تقع عيادة أخصائي العيون - في إحدى البنايات الشاهقة المطلة على ميدان الخلفاوي.. الساعة الآن السادسة مساءً.. ''الست فوزية'' - كما اعتاد المرضى أن ينادونها رغم وقوفها على عتبة العشرين من عمرها - تضع المفتاح في قفل الباب، المفتاح يدور دورتين، تدخل بعدها ''الست فوزية'' وهى تقول كعادتها: ''بسم الله الرحمن الرحيم'' تضغط برفق على مفاتيح الإضاءة الأربعة.. تسبح العيادة في بحر الضوء.. تجلس إلى مكتبها الصغير- ذي الدرج الواحد - الذي يواجه الباب مباشرة لتكون في استقبال المرضى، أو الزبائن كما تحب أن تقول.. الوقت يمر بطيئاً ثقيلاً.. تتأمل محتويات العيادة التي حفظت كل شبر منها.. حتى أنها يمكن أن تكتشف دون عناء حدوث أي تغيير طفيف في ترتيبها. في الوسط طاولة صغيرة، استقرت عليها بعض المجلات التي استهلكت تماماً، كماهو واضح، ومطفأة سجائر، كان لونها أبيض، استحال بنياً محروقاً بفعل السجائر، أما قوائم الطاولة فمغروسة في سجادة سميكة مزركشة، ضاعت ألوانها بفعل الزمن، حتى أن الحيرة تصيب كل من يحاول معرفة لونها الأصلي. حول السجادة مجموعة كبيرة من الكراسي الجلد، لانتظار الزبائن. هناك أيضاً مروحة صغيرة، وعلي طاولة أخرى راديو من الزمن الماضي، يصر الدكتور على الاحتفاظ به لأنه - على حد قوله - من رائحة أبيه. أخيراً هناك ساعة طريفة على الحائط، حولها بعض الصور الصغيرة متناثرة بغير نظام.. وثمة صورة كبيرة الحجم - مؤطرة بخشب مذهب - منها صورة لطفل يقبل طفلة، معلقة على الحائط المواجه لغرفة الكشف، ربما لأن الدكتور يحب أن تكون هى آخر ماتقع عليه عيناه عندما يغادر غرفته! دقات الساعة تشير الآن إلى السابعة تماماً.. الدكتور سيصل بين لحظة وأخرى. اعتدلت ''الست فوزية'' في جلستها وأصلحت من هندامها تحسباً لظهوره المرتقب، لكن.. أين الزبائن؟! غريب هذا الأمر! بالأمس كانت العيادة تكاد تختنق بالزبائن، حتى قبل أن تدق الساعة السابعة، مما جعل بعضهم يضطر إلى الوقوف أو الذهاب والعودة في وقت لاحق!! اليوم.. ولا زبون واحد حتى الآن! نظرت إلى النتيجة الموضوعة على مكتبها.. أتراها اخطأت وجاءت يوم الإجازة!! لا.. فاليوم هو الخميس، والدكتور راحته الأسبوعية الجمعة.. ياإلهي.. ولا زبون واحد حتى الآن.. يعني ولا قرش واحد حتى الآن.. و.. هاهو ذا أول زبون يهل! فركت يديها أسفل المكتب.. وقالت في همس: ''استعنا على الشقاء وعلى الزبائن بالله!'' رفعت صوتها: ''أهلاً.. أهلاً.. تفضل!'' دلف الزبون إلى داخل العيادة.. شاب وسيم هو، رغم ضخامة أنفه وشفتيه. الشعر مصفف إلى الخلف، يلمع بفعل الفازلين إذا سقط عليه الضوء، يرتدي قميصاً كروهات مفتوحاً، ليبدو من تحته تي شيرت محشورة في بنطلون جنيز ضيق. وأخيراً حذاء ضخم لابد وأنه مقاس 54.. ثم تلك النظارة المذهبة التي يضعها على عينيه. أشار الشاب إلى غرفة الكشف قائلاً: ''موجود؟'' بالابتسامة التي لا تتحدث بدونها قالت: ''سيأتي خلال دقائق'' وأضافت وهى تلقي نظرة على ساعة الحائط: ''نصف ساعة على الأكثر.. لاتقلق!'' أخرج الشاب حافظة جلدية فخمة من جيب قميصه: ''كم؟'' قالت في نفسها: ''هذا الشاب مقتر جداً في حديثه، كأنما يقتطع الكلمات من لحمه!'' قالت: خمسة عشر جنيها'' أخرج من حافظته ورقة بعشرين، تناولتها ووضعتها في المكان المخصص للعشرينات في الدرج اليتيم. أخرجت من المكان المخصص للفكة - خمسة جنيهات، نثرتها بنظام فوق سطح المكتب وهي تقول.. ''شكرا!'' تفعل ذلك دائما، انتظاراً للبقشيش! رفعت عينيها إلى عيني الشاب، كانت عينا الشاب تنظران إلى محتويات الدرج.. لم يكن ينظر.. بل كان يدقق النظر.. لابد وأنه رأى أوراق الجنيهات الخمسة. بسرعة تغلق الدرج.. تستعيد ابتسامتها.. تشير إلى صف المقاعد: ''تفضل بالجلوس!'' لملم الشاب الجنيهات الخمسة.. وضعها في حافظته ثم في جيبه. جلس تطل من عينيه نظرة امتعاض! أتراه أدرك لعبتها.. أدرك أنها لم تعطه ورقة من فئة الجنيهات الخمسة، لأنها تطمع في البقشيش.. في الحصول على واحد أوأكثر من تلك الجنيهات؟! أنبت نفسها قائلة: '' كان عليك أن تتقني اللعبة، كيف تقعين في هذا الخطأ!'' حاولت تبرير ذلك التصرف.. '' كثير من الزبائن يفضلون الفكة على الأوراق المجمدة'' غير أن القلق ظل يساورها: إذا كان الشاب قد أدرك اللعبة فلن يدفع بقشيشا! تلألأت حبات العرق على جبينها. قامت تدير المروحة، وفي لفتة ذكية وجهتها نحوه، وثبتتها على هذا الوضع، نظرت إليه، لكنه ظل كما هو جامد الوجه، ثابت النظرات، لم يتعطف عليها حتى ولو بكلمة شكر!! ''لن تيأس''، حدثت نفسها، '' لابد و أن هناك طريقة لانتزاع البقشيش منه!'' ستلجأ إلى وسيلة طالما أسفرت عن نتائج جيدة.. الإحراج! قالت له في رقة: ''هل تحب سماع الراديو؟'' التفت ناحيتها وقبل أن ينطق بحرف كانت قد أدارت الراديو.. ضبطت مؤشره على محطة تبث الأغاني القديمة والموسيقي الكلاسيك. انبعث من سماعة الراديو- التي مازالت تعمل بكفاءة رغم قدمها- صوت أحد المطربين العمالقة الذين هزوا الأفئدة بأغنياتهم في الماضي، ومازالوا. التفتت نحوه لترى نتيجة جهدها .. و .. كان الطبيب قد وصل وأخذ يحدثها: - '' كيف حالك يا ''فوزية'' ؟'' - '' الحمد لله يا دكتور '' . قالت في نفسها ''يا للحظ السيء'' . لقد كادت أن تنجح لولا وصول الدكتور. نظر الشاب إليها. أتراه لاحظ ضيقها.. وما تلك البسمة التي لاحت على وجهه؟! فتح الدكتور باب الغرفه وهو يقول: '' القهوة يا ''فوزية''! ثم التفت موجها نظره إلى الشاب. بعدها دلف الشاب في إثره إلى الغرفة. أسرعت تغلق الباب خلفهما. تحركت في بطء إلى المطبخ. شرعت في إعداد القهوة وعقلها مشغول بالبقشيش. هي تأخذ أجراً على عملها، لكنه مع البقشيش يفي بالكاد باحتياجاتها الأساسية هي والأسرة.. أمها المشلولة.. أخواتها الخمس اللآتي تعولهن جميعا. عادت تفكر في ذلك الشاب، لكن تفكيرها اتخذ زواية جديدة، لقد شعرت بشيء من المهانة عندما نثرت الجنيهات الخمسة على سطح المكتب أمامه وتناولها دون أن يعيرها التفاتا. تنتابها حيرة كبيرة: هل تفقد كرامتها، نظير أن تعيش هي و أسرتها.. وهل ستفقدها أم قد فقدتها فعلا؟! وما هي الفائدة في أن يعيش المرء دون كرامة وكبرياء؟! الموت أرحم بكثير، لكن الحياة أيضا غالية! كانت قد انتهت من إعداد القهوة. صبتها في الفنجال الأنيق.. ولم تنس وهي تضعه أمام الدكتور أن تلق نظرة سريعة على الشاب، لكن نظرتها هذة المرة كانت تختلف! في المرة الأولى كانت تنظر إليه نظرة رجاء.. أملا في الحصول على البقشيش، أما نظرتها الآن، فنظرة من سُلب منه شيئاً نفسياً إلى سالب هذا الشيء.. حقا.. فقد سلب هذه الشاب منها كرامتها بتصرفه ذاك! خرجت من الغرفة وأغلقت الباب خلفها. جلست إلى مكتبها.. حاولت أن تشغل نفسها بأي شيء آخر.. لكن عقلها تابع التفكير في هذا الموضوع بإصرار. لم يخطىء ذلك الشاب بإمساكه عن دفع البقشيش! أتكون هي المخطئة؟ كل يوم تمتهن كرامتها في وجود زبائن كهذا الشاب، وهي المسئولة عن ذلك. ها هو الباب يفتح والشاب يلقي السلام على الطبيب، ثم يغلق الباب خلفه. يقترب منها.. ترى هل غير رأيه؟! هل قرر أن يمنحها بقشيشاً بعد أن استراح لكشف الطبيب.. ربما! يده ترتفع إلي جيب قميصه.. الجيب الذي يحوي حافظة النقود.. أخرج حافظة نقوده.. ''تماسكي يا ''فوزية'' لا مجال الآن للتخلي عن الكبرياء''، حدثت نفسها. من الحافظة يخرج الشاب جنيها.. جنيها واحدا!! شاب بخيل فعلا! على أية حال، سترفض، حتى لو قدم لها عشرة جنيهات. تأهبت للرفض، والشاب يمد يده بالجنيه قائلا: - ''أرجو تغييره، فأطرافه مهترئة!'' هوت الكلمات كصفعة على وجهها فأفاقتها.. وهي التي حسبته سيعطيها بقشيشاً.. و .. وهذه الابتسامة التي يرسمها على شفتيه أهي ابتسامة ساخرة أخرى؟! لقد تمادى هذا الشاب في السخرية منها، فالجنية ليس به ما يستحق طلب التغيير.. ماذا يريد إذن؟! أيريد إذلالها مرة أخرى؟! هذا لن يكون! سترد له الضربة مضاعفة! قالت في إصرار: ''هات الجنيهات الخمسة!'' قال وبقايا الابتسامة الساخرة لا تزال على وجهه: - '' لماذا؟!''. - ''هاتها وسترى.'' أخرج الجنيهات الأربعة ونثرها على سطح المكتب كما سبق وفعلت هي. هكذا إذن.. لقد اتضحت الصورة الآن. لملمت الجنيهات الخمسة، وضعتها في الدرج ومنه أخرجت ورقة بخمسة جنيهات، قدمتها له و قد ارتسمت على شفتيها ابتسامة ساخرة خفيفة. في هذة اللحظة فقط، شعرت أنها استردت كرامتها.. و كبرياءها وعزة نفسها. تناول الشاب الورقة، وقال وقد بدت الدهشة على وجهه: ''أريد (الفكة!!'' قالت في حسم: ''لا توجد فكة.'' جعلته تلك العبارة يرتبك.. يضع نقوده في جيبه و ينصرف مسرعاً وهو يغمغم بكلمات غير مفهومة. تابعته بنظرها وهو ينصرف ورأسها مرفوع في اعتزاز وكبرياء.