول أو مشورة نافذة أو كبير تقدير حتى من أهل القرآن وقرائه الذين يختلفون على بعض ما في مصحفه.
وعنصر آخر لا يقل أهمية في تكوينه أو بين دوافعه النفسية هو شعوره الدائم بعجز خاص تجاه الفرسان والمحاربين والفاتحين الحقيقيين لكونه يكتفي بالمصحف، ولم يكن محاربا أو رجل حرب من البداية، وهذا ما يتشكل خطا ونسقا ثابتا من أول الرواية في جزئها الأول منذ قدومه إلى مصر ليلتحق بجيش عمرو بن العاص المرابط أمام أسوار حصن بابليون، لتكون خلاصة قراءتنا في هذه الشخصية أن هذه العوامل ربما كانت الصانع لحيرته والدافع للبحث عن تحقيق ذاته بأن يكون ذا شأن، وبخاصة الشأن الذي قد ينتج عن القتل واستخدام السيف بدلا من المصحف... أزمته في حرفيّة ما يرى في المصحف، فوجد خلاصه وتحققه واكتماله وتساويه مع السادة وذوي الشوكة بأن يستخدم هذه المرة السيف... ومع من؟! مع أمير المؤمنين وخليفة المسلمين.
وهو ما قد يزيد من قيمته، ويمنحه إعلانا عن ذاته في مجتمع يصر على تجاهله... ابن ملجم هو المراقب دائما للناس يمضون في ركاب حياتهم الدنيوية غارقين فيها بين خير وشر، يرغبون في النساء، ويدبِّرون أمورهم بشتى السبل في حين يكتفي هو ومجموعته بالمراقبة والتحسر والتعجب، يريدون حياة لا مجال فيها إلا لأن تكون مثل الآخرة، ينشغل الناس بالنساء وهو منشغل بالحور العين وجنان الآخرة التي يراها رأي العين.
"كان ابن ملجم مشغولا دوما في انشغال المحاربين في النساء، فبيوت البصرة والكوفة مغلقة على الرجال وأزواجهم، بينما أصحاب البرانس من القراء وحدهم لم يروموا النساء ابتغاء مرضاة الله". الرواية ص346.
يعرض أفكاره وأسئلته الساذجة على أقرب الناس، فلا يناله غير التهكم والسخرية. فيبدو منبوذا حتى ممن يريد أن يتخذهم دليلا وراية يستهدي بها كعمرو بن الحمق، الذي أعجب به ابن ملجم لأنه رأى شرع الله ودينه أكبر من دم عثمان فقتله بيديه.
فضلا عن هذا التشكيل الدقيق للشخصيات، فإن الرواية تقارب عالما صاخبا ليس على مستوى الحركة والقتل والتدابير والمؤامرات والدسائس، بل على مستوى القيم، الطمع في مقابل الزهد، والثقة والجهالة في مقابل التشكك والتروي، والحيرة في مقابل الاندفاع واليقين في الكيد والضرب والطعن.
إن الأحداث والأفعال الظاهرة والجلية من تحركات أو بيعة أو أمر أو كلام أو حوار أو انفعال وراءها حركات موازية في نفوس كم كبير من البشر، وقد نظم الخطاب الروائي الأنماط البشرية أو النماذج الإنسانية لديه حسب موقفهم بين صفوف مقدمة فيها الطرفان المشكلان للخلاف باختلاف أغراضهم أو تفاوت في الوضوح، ووراءهم صفوف أخرى في الخلفية العريضة تجسد حالا شعبية عامة منقسمة ومتخبطة وغارقة في الحيرة والتردد، على نحو ما يتجسد في هذا المشهد:
"لم يُجب ابن الزبير رغم دقة الحروف التي دقت رأسه، ورغم صخب الزحام، فسرح بنظره إلى الجنود، وقد أخرجوا عثمان بن حنيف نحيفا وعاريا إلا ما يستر عورته، مسحوبا ومجرورا إلى منتصف الساحة حين تلك النخلة التي اختاروا أن يربطوه في جذعها. ندّت من الجمهور المتحلق المحدّق آهات فرحات وجزعات، وصيحات مدهوشات ومستنكرات، ومحفزات ومستقبحات، ومهووسات ومجهوسات". حروب الرحماء، ص144.
يقوم عالم الرواية على قماشة عريضة من الصراع، ليس صراعا تقليديا، وهذا أمر مهم جدا ومختلف، فيجعلها أكثر ثراء وتميزا عن الروايات التي كان الصراع في العصور الوسطى يمكن اختزاله في قوات تغزو أراضي قوات أخرى، أو جيشين يريد أحدهما أن يهيمن على الآخر، فحينئذ لا تكون هناك لغة ولا تركيب أو تعقيد يتجاوز لغة الحرب وحيلها والصراع العسكري وفارق القوة وحسب.
أما في عالم رواية رحلة الدم، فنجد استثمارا كبيرا من الناحية السردية لعناصر كثيرة مهمة، فهو صراع الحيلة ضد الحيلة، وصراع الفكرة والرأي الديني وصراع الدسيسة والحجة الدينية الأقوى ضد ذريعة دينية مناهضة، وصراع عقل صحابي ضد عقل صحابي آخر، صراع قبلي أو قبائلي وصراع جغرافي ومالي واقتصادي، تصارع فيه مصر والشام ضد الحجاز والعراق أحيانا، ويكون لليمنيين دور حاسم، فهو صراع بلدان وقبائل وأموال وعقول وحيل ودين وأفكار، وكل هذا استثمره الخطاب السردي على أفضل نحو في تقديرنا؛ وذلك لأنه تتبع كل هذه الخيوط من مصادرها السياسية بشكل وافٍ.
والحقيقة أن هذه القماشة المتسعة والمعقدة من الصراع المغزول تجعل الرواية على قدر كبير من التوتر الدائم، والمصائر فيها غير محسومة في أي مرحلة؛ فكل طرف في اللحظة الآنية أو الراهنة للسرد عبر زاوية رؤيته واقتحامه يكون في قمة القلق والخوف وحساب الحسبة ومراجعتها مرات ومرات، فإن لم يكن عليّ بن أبي طالب خائفا بذاته فحوله أو في معسكره من لا يمضون خطوة إلا وهم يحملون قلقه، يبدو ذلك، وينعكس لدى عمار بن ياسر، ومالك الأشتر، وقيس بن عبادة، والحسن بن علي، وغيرهم.
أما المعسكر الثاني في الشام أو حتى حول عائشة، فهو دائما يخفي شيئا، ويظل حافلا بالمفاجآت والأسرار، وهو وإن اطمأن لقدر ما يتجهز به من الحيلة، فلا يعدم الخوف من قوة التجمهر واحتشاد الناس حول عليّ وإن اختلفوا أو بثت بينهم الخلافات.
الخلاصة أن الخطاطة السردية- بحسب تعبير السيميائيين تبقى خطاطة حافلة بالفواعل أو العناصر الفاعلة المتحركة والمحفزة والعوامل الوسيطة الكثيرة، وإذا كان أطراف الصراع بكل هذا الصراع الثري أو المتشابك والمعقد في تشعبات عديدة، فإن الجوائز أو المتصارع عليه هو أيضا عظيم، ويستحق، فثمة الجاه والملك والخلافة وحكم مصر أو الشام والحجاز وغيرها من الأمصار والبلدان التي تم فتحها، وأضحت تعود بملايين الدراهم والدنانير والكثير من الخيرات والنعم وكلها موصوفة ومذكورة وحاضرة في الخطاب السردي الذي يتجلى بوضوح أنه يدرك القيمة الوظيفية لكل هذه العناصر، فلم يهمل منها جانبا، وكل عنصر فيها يظل حاسما، ويعتمد الخطاب السردي موقفا أو تكنيكا تبئيريا في غاية البراعة في تقديرنا، فهو دائما يقترب من اللحظة الأكثر توترا، ويقتحم المشهد الأكثر قيمة والأعظم دورا في حسم هذا الصراع، سواء كان هذا العنصر الذي يكون التبيئر السردي محيطا به في راهنه هو شخصية أم سمات نفسية لشخصية معينة، مثل عمرو بن العاص، فيقتحمه في اللحظة التي يحسم فيها موقفه وتدارسه لأي الفريقين سينتمي، وينضم وهو الذي كان ثائرا على عثمان، وخرج من المدينة قبيل قتله، فنجد أن السرد يقتحم تلك اللحظة بكل ما يحيطها.
وهنا نستشعر قدر التوتر والقلق حتى مع العلم المسبق بالمعلومات التاريخية؛ لأن إضاءة المشهد السردي أو الموقف السردي عبر هذا التبيئر أو الاقتراب والاقتحام من المشهد يجعلنا أمام سيرة حافلة من الصراع أقرب لأن تكون أسطورة تاريخية يظل تذكرها ثريا وجميلا ومنعشا للذاكرة، ويستحق المتابعة باستمرار، مثل السيرة الهلالية مثلا التي مهما يتكرر سماعها تبقَ منعطفاتها أو لحظاتها ومشاهدها الحاسمة جديرة بالمتابعة وحافلة بالمتاعة، أو أن يكون هذا العنصر السردي حركيا، فيه حسم لصراع بدني معين أو فيه واقعة مهمة، سواء الحرب بذاتها كما ذكرنا أو مشهد جلد عثمان بن حنيف في ساحة قصر الحكم بالبصرة على مرأى ومسمع من كثير من الصحابة، وبخاصة الزبير وطلحة وابناهما، أو حركيا مثل منعطفات ومنحنيات معركة الجمل التي وردت على نحو تفصيلي ووقفنا معها، أو أن يكون حدثا مهما مثل حيلة قتل الزبير بن العوام ممن ادعوا أنهم مجيروه ومساعدوه على رحلته الموحشة فردا في الصحراء، أو حيلة مقتل محمد بن أبي حذيفة، أو التخطيط للمعركة الفاصلة بين علي ومعاوية في الشام.
وغيرها الكثير من المواقف والأحداث المحورية التي يعتمد فيها السرد هذا التكنيك الترهيني الاقتحامي الأقرب للعرض السينمائي الذي ينقلها كلها بكامل ما فيها من التوتر والقلق ودون أدنى حاجة لأن تكون هناك مغايرة في الزمن، فلا استباق أو استرجاعات كثيرة، بل التركيز على الحدث الراهن أو الآني الذي هو أقرب لأن يكون زمن الكاميرا- إن جاز التعبير أو التشبيه.
وهكذا فإن الاستراتيجية السردية المتبعة أو الفاعلة في هذا الخطاب السردي، سواء فيما يخص نقلاتها وانتقاءاتها والمشاهد التي يميل إليها العقل السردي أو زاوية النظر التي يتم رصد الأحداث منها كلها تدعم تلك الاستراتيجية وتنتمي إليها، وهي استراتيجية تجعل المتلقي دائما معاينا ومتابعا ومراقبا لمشهد في زمنه الراهن ولأحداث مسلسلة في زمنها الطبيعي تمضي نحو ذروة القلق والتوتر، وهي بطبيعتها مشحونة بهذين القلق والتوتر الطبيعيين أو غير المصطنعين، لكونهما- بالأساس- جزءًا من التاريخ.
كما أن في هذه الأحداث شعريةً من نوع طبيعي، لأن عالم هذه الرواية وأحداثها حافل بالتناقضات والمفارقات، فريق مظلوم أو يبدو هكذا لكنه لا يخلو من قوة ومن قدرة على الفوز والانتصار في موقعة الجمل، وتناقضات تحارب الإخوة، تناقضات ومفارقات سماحة علي في مواقف كثيرة مزلزلة، مثل تلك اللحظة التي يقرر فيها أن يصلي على جميع قتلى المعركة دون سؤال، وأن يراهم سواء برغم مخالفة بعض أصحابه له، يحبه أصحابه ولهم المآخذ عليه، وأكثرهم ممزق داخليا، لكونه لا يجد في أميره ما يرجو، ولا يقدرون على عصيانه، يرون فيه التقوى والدين، ويتمنون، ويرجون له بعض الحيلة والسياسة، وكلها مفارقات تزكي شعرية السرد، وتجعله مثيرا للأسى والشفقة والدهشة، فهي تناقضات الحياة وطبيعتها الغرائبية التي هي جزء منها.
ولا تتوقف التناقضات والمفارقات عند هذا الحد، بل تكاد تهيمن على عناصر هذا العالم الروائي الحافل كافة. تكاد تناقضاته تأتي حتى من التركيبة الجغرافية، فجهات الأرض كلها تكاد تكون حاضرة بين غرب في مصر، وشرق وشمال وجنوب، وحركة بين هذه الجهات لا تنقطع، والمفاجآت واردة باستمرار، فضلا عن أن الأخبار وكثير منها يكاد يكون مصيريا، وكذلك الفراق والغياب والثكل والفقد والتعذيب أو المعاناة وغيرها الكثير من القيم والمعاني التي تحضر وتأخذ من بعضها مواقع ومواضع توزيعية في شبكة السرد؛ ما يجعلها في تنازع أو تباين، فاللحظة التي يفقد فيها أخ أخاه هي لحظة انتصار وفوز بغريم أو خصم، واللحظة التي تكون فيها امرأة ثكلى أو مفجوعة بزوج أو قائد أو بطل هي اللحظة التي يشعر فيها فريق بأن كفته قد رجحت أو أو أوشكت، وهكذا في نوع من تصارع القيم الدلالية والمعاني بشكل لا ينقطع تقريبا.
كما نرى هذا حاضرا في أزمة محمد بن طلحة بن عبيد الله، وهو الورع التقي الذي قُتل أمامه العشرات من أهل البصرة بدم عثمان، في ثقة بفريق ينفذ بلا أدنى تردد، وهو يعاين مهزوما مصدوما، فيقول:
لماذا لا تقيمون عليهم الحجة؟ لماذا لا تتثبّتون من تهمتهم؟ بأي ذنب تقتلونهم؟ وبأي برهان تقتصُّون منهم؟!
كانت أسئلة محمد بن طلحة النائحة المبحوحة تذهب بددا مع الريح، وتنقذف كلماته تطير مع الهواء ومع الرؤوس الطائرة". حروب الرحماء، ص160.
الفصل بين الدين والسياسة مثلا، بين الإمام الفقيه الذي حرفته النص وقراءة القرآن، وبين الحاكم الذي حرفته أن يسوس الناس وفيه الصالح والطالح، من الأفكار البارزة التي يلح عليها الخطاب السردي عبر تلميحات وجمل بعينها، فإذا كان للخطاب السردي تكنيكاته أو استراتيجيته التي يصنع بها جمالياته الخاصة بالتشويق أو الاستحواذ الكامل على المتلقي، فإن له استراتيجيته الخاصة في التأشير إلى قيمة دلالية معينة أو بلورة فكرة أو معنى معين أو الإلحاح على قيمة بعينها، مثل تلك التي ينتجها من مجموعة القراء، وتشكل فريق الخوارج الحرفيين في تفسيراتهم أو ملابسات تشكلهم وتوحدهم أو التفافهم حول بعضهم، ووجود فريق يمكن وصفه بفريق حرافيش المسلمين من العبيد أو غير ذوي الحسب والنسب ممن رأوا في الإسلام من البداية ثورة اجتماعية أراد لها معاوية وبعض سادة قريش ألا تكتمل، ولا تساوي بين المسلمين، كما كان في عهد النبي أو أبي بكر وعمر، ومثلا بلورة فكرة أن كثيرا من الصراع والنزاع كان على الخيرات والجاه والمناصب، وأننا في النهاية أمام نماذج بشرية لا يمكن أن توزن بأي ميزان آخر غير ميزان البشر، وإلا سنكون مصرّين على أن نعيش خرافة أبدية.
وهكذا في استراتيجيات عديدة لإنتاج الدلالة يمكن تتبع مواضعها وإبراز تكنيكات الخطاب وسيرورة إنتاج المعنى.
"تركهم الأشتر يسبقونه في سيرهم، ووقف وهو يصيح: أتمنى أن يعرف أمير المؤمنين حلفاءه ورجاله أفضل مما يعرف أصحابه". حروب الرحماء، ص242.
هنا يتجلى نموذج الحاكم الدنيوي الذي يرجوه الأشتر، وهو على يقين أن صلاح الأمور لن يكون إلا به، فهو برغم حبه العظيم لعلي بن أبي طالب لا يخفي نقده، ولا يخفي تذمره وقلقه ويؤشر بطرف خفي أو أن الخطاب الذي هو يؤشر، ويلمح عبر الأشتر ولسانه وجملته إلى أسباب فشل علي- في النهاية- في السيطرة على خروج معاوية عليه وإخفاقه في أن يسوس الناس ويجمعهم على كلمة سواء، فيلمّح الخطاب الروائي، ويلحّ على أن عليا لم يكن متسلحا بأدوات الحكم، وكان أقرب للفقيه منه إلى الحاكم الذي يجب أن يتعامل مع الناس باختلافهم، وهو يعرف طبائعهم في الفساد والتدبير والحيل وميلهم إلى الدنيا وطمعهم فيها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.