بقلم الكاتب الكبير: عباس محمود العقاد عباس محمود العقاد اسم غني عن التعريف، ومن لم يقرأ العقاد من المؤكد أنه سمع عنه كمفكر ومثقف وموسوعي وعصامي، أما هذا المقال فقد نشرته دار المعارف ضمن كتاب شارك فيه عدد كبير من الكتاب والمفكرين في الخمسينيات. لا أحب الكتب لأنني زاهد في الحياة ولكنني احب الكتب لان حياة واحدة لا تكفيني.. ومهما يأكل الانسان فانه لن يأكل بأكثر من معدة واحدة، ومهما يلبس فانه لن يلبس علي غير جسد واحد، ومهما يتنقل في البلاد فانه لن يستطيع أن يحل في مكانين. ولكنه بزاد الفكر والشعور والخيال يستطيع أن يجمع الحيوات في عمر واحد، ويستطيع أن يضاعف فكره وشعوره وخياله كما يتضاعف الشعور بالحب المتبادل، وتتضاعف الصورة بين مرآتين. والكتب المفضلة عندي هي كتب فلسفة الدين، وكتب التاريخ الطبيعي، وتراحم العظماء، وكتب الشعر. انني اقرأ هذا الكتب واعتقد أن العلاقة بينها متينة، واذا كانت تفترق في الظاهر، لانها ترجع الي توسيع افق الحياة أمام الانسان. فكتب فلسفة الدين تبين الي أي حد تمتد الحياة قبل الولادة وبعد الموت، وكتب التاريخ الطبيعي تبحث في أشكال الحياة المختلفة وانواعها المتعددة، وتراحم العظماء معرض لأصناف عالية الحياة. القوية البارزة، والشعر هو ترجمان العواطف، فانني افضل من الكتب كل ما له مساس بسر الحياة. وتسألني ما هو سر الحياة، فأقول علي الاجمال انني اعتقد ان الحياة أعم من الكون، وأن ما يري جامدا من هذه الاكوان أو مجردا من الحياة ان هو في نظري الا اداة لاظهار الحياة في لون من الالوان أو قوة من القوي.. والحياة شيء دائم ابدي ازلي، لا بداية له ولا نهاية. فإذا كنت تستطيع أن تعرف سر الله عرفت سر الحياة، ولكننا مطالبون بأن نحفظ لأنفسنا في هذا المحيط الذي لا نهاية له أوسع دائرة يمتد إليها شعورنا وادراكنا. والكتب هي وسائل الوصول إلي هذه الغاية. وهي النوافذ التي تطل علي حقائق الحياة، ولا تغني النوافذ عن النظر. ومن جهة أخري فإن الكتب طعام الفكر، وتوجد أطعمة لكل فكر كما توجد أطعمة لكل بنية، ومن مزايا البنية القوية انها تستخرج الغذاء لنفسها من كل طعام. وكذلك الادراك القوي يستطيع أن يجد غذاء فكريا في كل موضوع. وعندي أن التحديد في اختيار الكتب إنما هو كالتحديد في اختيار الطعام. وكلاهما لا يكون إلا لطفل في هذا الباب أو مريض، فاقرأ ما شئت تستفد اذا كان لك فكر قادر أو معدة عقلية تستطيع أن تهضم مايلقي فيها من الموضوعات، وإلا فاجعل القابلية حكما لك فيما تختار لأن الجسم في الغالب يغذيه ما تشتهيه. ولا تغني الكتب عن تجارب الحياة، ولا تغني التجارب عن الكتب، لاننا نحتاج الي قسط من التجربة لكي نفهم حق الفهم، أما ان التجارب لا تغني عن الكتب، فذلك لان الكتب هي تجارب آلاف من السنين في مختلف الامم والعصور.. ولا يمكن أن تبلغ تجربة الفرد الواحد أكثر من عشرات السنين. ولا أظن ان هناك كتبا مكررة لأخري، لأني اعتقد أن الفكرة الواحدة اذا تناولها ألف كاتب أصبحت الف فكرة، ولم تعد فكرة واحدة. ولهذا اتعمد أن أقرأ في الموضوع الواحد أقوال كتاب عديدين، واشعر ان هذا امتع وانفع من قراءة الموضوعات المتعددة. فمثلا اقرأ في حياة نابليون أكثر من أقوال ثلاثين كاتبا وأنا واثق من أن كل نابليون من هؤلاء هو غير نابليون الذي وصف في كتب الآخرين. أما تأثير كل من انواع الكتب الثلاثة: العلمية، والادبية، والفلسفية، فهو أن الكتب العلمية تعلمنا الضبط والدقة، وتفيدنا المعارف المحدودة التي يشترك فيها جميع الناس، والكتب الأدبية توسع دائرة العطف والشعور، وتكشف لنا عن الحياة والجمال، والكتب الفلسفية تنبه البصيرة وملكة الاستقصاء وتتعدي بالقاريء من المعلوم الي المجهول وتنتقل به من الفروع إلي الأصول. وكل من هذه الانواع لازم لتثقيف الانسان، وتعريفه جوانب هذا العالم الذي يعيش فيه. وأنا افضلها علي هذا الترتيب: الادبية، فالفلسفية، فالعلمية. ولايستطيع القاريء أن يحصر مقدار الفائدة التي يجنيها من كتاب، قرب كتاب يجتهد في قراءته كل الاجتهاد، ثم لا يخرج منه بطائل ورب كتاب يتصفحه تصفحا، لم يترك في نفسه اثرا عميقا يظهر في كل رأي من آرائه، وكل اتجاه من اتجاهات ذهنه، فأنت لا تعرف حق المعرفة »الطريقة« التي تضمن الفائدة التامة من قراءة الكتب، ولكن لعل أفضل ما يشار به - علي الاجمال - هو ألا تكره نفسك علي القراءة، وأن تدع الكتاب في اللحظة التي تشعر فيها بالفتور والاستثقال. أما مقياس الكتاب المفيد فانك تتبينه من كل ما يزيد معرفتك وقوتك علي الادراك والعمل وتذوق الحياة فاذا جدت ذلك في كتاب ما، كان جديرا بالعناية والتقدير، فإننا لا نعرف إلا لنعمل أو لنشعر، أما المعرفة التي لا عمل وراءها ولا شعور فيها فخير منها عدمها. وعلي هذا المقياس تستطيع أن تفرق بين ما يصلح للثقافة والتهذيب وما لا يصلح.