أجبر أصحاب خمسة منازل على الأقل شيدت حديثا في قطاع غزة إلى هدم أجزاء واسعة منها بسبب فحوصات أظهرت ضعفا حادا في قوة الاسمنت المهرب من أنفاق التهريب مع مصر. والاسمنت المهرب المتداول على نطاق واسع من قبل سكان غزة عوضا عن الاسمنت الذي تفرض إسرائيل قيودا مشددة على توريده إلى القطاع الساحلي، يثير هذه الأيام أزمة متصاعدة على خلفية نقص الرقابة على نوعياته ومدى مطابقته للمواصفات.
ويستمر توريد كميات يومية من الاسمنت المهرب إلى غزة بعد يومين فقط من إعلان إغلاقها قبل هجوم مسلح شنه مجهولون على نقطتي تفتيش للجيش المصري في مدينة رفح المصرية بسيناء وأودى بحياة 16 جنديا مصريا في الخامس من الشهر الجاري. ورغم ما أثير عن توتر أمني على الحدود بين غزة ومصر تخللها إجراءات متبادلة ضد أنفاق التهريب لتأمين مزيدا من السيطرة فإن أنفاق التهريب المخصصة لمواد البناء سرعان ما استأنفت نشاطها وواصلت ضخ كميات من مواد البناء.
ويقول تجار محليون في غزة إن أسواقها المحلية تعتمد بشكل شبه كلي على الاسمنت المهرب عبر الأنفاق والأزمة ليست في كمياته المتوفرة بكميات هائلة بل في نوعياتها ومدى مطابقتها للمواصفات.
ويبدي نقابيون واقتصاديون متخصصون شواهد على عمليات تلاعب واسعة تجرى في نوعيات الاسمنت المهرب وتعارض كميات منه مع المواصفات القياسية للجودة الأمر الذي يدفع السكان ثمنه لكن بعد أن يتموا استخدامه.
وأحد ضحايا الاسمنت المهرب في غزة هو رئيس اتحاد المقاولين الفلسطينيين أسامة كحيل نفسه بعد أن اضطر إلى هدم جزء سطح منزله المشيد حديثا بسبب عدم مطابقته لمواصفات الجودة القياسية.
وقال كحيل لوكالة الأنباء الألمانية (د.ب.أ)، إنه اتضح له أن كميات الاسمنت التي حصل عليها من مصنع شهير في غزة للباطون الجاهز غير مطابقة للمواصفات وقوتها لا تتجاوز 160 درجة من أصل 300 يفترض توفرها.
وأضاف كحيل بكثير من الاستغراب " يحدث هذا مع رئيس اتحاد المقاولين فما بالنا بالسكان العاديين، إنها الفوضى بعينها تسيطر على حركة الأعمار في غزة".
وحظرت إسرائيل توريد الاسمنت وباقي مواد البناء إلى قطاع غزة أثر فرضها حصارا مشددا على القطاع في يونيو 2007 ردا على سيطرة حركة "حماس" الإسلامية على الأوضاع فيه. وتبرر إسرائيل هذا الحظر بإمكانية استخدام الاسمنت بأغراض عسكرية من قبل الفصائل المسلحة في غزة.
وحتى عندما أدخلت إسرائيل تسهيلات واسعة على حصارها لغزة استجابة لضغوط دولية منتصف عام 2010 فإنها أبقت توريد الاسمنت حكرا على المنظمات الدولية التي تنشط في القطاع.
أجبر ذلك سكان غزة منذ منتصف العام 2009 على التحول باتجاه الاسمنت المهرب رغم أنه أثمن من ناحية التكلفة وأقل جودة من ناحية مطابقته للمواصفات.
وشهد قطاع غزة خلال العام الجاري والذي سبقه حركة أعمار مكثفة استفادت بأكثر من 90 في المئة منها من كميات الاسمنت المهرب. غير أن كحيل يقول إن المفزع في هذا الأمر أن كل ما يتم تهريبه من أسمنت يخضع للتجار الموردين أنفسهم في غياب "هائل" للرقابة الحكومية.
وألقى رئيس اتحاد الصناعات الفلسطينية علي الحايك باللائمة على توقف عمل دائرة مطابقة مقاييس مواصفات الجودة التي يناط بها تحديد معايير كافة الواردات من المنتجات منذ بدء الانقسام الداخلي في يونيو 2007.
وقال الحايك ل(د.ب.أ)، إن توقف هذه الدائرة وغياب شكل قوي من الرقابة الحكومية سمح للتجار موردي الاسمنت بالتلاعب في نوعياته والجهات التي يتم استيراده منها. وذكر أن من يتعرضون لعمليات "نصب" في شراء الاسمنت المهرب غير المطلق للمواصفات هم في الغالب أصحاب مصانع الباطون الجاهزون الذين يستخدمونه لاحقا في أعمال المقاولات للسكان من دون علمهم بضعف نوعياته.
ويوجد في قطاع غزة 30 مصنعا للباطون الجاهز تعمل 16 منها بصفة رسمية ووفق تراخيص كاملة.
وقال الحايك إن المطلوب دور حكومي أكثر فاعلية في الرقابة على نوعيات كافة المنتجات ومنها الاسمنت المهربة عبر الأنفاق، وعدم الاكتفاء فقط بجباية أموال الضرائب عن هذه المنتجات. وتحصل حكومة حماس على 5 في المئة عن كل طن اسمنت مهرب والذي يصل سعره إلى أكثر من مئة دولار أمريكي في المعدل الطبيعي.
والمثير أنه لا تتوفر أي آليات قضائية بشأن تعويض من يتعرض للخداع بشراء اسمنت مهرب غير مطابق للمواصفات.
وقال رئيس اتحاد المقاولين كحيل إن الاتحاد أبلغ بأن خمسة منازل على الأقل ومصنع ضخم جرى هدم أجزاء كبيرة منهم بعد أيام من تشييدهم باستخدام الاسمنت المهرب وخضوعهم لفحوصات أظهرت ضعفا كبيرا في نوعية الاسمنت.
وأضاف " لا أحد يسأل عن هؤلاء أو يعوضهم ".
ويشير كحيل إلى أن معطيات لدى اتحاد المقاولين تفيد أن 20 في المئة على الأقل مما يجرى تهريبه من الاسمنت إلى غزة هو غير مطابق للمواصفات علما أن القطاع يحتاج 3 ألاف طن من الاسمنت يوميا.
وأثارت مواقف كحيل بخصوص قضية الاسمنت المهرب صداما بينه وبين الحكومة المقالة التابعة لحركة حماس وصلت حد منعه من السفر واستجوابه للتحقيق معه في عدة مناسبات.
وقال كحيل إن الإجراءات التي يتم اتخاذها ضده ترتبط بشكل كلي بقضية الاسمنت ومساعي اتحاد المقاولين للكشف عن "ملفات فساد " وتحذير السكان من مخاطر استخدام الاسمنت المهرب قبل إخضاعه للفحوصات الكافية.
بدورها أكدت حكومة حماس على التقليل من حدة الحديث عن خلل كبير في نوعيات الاسمنت المهرب إلى غزة.
وقال وزير الأشغال والإسكان في الحكومة المقالة يوسف المنسي ل(د.ب.أ)، إن الاسمنت المهرب في معظم كمياته مطابق للمواصفات بل وبمستويات عالية، مشيرا إلى ان وزارته تقوم بإجراءات فحص وتدقيق مكثفة على نوعيات الاسمنت.
واعتبر المنسي أن الخلل في استخدام الاسمنت المهرب يعود إلى إدارة استخدامه أكثر من نوعياته.
وذكر أن مشاريع الأعمار الكبيرة والأبراج السكنية تخضع لرقابة حكومية مكثفة فيما يخص استخدام الاسمنت المهرب، فيما المشكلة تكون واردة في حالة المشاريع الصغيرة التي قال إنه يصعب مراقبتها بشكل كامل.
غير أن المنسي أقر بأنه لا يمكن للحكومة في غزة الوصول إلى رقابة كاملة للأنفاق، لافتا إلى أن ذلك يبرز الحاجة إلى آليات رسمية بتوريد مختلف البضائع من خلال منطقة تجارية حرة أو معبر تجاري بشكل رسمي لتفادي أي خلل في النوعيات.
وقال إن المخاوف من جودة البضائع المهربة إلى غزة والتوتر الأخير على الحدود أثبت للجميع الحاجة للبدء بشكل عاجل في البحث عن بدائل رسمية ورفع الحصار عن القطاع بشكل نهائي.