أين اختفت المحميات السياسية؟ مبارك في أيامه الأخيرة، لم يعد يسمع، إلا أصواتا داخله، تعيد عليه روايات وحكايات من محطات قديمة في التاريخ. فوجئ مساعده المقرب، بأنه لا ينظر إليه، ولا إلى الملفات التي يحملها، يلتفت له ليروي له حكايات عن انتصار السادات على خصومه في المعركة التي سمتها الصحافة «ثورة التصحيح». ..حكى أيضا هزيمة يونيو 1967، وهي لحظة اكتشاف قدرات مبارك، حيث أخفى سربا كاملا من الدفاع الجوي في السودان لكي لا تضربه إسرائيل. الإخفاء، سر قوته العسكرية، يطير تحت الرادار، هذه موهبته، أكمل بها 30 سنة، تمساح يخفي دولته تحت الماء.، كما أخفى دولته على بعد أكثر من 500 كيلومتر عن العاصمة الحقيقية القاهرة. دولة خلفية، يجدد فيها مبارك العجوز خلاياه، ويشعر معها بأنه حاكم جمهورية خيالية، كل سكانها يلمعون، لا طلبات لهم إلا المتعة، يتداولون نميمة من نوع فاخر، مثل أنواع الأطعمة التي تصل ساخنة على الطائرات من باريس وسويسرا ولندن. الإخفاء لعبة مبارك، واختراع خطوط موازية لكل الأبنية التقليدية في الدولة المصرية، إنه عصر الاقتصاد الموازي (السرية) والسياسة الموازية (معارضته جماعة محظورة) والمجتمع المنفلت على قيوده الحديدية (الزواج العرفي.. وماشبهه). وشرم الشيخ هي تجسيد لدولة مبارك الخلفية. هناك بدأ سحر مبارك وموهبته، ليس في تهريب سرب طيران، بل في تهريب دولة كاملة... قامت وعاشت تحت رعايته في شرم الشيخ. دولة هرب إليها بينما كانت أسواره تسقط عن القاهرة. العاصمة الثقيلة بجيوش بيروقراطية وتركيبة سكانية وجغرافيا.. لم يقترب منها مبارك طوال 30 سنة إلا بالحصار وإطلاق جيوش موظفيه لامتصاص الشعب. القاهرة ثقيلة، تبدو لمن يفهم أطلال مدينة، نهضة، لكنها تحت احتلال بلا خيال ولا ذوق. القاهرة في عصر مبارك عاشت تحت سطوة لحظة انحطاط ممتدة، يقودها تمساح لا يشعر بأهمية المدينة التي يحكمها، حاصرها، وحاصرها، لم يفهم إلا أناقة المنتجعات، تركها ورحل ليصنع مدينته ودولته، بضربة أولى من شريكه في الصفقات السرية. مع وصول مبارك للحكم تفككت الحواجز بالتدريج بين السلطة والبيزنس. بدأت برجل في الظل يعمل باسم الرئيس في السلطة. وهذه كانت لحظة ولادة المحميات السياسية. النظام يريد أن يقول للعالم إنه ودع الاشتراكية بغير رجعة وإنه يفتح الأبواب أمام القطاع الخاص. وفي نفس الوقت لا يريد أن تنفلت الثروة بعيدا عن سيطرته. وتقرر أن تتم التقسيمة على «أهل ثقة» من اختيار النظام. هؤلاء كانوا الجيل الأول من الديناصورات الذين كبروا وسمنوا في رعاية «الدولة» وتحت جناحها. لم يشكلوا طبقة رأسمالية وطنية تنمو وينمو بها اقتصاد الدولة. لكنهم ظلوا في حدود مزرعة الديناصورات التي تديرها الدولة بالكامل. تضخمت الثروات بقوة الصاروخ. وتحرك الاقتصاد بسرعة السلحفاة. الهدف لم يكن النمو، بل توزيع الثروة بشكل يضمن سيطرة النظام عليها. ورجال الأعمال الذين وصلوا إلى المليار لم يصلوها لأنهم بنوا بنية صناعية حقيقية، لكن لأنهم دخلوا في إطار محمياته. هذه المحميات لم يكن لها استقلالية عن النظام، تعمل بأوامره وتتحرك في حدود رغباته. وتتضخم ثرواتها ما دامت تدفع النسبة المعروفة. هذه النسبة معروفة لكل من تعدت مشاريعه رقما معينا يسمى في لغة البيزنس السرية «المنطقة الحمراء». ستدفع النسبة وإلا لن يمر المشروع وستخرج عليك وحوش البيروقراطية لتذكرك أننا في دولة مش «سايبة». المحميات تتغير لها القوانين وتمارس نشاطها فوق القانون، بل تشعر بعد فترة أنها القانون. لكنها لا تستطيع الاستمتاع بهذه القوة بشكل مطلق. وتعيش في الخطر. فالغضب ممكن في أي لحظة، وعلى أهون سبب. ولن يعرف صاحب المحمية متى وأين؟ لكنه شعور بالخطر يجعله مندفعا في التكويش. ...الاقتراب من المحميات السياسية كان أيام مبارك يشبه لمس الديناميت. أين سيذهب هؤلاء بعد سقوط التمساح في متاهة لا عودة منها؟ وماذا سيحدث في اقتصاد يدار لصالح محميات سياسية ويوضع كله في دولة خلفية؟