عاجل - أول رد من ن إنستا باي على تعطل خدماتها    ترامب يطالب إسرائيل بضرب المنشآت النووية الإيرانية    6 شهداء وعدد من الجرحى في قصف مخيم النصيرات ودير البلح    حزب الله يعلن استهداف 23 موقعا لجيش الاحتلال    قصف إسرائيلي جديد يستهدف بيروت.. وتحذير عاجل من الاحتلال    سيرا على الأقدام.. استمرار دخول الوافدين من لبنان إلى سوريا بعد القصف الإسرائيلي    سيراميكا كليوباترا يكشف أسباب فشل انتقال هذه الصفقة إلى الزمالك    أول ظهور ل مؤمن زكريا مع زوجته بعد تصدره «الترند».. والجمهور يدعو لهما    درجات الحرارة في مدن وعواصم العالم اليوم.. والعظمى بالقاهرة 31    عاجل - حقيقة تحديث « فيسبوك» الجديد.. هل يمكن فعلًا معرفة من زار بروفايلك؟    سلمى الجيادي تودع «كاستنج».. وعمرو سلامة: أنتِ شاطرة    مهرجان «الموسيقى العربية» يفقد بريقه!    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 5-10-2024 في محافظة البحيرة    ميدو يكشف كواليس مثيرة بشأن رفض نجم بيراميدز الانتقال إلى الزمالك    سعر الريال السعودي اليوم في البنك الأهلي عقب ارتفاعه الأخير مقابل الجنيه المصري    حرب أكتوبر.. أحد أبطال القوات الجوية: هاجمنا إسرائيل ب 225 طائرة    غارة إسرائيلية جديدة على الضاحية الجنوبية في بيروت    خرجت عن السيطرة، وسائل إعلام أمريكية تكشف المستور بين الولايات المتحدة وإسرائيل    بالأدلة، وكيل القندوسي يدافع عن تصريحات اللاعب ضد الأهلي    وفاة جورج قرداحي في القصف الإسرائيلي على لبنان.. ما حقيقة الأمر؟    مصادر بالمركزي: انتظام خدمة إنستاباي بعد إصلاح عطل بسيط في السيستم    صحة المنوفية: تنظم 8365 ندوة على مستوى المحافظة لعدد 69043 مستفيد    الكشف ب 300 جنيه، القبض على طبيبة تدير عيادة جلدية داخل صيدلية في سوهاج    أعراض الالتهاب الرئوي لدى الأطفال والبالغين وأسبابه    الكويت.. السلطات تعتقل أحد أفراد الأسرة الحاكمة    اندلاع حريق داخل مصنع بالمرج    حبس تشكيل عصابي متخصص في سرقة أسلاك الكهرباء واللوحات المعدنيه بالأأقصر    إجراء تحليل مخدرات لسائق أتوبيس تسبب في إصابة 8 أشخاص بالسلام    تناولتا مياة ملوثة.. الاشتباه في حالتي تسمم بأطفيح    جثة على رصيف 10 بمحطة مصر.. والشرطة تحدد هويته    ندى أمين: هدفنا في قمة المستقبل تسليط الضوء على دور الشباب    عمرو أديب عن حفل تخرج الكليات الحربية: القوات المسلحة المصرية قوة لا يستهان بها    الحوار الوطني| يقتحم الملف الشائك بحيادية.. و«النقدي» ينهي أوجاع منظومة «الدعم»    تفاصيل مرض أحمد زكي خلال تجسيده للأدوار.. عانى منه طوال حياته    عمرو أديب عن مشاهد نزوح اللبنانيين: الأزمة في لبنان لن تنتهي سريعا    تراجع أسعار الذهب في محلات الصاغة بنهاية تعاملات الجمعة.. هل يواصل الانخفاض؟    دعاء قبل صلاة الفجر لقضاء الحوائج.. ردده الآن    ميدو: تصريحات القندوسي غير منضبطة وتحرك الأهلي «هايل»    ميدو: عدم الاستعانة ب سام مرسي في المنتخب أمر غير منطقي    لمدة 12 ساعة.. قطع المياه عن عدد من المناطق بالقاهرة اليوم    الجيش الأمريكي: نفذنا 15 غارة جوية على أهداف مرتبطة بجماعة الحوثي اليمنية    المصرية للاتصالات: جاهزون لإطلاق خدمات شرائح المحمول eSim    «مش كل من هب ودب يطلع يتكلم عن الأهلي».. إبراهيم سعيد يشن هجومًا ناريًا على القندوسي    هيغضب ويغير الموضوع.. 5 علامات تدل أن زوجك يكذب عليكي (تعرفي عليها)    معتز البطاوي: الأهلي لم يحول قندوسي للتحقيق.. ولا نمانع في حضوره جلسة الاستماع    عبداللطيف: طه إسماعيل قام بالصلح بيني وبين محمد يوسف بعد إصابتي في سوبر 94    رئيس جامعة الأزهر: الحروف المقطعة في القرآن تحمل أسرار إلهية محجوبة    البابا تواضروس الثاني يستقبل مسؤولة مؤسسة "light for Orphans"    لمدة 5 أيام.. موعد صرف مرتبات شهر أكتوبر 2024 وحقيقة تبكيرها (تفاصيل)    عز يرتفع من جديد.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم السبت 5 أكتوبر 2024    «ممكن تحصلك كارثة».. حسام موافى يحذر من الجري للحاق بالصلاة (فيديو)    تفاصيل الحلقة الأولى من "أسوياء" مع مصطفى حسني على ON    رشا راغب: غير المصريين أيضًا استفادوا من خدمات الأكاديمية الوطنية للتدريب    تناولت مادة غير معلومة.. طلب التحريات حول إصابة سيدة باشتباه تسمم بالصف    عظة الأنبا مكاريوس حول «أخطر وأعظم 5 عبارات في مسيرتنا»    بمشاركة 1000 طبيب.. اختتام فعاليات المؤتمر الدولي لجراحة الأوعية الدموية    أذكار يوم الجمعة.. كلمات مستحبة احرص على ترديدها في هذا اليوم    «وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ».. موضوع خطبة الجمعة اليوم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سنوات اليتم المتواصل
نشر في أخبار الحوادث يوم 05 - 11 - 2016

سأبوح لكم بسر حاولت أن أخفيه وأداريه عنكم وعن نفسي،‮ ‬لأنساه أو أتناساه فأريح قلبي من عبء المخاوف التي أراها كل ليلة،‮ ‬مناما مخلوطا بالصحو أو كابوسا‮ ‬يتكرر بنفس تفاصيله وشخوصه وبناياته،‮ ‬ولعلني أرجأت البوح لكم خوفا عليكم لو صدقتموني أو خوفا منكم لو كذبتموني،‮ ‬هي حالة نادرة تتعادل فيها المخاوف علي الذات وعلي الآخر لو بحت بتفاصيلها لتتعادل مخاوفي منكم وعليكم لو بدت حكايتي محبوكة بحساباتكم،‮ ‬فلو صدقتموها زودتم مخاوفي منكم وعليكم لأنكم رفاق العمر وشركائي في مشوار المحاولات المتواصلة لتحسين حالتنا في بيوتنا ومطالب عيالنا بمردود سعينا الهزيل،‮ ‬ولأنني صرت في أنصاف الليالي أتسمع صوته‮ ‬يناديني لأفتح له باب مسكني فأقوم من رقدتي مرعوبا،‮ ‬ثم أتجاسر علي الوقوف والاقتراب من الجدار الذي‮ ‬يتواري خلفه وأتواري خلفه،‮ ‬واعيا أنه جدار هزيل مصنوع من عيدان الحطب والبوص المتجاورة وقد تسمح لطرف سكينة بالدخول علي مهل،‮ ‬وحينها‮ ‬يتأكد هو مثلما أتأكد بأنه سلاح قاطع،‮ ‬وحدَّه العابر ممدود لنصف المتر أو‮ ‬يزيد،‮ ‬لامعا ومسنونا وجاهزا للوصول لأي حيز‮ ‬يتجه ناحيته،‮ ‬أسأله للمرة الألف عن مطلبه ويرد بنبرات صوته الخافت متظاهرا بالرقة المفتعلة ليطمئنني بأنه لو دخل مسكني فلا ضرر ولا ضرار،‮ ‬وربما‮ ‬يتشاكي لأنه لسوء حظه محاصر بروايات شاعت عن الشر الكامن بداخله وهو البريء المسالم،‮ ‬بل والعاشق لكل ناس الشارع والحي،‮ ‬ثم‮ ‬يقسم أنه بريء ووحيد‮ ‬يسعي للحصول علي ونسه المستحق من بعض الناس الودعاء أمثالي،‮ ‬فأتوه ثم أتنحنح لأسكته لفترة تتشكل فاصلا لأتنفس بحرية وأستعيد قدرتي علي مواصلة الوقوف بعد الجلوس فترة لا تزيد عن دقائق علي طرف المقعد لكي ألملم خلالها قدراتي،‮ ‬وأعاود الوقوف لسماع كلماته،‮ ‬أفكر في فتح الباب ليدخل وكأنه ضيفي وأبقي في مكاني في حيز فاصل بين الزقاق الذي‮ ‬يقف فيه وجدار مسكني وهو‮ ‬يرفع سلاحه القادر علي اقتحامي بعبور الجدار وتحريك طرف سلاحه العابر ليطالني،‮ ‬فأتراجع للوراء وأعاود الجلوس علي فراشي،‮ ‬ثم أتمدد لأرتاح ويعاودني النوم فأنعم بالغفلة الخاطفة وأرتاح من العناء والوقوف بقدرة الساقين علي حمل بدني بغير هزهزة تنذرني بالسقوط أرضا،‮ ‬لكن الغفلة لا تطول،‮ ‬لأنني أصحو علي نفس الصوت المتوعد المهدد،‮ ‬والمسنود علي سن سلاحه الباتر ممسوكا بكفه الغليظ،‮ ‬وعلي نحو متكرر أقوم مكرها لأقترب من سن سلاحه العابر لجدار المسكن والممسوك بكفه،‮ ‬ومرة أخري‮ ‬يدور بيننا الحوار بتفاصيله وينتهي بإنسحابي من المواجهة والتمدد علي فراشي لأحمي نفسي من السقوط الناتج عن عجز القدمين عن حمل البدن لأي مدة تزيد عن قدرتهما علي حملي أو إحتمالي،‮ ‬يتوه الوعي مني فأشعر بالغفلة بلا مقدمات ولا أشعر بغير نزيف الدم‮ ‬يبلل صدري،‮ ‬وأتحسسه بالكفين فأراه‮ ‬يتساقط نقاطا تبعث اليأس الكامل من الخروج سالما من تلك الحالة،‮ ‬ووجه هذا الرجل الواقف قبالتي بسلاحه المشهر ثابتا في مكانه ونصله‮ ‬يقترب ببطء من صدري،‮ ‬ولا أملك القدرة علي الحركة لأفر منه بينما أسمع صوته وهو‮ ‬يتضاحك شامتا وواثقا من قدرته علي تأدية مهمته التي كلفوه بها ليتخلصوا مني،‮ ‬وبلا مؤشرات ليتبين من‮ ‬يأتي ليتحقق فيستخلص بوعيه من هو الجاني أو من هم الجناة؟ لكنني ساعتها سأكون قد تحولت إلي ضحيته‮.‬
‮ ‬ظللت أواصل محاولاتي ساعيا بدأب مسنودا علي رغبتي في تنفيذ وصايا أبي التي كان‮ ‬يواصل بثها بلسانه علي مسامعي في بدايات صحوي للحياة،‮ ‬ولأن تنفيذ وصاياه كان عسيرا منذ البدايات بمفرداتها التي أسمعها منه بلا دلالات لوعي طفله الذي لم‮ ‬يكتمل نموه في شهره الأول أو‮ ‬يتشكل وعيه،‮ ‬لكن بعض معاني وصاياه بكثرة التكرار كانت تدعوني وتقودني لأتحسسها،‮ ‬أحاول أن أتفاعل معها في بعض الحالات لو كانت متشابهة،‮ ‬تقودني لدخول الحيز المفتوح للتفاعل معها،‮ ‬فهل كنت أستجيب لبعض مقاصده دون وعي؟ فيطمئن لإمكانيات بقائي ليراني تعويضا عنها بعد رحيلها في أعقاب ولادتي،‮ ‬وكان مرور الأيام بعد ذلك‮ ‬يدعوني لأحشد قدراتي وأحاسيسي أكثر لأبقي حيا دون وعي أو تدابير،‮ ‬لكنني تعلمت في الأيام والشهور التالية بعد ذلك بعض أمنياته وأمنياتي واقتربت من صدق إحساسي به مصحوبا برضاه عني وهو‮ ‬يضمني بأحضانه بحب ويقبلني فأشعر بدفء،‮ ‬ربما كنت أتلهف لأخطو خطواتي الأولي بالفطرة وأحشد قدراتي وأتابعه وأتفهم بعض مفرداته فأستجيب لتنفيذها وأنا أبدأ الحركة،‮ ‬فأزحف نحوه مستجيبا لإشاراته وأبتسم له مستجيبا لبسماته،‮ ‬لابد أنني تمكنت بمساعداته لأخطو أولي خطواتي وربما أمشي نحوه أو أجلس تنفيذا لوصاياه التي‮ ‬ينصحني بها لأرتاح دونما كلل أو ملل،‮ ‬وعزمه‮ ‬يتنامي متسارعا ويصلني علي مهل،‮ ‬كنت أستعيد وجه أبي إذن وهو‮ ‬يوصيني بالاعتماد علي روحي في مستقبل أيامي،‮ ‬ويأمرني بأن أمنع نفسي من طلب المساعدة من أحد بعد أن صار ممكنا أن أسير بجواره،‮ ‬مؤكدا لي أن طلب المساعدة ضعف واعتراف مسبق بعجز مستهجن لا‮ ‬يليق بي،‮ ‬لعلني في تلك المرحلة الحرجة لم أكن جاهزا لأتعرف علي تقاطيعه،‮ ‬لكنني أسمع صوته في الصحو والمنام بنفس إيقاع العبارات التي‮ ‬يحدثني بها عن نفسه وأنا في سنوات الطفولة المبكرة،‮ ‬فيجهزني لأؤمن بفكرة مؤداها أن أرواح من رحلوا لا تغادرنا أو تتخلي عنا،‮ ‬تحوم حولنا بإرادتها لتواصل دورها معنا لتحمي السلالة من مصاعب الحياة بتوعيتنا بما‮ ‬يلزم أن نقوم به لنكمل مشاريعنا في الحياة لصالح الأجيال التالية،‮ ‬فهل‮ ‬يمكنني أن أبوح لكم بما شعرت به في تلك المرحلة الغامضة؟ وأرجو أن تتمهلوا قبل إتهامي بالجنون،‮ ‬هي مغامرة مني علي أي حال ولم‮ ‬يكن لدي بديل أو قدرة علي تجاهلها لأنني لا أملك‮ ‬غير طرح فكرتي متمنيا أن تتوافقوا معي فربما أنال بعض قبولكم لفكرتي أو علي سخرياتكم لأن الكامن بأعماقي كان شعورا بالطمأنة لأن سلالتنا منسوبة لفراعين قدامي،‮ ‬حدثونا عن خلود الأرواح في بردياتهم وحنطوا أبدان من رحلوا،‮ ‬فأسكنوهم في المقابر البراح التي حولوها حصونا ببطون أهرامات وسراديب الجبال الممدودة،‮ ‬فتحولت إلي علامات تتحدي الفناء،‮ ‬ونحن نزورها واثقين أن الأرواح الهائمة ستسعي في الزمن الآتي لتسكن أبدانها مرة أخري،‮ ‬وبعد أن تتجدد خلاياها تخطوا خطواتها الأخيرة لتؤكد خلودها،‮ ‬وعفوا لأنني أواصل مشواري معكم ليتأكد تصديقكم لما كلّفت روحي بأن أنسخه لكم بالقلم المستورد الذي‮ ‬يتشابه مع قلم جالس القرفصاء،‮ ‬وقد كلف روحه بتسجيل خطايا الفراعين وأعوانهم ولكنه لم‮ ‬ينس عطاياهم لرعاياهم وبراعتهم في الدفاع عن حدود وطنهم ضد الغرباء،‮ ‬لأن بعضهم سعوا لكسوة العريان وإطعام الغرباء الّذين لم‮ ‬يتوافر قوتهم الكافي ببلادهم فهجروها وجاءوا إلينا وسكنوا بيوتا آمنة وتعايشوا مع فلاحنا القديم،‮ ‬وكان بينهم أرباب حرف تعلموها من بلاد بعيدة وسكنوا في مربعات تخصهم،‮ ‬لكنهم تعاملوا مع الكل خياطين وخبازين وصناع أوعية وقد علمهم أصحاب الدكاكين أصول كل صنعة،‮ ‬وبمرور الأيام تآلفوا مع أبناء تلك المدن وصاروا‮ ‬يتكلمون نفس اللغة ويؤمنون بنفس العقيدة،‮ ‬يبحثون عن الرزق مقابل العمل وينالونه ويتقاضون أجورهم وقد صاروا متمصرين،‮ ‬يشاركون ناسنا في أركان هذا الوطن بكل ألفة وسلام،‮ ‬يعبر أيهم الحدود ليتاجر أو ليمتهن مهنة ويأخذ أجره دونما تفرقة،‮ ‬ولأن الزمن‮ ‬يطول كان‮ ‬يتعلم لغة الناس ويحاورهم وقد صار واحدا منهم وأرض الوادي براح،‮ ‬فالنهر‮ ‬يرويها والنبت‮ ‬يكسيها والوافد‮ ‬يذوب فيها ويلتحم ببنيها‮ .‬
‮ ‬لكن هذا الوطن تحول وصار في بعض الأزمنة مطمعا لمن‮ ‬يتجاسرون ويقتحمون حدوده،‮ ‬غرباء أو‮ ‬غزاة بأسلحة تستبيح دمنا وأرواح الأبرياء فيصحوا ناسنا من‮ ‬غفلتهم ويحملون السلاح ليدافعوا عن أراضيهم ويحموا ناسهم،‮ ‬يفر الغزاة من مكان إلي مكان فلا تطيب لهم أرض ولا تحميهم أو تفيدهم أسلحة الغدر حتي وهم‮ ‬يتحصنون بأرض لا تخصهم فروا إليها لتكون ملجأهم،‮ ‬لكن الأرض التي لاتخصهم عجزت عن حمايتهم،‮ ‬وأرواح‮ ‬الأجداد في بلادنا
‮ ‬لم تقتنع بفرار الغزاة من أرضهم فطاردوهم ليتأكدوا من فناء المعتدين،‮ ‬وأن‮ ‬يكتمل إنكسارهم ولا تطيب لهم حياة،‮ ‬فيعاودوا الفرار بعد الفرار والآباء والأجداد‮ ‬يتعقبونهم ويدمرون قلاعهم وحصونهم،‮ ‬ويأسرون من احتموا بسراديبهم فلا تحميهم،‮ ‬ويتحولوا من‮ ‬غزاة‮ ‬غادرين إلي أسري وعبيد حفاة ربطهم من أسروهم بالحبال من أعناقهم وعرضوهم للبيع في أسواق الرقيق‮ ‬يمتلكهم من‮ ‬يدفع ثمنهم لأنه اشتراهم وامتلك مفاتيح قيودهم‮ ‬،‮ ‬فهل نستجيب لوصايا الأجداد والآباء الذين سبقونا وعاشوا علي هذه الأرض وزرعوا بعقولنا بذور مشاعرنا لنعشق أرضنا ونقتدي بوصاياهم المكتوبة علي أوراق البردي،‮ ‬والتي‮ ‬يمكن أن تتشابه مع وصايا كان أبي‮ ‬ينطق بها أحيانا؟ لابد أنكم تتذكرون ما بدأته آملا في التواصل معكم،‮ ‬فلنواصل السعي في كل مرحلة من مشاويرنا،‮ ‬ومراحل التاريخ تتوالي وتتتابع متسارعة أو بوهن لكنها لا تكف،‮ ‬تبقي لنا في الذاكرة وصايا‮ ‬يلزم علينا أن نستجيب لها لأنها مغزولة بكتان أو صوف أو حتي تيل زرعته أجيال لينتفع بها أجيال تأتي بعدهم،‮ ‬تماما مثل نخلة البلح التي تعبر بذرتها الزمن،‮ ‬وقد وضعها أحد الآباء أو الأجداد في طمي الأرض بناصية حقله أو بصحن داره وبغير أمنيات أن‮ ‬يعيش حتي تنمو بذرتها علي مهل وتصير نخلة مثمرة،‮ ‬ربما لا‮ ‬يصل شيئا من ثمارها لفم من زرعها في زاوية حقله،‮ ‬ورغم أنه‮ ‬غرسها بيده ورعاها بحيز من حقله أو في صحن داره،‮ ‬فتثمر أول طرحها وتجود بالثمار للآخرين،‮ ‬بذرة حفر لها من حفر لفروعها سكنا،‮ ‬ولم‮ ‬يبخل ببذرتها علي أرضه ولا بجهده في الرعاية والمتابعة لكنه زرعها للأجيال التي تأتي بعده،‮ ‬أو تسكن داره أو تزرع أرضه وقد تحولت ميراثا شرعيا للأبناء والأحفاد‮. ‬
‮ ‬سأعود بكم لما حدثتكم عنه قبلا حول الوصايا المبكّرة في حياتنا،‮ ‬عن وصايا سمعتها من أبي وطالبني بألا أطلب مساعدة الغرباء أو الأقارب،‮ ‬لأن طلب المساعدة إنكسار وتواكل وإعتراف بالعجز عن التجريب،‮ ‬كانت همسات وهمهمات وغمغمات وتربيتات وكلمات لم نعرف دلالاتها،‮ ‬لكننا سمعناها من آباء الآباء أو الأمهات والجدات ونتذكرها فأبوح لكم الآن بأنني لم أنعم بحضن الأم أبدا،‮ ‬وقد كنت أقرب للرحيل المبكر لحرماني من كفها الحنون الذي لم‮ ‬يتحسسني ليروي عطشي أو ليزيح جوعي في الوقت المناسب وكثيرا ما كان‮ ‬يصيبني الجفاف في بداية الحياة فيكويني،‮ ‬وكم كابدت منه بأشكال مغايرة طوال أيام العمر،‮ ‬ولولا الرجل الذي كان‮ ‬يضمني ويلقمني حلمة صناعية لتنقل لبنها لأمعائي ما عشت ولا بحت لكم بما قام به أبي،‮ ‬وقد كنت أشعر بخشونة بعض الشعيرات النابتة في ذراعه أو صدره ممزوجة بالجرعات التي أمتصها فتفزعني خشونة كفيه وأتحرك راغبا في الابتعاد عنها لكنه كان‮ ‬يواسيني ويداويني قبل أن‮ ‬يدفئني بصدره البراح الخالي من النعومة،‮ ‬كان‮ ‬يضمني إليه برفق أستشعره أكثر كلما مرت بنا الأيام أو الأسابيع المتعاقبة أو الشهور فأشعر بالراحة،‮ ‬وكان‮ ‬يوصيني قبل أن أدرك دلالة الكلمات أو الوعي بها إلا بمشاعر‮ ‬غامضة أتمني أن أتحقق منها بطرح سؤالي أو إستفساري،‮ ‬لكنني لا أنطق بكلمات أو أحاول نقل ما أحس به إليه ولا أتمكن أبدا لكنها كانت حالات تتطلب الاستجابة لوصاياه التي لم أتفهمها منه فظلت في مربع المشاعر المخزونة في الحشايا،‮ ‬عن الشبع والجوع وقبول العطايا والحرمان،‮ ‬أو تناول الجرعات دونما طلب،‮ ‬والمساعدات المجانية لا تتشدق بالعطاء أو تتباهي برحمة الضعفاء أو رعاية اليتيم‮ .‬
‮ ‬
آمل أن نتوافق في نهاية المطاف تحقيقا لأمنياتي وهي جزء من أمنياتكم لأنني منكم وأنتم مني،‮ ‬وسنطوف معا لنستعيد النتائج التي تأكدت بمساعينا المتواصلة لمعرفة من بذلوها من العلماء الذين سبقونا،‮ ‬وقرأوا تواريخ البشرية واستنتجوا تلك النتائج المؤكدة عن وادينا الذي كان مسكونا بالأجداد والجدات والأمهات والآباء في الأزمنة العتيقة،‮ ‬وكيف رصدوا بمساعيهم أو بذلوا بجهودهم وقدراتهم المؤكدة ما كان مطلوبا منهم للوصول إلي بدايات تعمير هذا الحيز الجغرافي الذي إتخذوه سكنا وموطنا بعد أن عدلوا أركانه ومجري نهره الذي تحول ليصبح واديا لذات النهر فيزرعوه ويأكلوا ثمار أرضه،‮ ‬يبدّلوا همهماتهم إلي كلمات تخصهم لتتشكل لهم لغة درّبوا بعض أطفالهم علي فهم مفرداتها كلغة‮ ‬يسطرونها علي الجدران وأوراق البردي لتتعلمها الأجيال المتتابعة،‮ ‬وربما سأل بعضهم البعض عن حكمة وجودهم في هذه الدنيا فتاهوا،‮ ‬ثم سألوا بعضهم مئات المرات عن سر الحياة وسمعوا ردودا تتفق أكثر مما تختلف علي أوراق البردي المخطوطة بريشة جالس القرفصاء،‮ ‬وفي بنايات تلك الأهرامات والمسلات كانوا‮ ‬يستلهمون الرسوم والهياكل والوجوه وكل الأدوات المستخدمة في الزرع والجمع والحفر والحصاد،‮ ‬لتتشكل حروفا منطوقة‮ ‬يسطرونها ويعلمون صغارهم كيفية نطقها وكتابتها دونما خلاف،‮ ‬ولعلهم توافقوا علي أسماء الفراعين القدامي وسعوا لتفسير بدايات حياتهم وخالق الأحياء،‮ ‬تتباين الإجابات أحيانا لكن فكرة وجود الإله مؤكدة وقد توافقت معها كل العقول،‮ ‬حكاما ومحكومين وكهنة‮ ‬يطلقون علي كل إقليم اسم إله لهذه الحياة،‮ ‬تبني له المعابد وقد تتشابه أو تختلف لكنها تؤمن برع أو آمون أو ست أو حورس أو إيزيس أو أوزوريس،‮ ‬وقد أحكي لكم ما قاله فرعونهم إخناتون الذي دعاهم لبناء مدينة جديدة سماها‮ "‬آخيتاتون‮" ‬لتكون عاصمة جديدة لها معبد لإله واحد إسمه آتون،‮ ‬فهل كان اسمه آمون في الزمن العتيق؟ أما إخناتون فقد انشغل عقله بالموت والحياة والإله الواحد فأنشأ له تلك المدينة لتكون مقرا لحكمه ودعوته للتوحيد بعد قراءة ما أتيح له من مخطوطات،‮ ‬وفكرتنا عنه وعن مشواره تتطلب مزيدا من القراءات لبعض المخطوطات التي تتكدس فوق رفوف المعابد والمكتبات الشهيرة بعواصم العالم مرورا بعشاق البحوث والمعرفة وبعض الدارسين لأصول الحياة ومصائر البشر بعد الرحيل،‮ ‬وربما كان بعض من آمنوا‮ "‬بآتون‮" ‬مرضيا عنهم تماما من الكهنة وإخناتون ومغضوبا عليهم ممن آمنوا بإله آخر لم‮ ‬ينكروه،‮ ‬لم‮ ‬يكن الأمر هينا أو بسيطا بل عسيرا‮ ‬يحتاج للمزيد من المعرفة وتطويع الأدوات ليكون المردود متوافقا مع تركيبة العقل الإنساني المتنوع القدرات الذي‮ ‬يتقبل تفاسيرا متنافرة أو متوافقة،‮ ‬ولأنها تربك العقلاء من العلماء والدارسين الباحثين مع الكهنة لجذور البشرية من كل جنس أو ملة وستتداخل أمنياتنا وتزول مخاوفنا بالإيمان بالإله الواحد حسبما آمنوا،‮ ‬هو توافق في نهاية المطاف لأننا في كل أطراف الدنيا تساءلنا عن أرواح الآباء والأجداد الذين رحلوا عنا وشعرنا أن أرواحهم مازالت تحوم حولنا موغلة في الإقتراب أو التباعد برغم مفارقتها لحياتنا،‮ ‬لكنها تبقي لتحوم حولنا وتنفي فناءها وتعلن أنها ترفض الفناء المجاني لأرواحهم،‮ ‬وقد سبقونا في الحياة أزمانا نخطئ في حساباتها ونختلف،‮ ‬لكننا نستعيد ما توافقنا وإتفقنا عليه مع بعض من عاشوا في البدايات لأننا نؤمن أن أرواحهم باقية لتحوم في الفراغ‮ ‬المفتوح الذي لا تحده حدود أو‮ ‬يفنيه الزمان من أي مكان،‮ ‬وقد تتباين القناعات شكلا في بعض الأقاليم لكنها في نهاية المطاف تؤمن بأن الخالق الذي تخيلوه أشكالا وكيانات بتوصيفات متباينة لكنهم اختاروه حتي جاء الأنبياء والرسل وفسروا لهم الوجود ورب الوجود الذي هو خالق الشمس والقمر والنجوم والبراح المسكون،‮ ‬صدقوهم وراجعوا ذاكرتهم وتأكدوا أنهم فكروا في الموت والفناء والخلود والعدل والظلم والحرب والسلام أيضا قبل أن‮ ‬يأتيهم الأنبياء والرسل لهدايتهم بوجود الرب الخالق فإستجابوا لهم عملا بالوصايا التي جاءتهم من الرسول أو النبي الذي دعاهم واستجابوا لوصاياهم كقواسم مشتركة،‮ ‬ولأن البعض منهم عارض واعترض ورفض كل ما قيل لهم،‮ ‬وأنتم بالقطع تعرفون أكثر مني جذور تركتهم الموروثة في حيزها البراح الذي اتسع واتسع ليشمل كل أركان الدنيا وقيل فيها الكثير والكثير،‮ ‬لكنها في نهاية المطاف كانت إضافات لقضية الوجود والعدم أو الحياة والموت والبقاء والفناء والشك واليقين،‮ ‬وتفاسير البشرية من بدايات البدايات الأولي وملايين الإجتهادات لا تنسينا موقعنا من الإعراب ومكانتنا في ريادة هذه الدنيا دونما تعصب أو تعال أو تعنصر مقيت،‮ ‬ربما أكتفي ببعض المؤشرات الخاطفة لتأكيد توافقنا معا لأننا أبناء هذه الأرض بموقعها الجغرافي وجيناتها الوراثية التي تسري في خلايا دمي كما تسري في خلايا دمائكم،‮ ‬وتؤكد لنا أننا بالعدل والعقل الموروث تواصلنا ووصلنا إلي نقطة الارتكاز التي صرت مشغولا بها،‮ ‬وقد بثها أبي بمسامعي قناعات عاش‮ ‬يتحاشي عبء مواجعه بكلمات‮ ‬يبوح بها لنفسه وأسمعه فأصدقه،‮ ‬وربما أطالبه بزيارة تالية فيهز لي رأسه ويعدني في أعقاب كل زيارة،‮ ‬أنه سيعاود المجيء ليزور واحدا من المتاحف الأثرية في العاصمة أو عاصمة الإقليم وهو‮ ‬يهز رأسه أمام المعبد علامة الموافقة،‮ ‬ويحدثني عن سراديب جبال حفروها ووضعوا فيها تماثيل كبيرة وصغيرة ومقاعد وبرديات وأدوات كالسكاكين والأطباق في تلك البيوت العتيقة،‮ ‬ومعها ثياب الرجال مع ثياب النساء المحفوظة في الصناديق الخشبية وتتشابه مع صناديق جداتنا في البيوت المبنية بالطوب اللّبن وأركان الحجرات والقاعات والمنادر،‮ ‬وكنا نري في الناحية الأخري من أركانها ما‮ ‬يؤكد أنها بقايا تركة لأجداد ورثنا عنهم هذه الأرض،‮ ‬وما نراه في أركان تلك المتاحف في الأقاليم من أدوات الحرب التي تخصهم في ناحية وتلك التي تخص الخصوم الذين فروا من جحافل جيوشهم في الناحية الأخري،‮ ‬وأتخيل وأنا معكم أنني أراها حربا بيننا وبين خصوم عبروا حدودنا ودفعوا أجدادنا دفعا لتحرير الوطن من رجس فلول الغازين ونجاساتهم‮. ‬
‮ ‬
سأعاود البوح عن رعاية الأب في مراحل العمر الأولي لأكمل ما بدأته عندما بحت لكم بما قدمه لي من وصاياه لأن البدايات تحمل داخل الداخل منها مقدمات نهاياتها المؤكدة،‮ ‬فالدنيا بحساباته كانت وستبقي دوارة،‮ ‬فكم طلعها ناس كانوا‮ ‬يسكنون تحت الأرض أو‮ "‬بواطيها‮" ‬وتبدلت أحوالهم بقدرة القادر‮ "‬ليصبح واطيها عاليها‮" ‬كما شاعت العبارة لتبرير الطلوع الصعب بالقسمة والنصيب وقدرة القادر أو حتي البخت والمكتوب،‮ ‬ليكف الناس عن اندهاشهم وبذل المساعي المتواصلة لمعرفة أسباب الطلوع‮ ‬غير المبرر لمن طلعوا من قاع القاع لقيادة تجار الخردة أو الزبّالين والكنّاسين مثلا بدون حقوق واضحة،‮ ‬ولأن البخت والنصيب وحده قادر علي تبديل الأحوال،‮ ‬فلا داعي للسعي لمعرفة الأسباب،‮ ‬لأن السعي لا‮ ‬يستحق اعتراضاتنا علي أدوات السلب والنهب المخفية وقد ظهرت وبانت وأعلنوا وجودها علي‮ ‬غير توقع،‮ ‬فإن التفكير في الحسد لن‮ ‬يفيدنا ويساعدنا لنتعرف علي أسباب المتغيرات الحقيقية ما لم نعترف بوجود النصيب الغلاب لنا،‮ ‬وبالقسمة والمكتوب أو قدرة القادر طمعا في‮ ‬غفرانه،‮ ‬علي هذا النحو كان‮ ‬يحدثني أحيانا فأتفكر وأهز دماغي متظاهرا بأنني أوافقه،‮ ‬بينما في داخلي سؤال عن مغزي هذه الحياة وأسباب وجودنا أو رحيلنا عن الدنيا بلا مقدمات وفي لحظات حرجة،‮ ‬تماما مثلما جري لي عندما فقدت أمي وهي تلدني وتمنحني عمرها ساعة الرحيل الصعب وأنا مولودها،‮ ‬واليتم جحيم‮ ‬يتجسد ماردا أو مجموعة مردة تسعي لعذاب أمثالنا علي سطح الأرض ولا تكف أو تشبع‮.‬
كان‮ ‬يحدثني بصوت خافت أحيانا فأقول لنفسي‮ "‬لابد أنه سيبوح لي بسر جديد ويكلفني بأن أداريه في ذاكرتي المعطوبة‮" ‬فأسمع كلماته بغير تركيز لأنني لا أعي مقاصده لصغر سني،‮ ‬ومحاولاتي لفهم مفرداته دونما مقدرة علي الوصول إلي حل‮ ‬غير النسيان أو التناسي المتعمد لبعض ما أسمعه منه،‮ ‬أو من بعض زملائه الكبار في المدرسة أو الشارع لأنني لا أملك ما‮ ‬يلزمني لكي أشعر بالندية أو القدرة علي التعايش مع تفاصيل الحياة كما‮ ‬يتحدثون عنها،‮ ‬ولابد أنني كنت أشعر بالكثير من انعدام الخبرة لأسباب لم أجرؤ علي كشفها أو البوح بها حتي لنفسي،‮ ‬لعله نوع من ميراث لنقص الجسارة أو الشعور بأنني مثلهم بلا صدر حنون‮ ‬يحتويني ويدافع عني ويقدم لي ما أطلبه أو أتمناه،‮ ‬ورغم وجود الأب المتقارب مني والذي‮ ‬يرعاني ويحميني ويمنحني وقته وحبه وثمرات سعيه،‮ ‬كنت أشعر بأنني لست شريكا لهم،‮ ‬لأنني كنت محروما من لمسة حنان الأم منذ‮ ‬
البدايات ووصولا لأزمنة تتطلب نسيان المواجع والتفكير في المستقبل،‮ ‬ولكنها زودت بابتعادها عني‮ ‬غصبا عنها مواجعي،‮ ‬وقد كنت أحاول بكل طاقتي أن أداريها عمن أتعامل معهم،‮ ‬وبرغم ما كان‮ ‬يقال لي أحيانا أنني صرت كبيرا برعايته وحمايته وقبوله أن‮ ‬يحرم نفسه من الزواج لسنوات طالت وطالت لحمايتي من زوجة الأب أو قسوتها علي أبناء أو بنات الزوج المغلفة بحنان زائف ربما‮ ‬يتواري بمعسول الكلمات،‮ ‬لعله نقل الصورة بحياد ليبرر حياته بدون زوجة ليحميني من الخطر الممكن،‮ ‬ربما كان‮ ‬يستعيد في بعض الأحيان حكاياته مع أمي التي عايشها وتآلف معها قبل رحيلها عنه وعني،‮ ‬فورثت برحيلها‮ ‬يتمي وكنت أنا أول وآخر من تلده،‮ ‬لا بد أن الرغبة في وجود الأم بجانب طفلها أو طفلتها ضرورة لازمة‮ ‬يصعب أن‮ ‬يتغاضي عنها أي كائن لأنها تترك فراغا لا‮ ‬يحتمل،‮ ‬وبابتعادها زادت عزلتي وفشلت كل محاولاتي لإخفاء مواجعي،‮ ‬ولم أكن أملك‮ ‬غير تلك المحاولات التي لا تجدي لإخفاء تلك المرارات التي ورثتها دونما ذنب،‮ ‬لكن هل كانت محاولاتي لإخفاء مواجعي تفلح مع من‮ ‬يتأملني مرة أخري ليطمئن روحه ويواصل همساته،‮ ‬واثقا أن أفكاره لن تسكن بذاكرتي أو تنسيني شيئا مما كنت أعانيه،‮ ‬ولا بد أنه كان بخبراته فسرني وقرأني تماما وتسرب لداخل خلايا عقله المشغول بحياتي ضرورة أن أواصل معه المشوار لأن وجودي كان‮ ‬يحميه من إحساسه بالوحدة وانعدام الأمل،‮ ‬فهل كان الفرار بذاكرتي من التفكير فيها عنادا لذاتي من أجل ذاتي؟ أو هل كان فقدانها إبعادا لكل ما كان‮ ‬يخصها بداية من الاسم ووصولا الاسم أسرتها عن أطراف لساني حلا؟ هل كان عدم التفكير فيها ممكنا لكيان لم‮ ‬يكتمل نموه أو حتي بعد أن اكتمل نموه وصار رجلا محسوبا له بعض الحسابات في عمله أو مربع سكنه؟‮ ‬
‮ ‬بيني وبينكم‮ ‬يمكننا تأكيد أن هذه المسألة ليست سهلة أو ممكنة،‮ ‬فالبوح بالساكن في الخلايا‮ ‬يخلصها من المخاطر لفترة عابرة أو خاطفة لكنها تتجدد بالمواجهات التي تتجسد أمامنا بغير بديل عن إعلان وجودها،‮ ‬وفي مواجهة من‮ ‬يشرعون في إعلان الخصومة لتنبيه الكائن الحي بما دار في سابق أيامه وما دار حوله في لحظة التنبيه المباشر،‮ ‬ليكون الزمن الماضي ساكنا في زماننا الحاضر‮ ‬غصبا عنا الآن،‮ ‬والماضي الذي‮ ‬يسكن الحاضر ويسعي للمستقبل الآتي مهما كانت الأسباب بلا فرار ولا انبتار ولا أي نجاح لمحاولات عزلتنا عن المسار،‮ ‬وربما باح لي أبي مرارا وتكرارا في بعض اللحظات بالمخبوء،‮ ‬ليستكشف ما كان مخفيا داخلي لأنني إبنه الوحيد الذي أعطاه اسمه كما أعطاه الحق في اختيار مصيره،‮ ‬ومصدقا أنه نصيبي المقسوم مهما قلت لكم عن حياة من‮ ‬غير وجود الأم فلن‮ ‬يصدقني إلا من جرب وكابد وعافر ليبقي صامدا من‮ ‬غير أم ترعاه،‮ ‬ربما‮ ‬يتوه دور الأب وقد تحامل علي نفسه بحساباتي وحساباتكم،‮ ‬بينما‮ ‬يحاول أن‮ ‬يقوم بدورها في حدود قدراته وإمكانياته وتكوينه،‮ ‬ولأنه عاش بغير شريكة لعمره ورفيقة لمشواره،‮ ‬وبحسب ما قيل وشاع عنه وتأكد أنه أحبها بصدق وضحي من أجلها بالكثير،‮ ‬لكنها فارقته كما فارقتني دونما أسباب واضحة في رأي الجميع،‮ ‬لكن الأعمار المكتوبة قدرا للكائن الحي تعلو عن وعي كافة البشر في كل الأزمنة والبلدان المسنودة علي العقائد المتباينة حول مسألة الموت ونهاية الأعمار،‮ ‬تتوافق وتتقبل وتقبل العزاء لكل من رحلوا عنا وربما كانت سيرة أمي علي لسانه عصية وصعبة عليه،‮ ‬لأنها كانت حسبما قال وقالوا تجربته الحية الوحيدة،‮ ‬ولعله كان‮ ‬يهدف خلال حواراته معي عنها أن‮ ‬يزوّد قدرتي علي إحتمال فراقها،‮ ‬كأنه‮ ‬يزرع النبتة الجديدة في أرض واعدة بالعطاء والدعم،‮ ‬وبقدرته الفائقة كان‮ ‬يراني قسمته ونصيبه وإبنه ورفيقه الوحيد حسبما قالها لي ولنفسه بصوت مسموع مئات المرات،‮ ‬يحكي عنها كما كان‮ ‬يحكي في بدايات رحيلها التي عشتها معه‮ ‬يتيما فقد رعايتها وقالوا بأنه نصيبي في الحياة،‮ ‬وصرت ابنه ورفيقه بعد رحيلها عنه وصار راعيني ومداويني،‮ ‬هل كنت أتفهم مقاصده وهو‮ ‬يبوح لي واثقا أن كلماته لن تتشكل بمعانيها في أيام العمر الأولي؟ وخلافا لما كنت قد وصلت إليه من إدراك ما أسمعه من كلماته لأفهم دلالاتها متعاطفا معه مشفقا عليه،ويلتحم سره الخطير بسري الخطير فيلزمني أن أتخذ قرارً‮ ‬بأن أداري همومي وأخفيها عن نفسي ليتأكد من قدرتي علي الاحتمال،‮ ‬وفي الخلاء كنت أصرخ وأحدث روحي بالصوت العالي عندما أتأكد أن المكان خال من البشر،‮ ‬وكنوع من الشكاية للفراغ‮ ‬المسكون بغرباء عن الحي الذي نسكنه ويعرفنا ناسه من نبرات أصواتنا،‮ ‬أو كما قال لي أحد الأصدقاء كان في قسم الفلسفة في زمن تال‮: ‬إن اليونان وصفوا حالتي‮ "‬بأنها نوع من التطهر اللازم لاستمرار الحياة‮"‬،‮ ‬ولعله تأخر لسنوات وسنوات عن موعده،‮ ‬لأن شكاياتي كانت بسبب أمي التي رحلت عني وأنا أدور حول نفسي في الفراغ‮ ‬كأنني بلا وطن ولا سكن‮ ‬يأويني،‮ ‬وربما كلفت روحي بأن أصير مسئولا عن أحوالي من كل زواياها،‮ ‬وتبدي لي أيامها أنني حررت روحي من الكتمان الذي طال مداه،‮ ‬لعل شكاياتي المنطوقة في الفراغ‮ ‬كانت تسعي لتؤكد للدنيا خطيئتي ومسئوليتي عن كتمانها وتخبئتها عن الآخرين،‮ ‬وكمهرب من صخرة ثقيلة انزاحت عن كتلتها وتباعدت تماما لأن تلك العواطف الممنوحة لي من الغرباء،‮ ‬كانت تعبيرا عن قدراتهم علي العطاء لي تعويضا عن الأم التي خسرتها قبل أن أمتلكها وستكون بالنسبة له دليلا علي أزمته في الماضي وصولا لحاضر‮ ‬يتواصل وقد ظن أنه قابل للزوال المحتوم،‮ ‬فيلزم أن‮ ‬يسمح لروحه بالعجز عن قراءة المخبوء قبل أن تتضح معالمه لينال حقه وأنال حقي،‮ ‬عن زمن تاه وراح دون ثمار نبتت في‮ ‬غير موعدها،‮ ‬ولأن كل من كنت ألتقي بهم كان بعرف ما جري لأبي أو ما جري لي في مراحل عمري وعمره،‮ ‬وبداية من الصبا المبكر ومطالع العمر المحاصر بالكوابيس،‮ ‬ثم وصولا للشباب المكتمل البنية والتمهيد لسنوات الرجولة المؤكدة،‮ ‬صحيح أنني ظللت أختزن سره وأخفيه عن كل من عرفتهم،‮ ‬أداريه وهو مكشوف لهم،‮ ‬ربما لم أكن عارفا أن المعوقات التي واجهتها في أزمنة متتابعة أو عبرتها كان بفضل ما زرعه في ذاكرتي من وصايا،‮ ‬لكنني كنت متوافقا مع نفسي للامتناع عن إفشاء أسراره أو أسراري،‮ ‬كما أرفض المشاركة مع الآخرين بالحكي عن أمي التي رحلت،‮ ‬فهل كنت أملك كل هذه القدرة لأداري همومي وهموم أبي في الحالات التي‮ ‬يتحاكي للكل عنها من أهلنا وجيراننا ويتقبلونه بشفقة أو بعزاء واندهاش أشعر به،‮ ‬أستنكره وأوشك أن أبوح له بما أستشعره،‮ ‬لكنني لم أكن أملك القدرة أو الجسارة علي الاحتجاج المدفون بقلبي‮. ‬
‮ ‬
كان الليل قد انتصف وأبي التائه بعد دفن أمي في مقابر الصدقة لا‮ ‬يملك القدرة علي الرجوع إلي سكنه،‮ ‬يحملني ويسير في أي اتجاه وبلا هدف أو‮ ‬غرض أو تفكير في الرجوع لمسكنه ولأن عزام وأم رفعت وبعض الجيران شاركوه مشوار الدفن وسألوه عن أحواله لتطمئن قلوبهم عليه،‮ ‬لكنه لم‮ ‬يكن بقادر علي الكلام مع أحد ولا الرد علي أي سؤال،‮ ‬وكنت أنا مازلت طفلا لا‮ ‬يعي بأي شيء‮ ‬يدور حوله،‮ ‬مجرد صخب وأصوات متداخلة بلا دلالة،‮ ‬وعيون تتفحصني وتتأملني وربما تسأل عن إسمي ولا تنتظر جوابا،‮ ‬وتنحط العيون علي وجه أبي الذي‮ ‬يتلفت حوله وكأنه سيجد‮ ‬غايته المطلوبة مكتوبة علي جدار أو سقف الدار،‮ ‬تتبادل الفتيات نظرات الشك في أمره لأنه لا‮ ‬ينطق ولا‮ ‬يرد لكنه‮ ‬يتلفت حوله مستجيرا بالمولي أن‮ ‬يرحمه ويرحمها كأن أمر الآخرين لا‮ ‬يعنيه،‮ ‬لكنهم واصلوا طرح السؤال وهو عاجز عن الرد تماما والدقائق تمر متثاقلة وحالته لا تحتمل،‮ ‬وربما بسبب كثرة تكرار السؤال قالها لهم بعفوية أو كزلة لسان حائر‮. ‬
‮-‬دا اليتيم‮ ‬
من منطقة الشك الخالص علي رده تتابعت أسئلتهم‮: ‬ابن مين؟ خطفته منين؟ اندهو للشاويش درويش،‮ ‬إيوه‮ ‬يوديه المركز والمركز‮ ‬يرجع العيل لأهله‮.. ‬يا دي اللهو الخفي‮... ‬يا شاويش دروي‮ .‬
وعلي نحو مفاجيء وغير متوقع ظهر الشاويش درويش مزهوا بنفسه وكم السترة الذي‮ ‬يحمل ثلاثة شرائط عريضة بلونها الأحمر الزاهي المتوافق مع نحنحة ممطوطة وهو‮ ‬يخترق الدائرة المحيطة بخطاف العيال كما كانوا‮ ‬يصرخون ويهللون فرحا بالنصر علي الأشرار،‮ ‬كان البعض‮ ‬يستمد جسارته من وجود الشاويش درويش فيصرخ وهو‮ ‬يتساءل‮: ‬ما‮ ‬يقول لنا اسمه إيه؟ كان بيقول إنه إبنه؟ دا إبن ناس‮ ‬يا شاويش واحنا اللي مسكناه،‮ ‬يدونا الحلاوه،‮ ‬يا خويا حلاوة إيه بس،‮ ‬الخير بيتعمل لوجه الله‮.‬
كان الشاويش درويش‮ ‬يتأمل الأب الذي‮ ‬يحتضن طفله الوليد بإشفاق ويأمرهم بالسكوت التام قبل أن‮ ‬يسأل المتهم بالخطف‮:‬
‮- ‬إنت مبهدل روحك كده ليه‮ ‬يا إبن الناس الأصلا؟
‮-‬ما هي أمه ماتت،‮ ‬ماتت وهي بتولده‮.‬
‮-‬الله‮ ‬يرحمها،‮ ‬ما احنا كلنا لها‮. ‬
‮-‬أمه ماتت،‮ ‬وبقي‮ ‬يتيم‮.‬
‮- ‬هو اليتيم مش له رزق؟
‮- ‬ماتت‮. ‬
‮- ‬تعالي معايا أوصلك لسكنك،‮ ‬دا الأستاذ عزام الصراف قالب عليك الدنيا‮. ‬
‮ ‬وبإشارة من‮ ‬يده اليمني أفسح لنفسه وللمتهوم ظلما طريقا إلي شارع الحكمة،‮ ‬وربما لم‮ ‬يتبادل معه‮ ‬غير بضع كلمات عن القسمة والنصيب وضرورة أن‮ ‬يعود إلي أهله وناسه في كفر عسكر ليدبروا له من ترعي طفله وهو في السن الحرجة،‮ ‬لكن لسانه كف عن الكلام وإكتفي بتنهيدات متواصلة،‮ ‬وعندما رآه الصراف وإمرأته حاملة طفلها تنهدا وحمدا المولي علي نجاته،‮ ‬شكرا الشاويش درويش علي مشواره الذي حكي لهم تفاصيله وهو‮ ‬يشرب كوب الشاي الأول‮. ‬
وفي رشفات الكوب الثاني سألهم عن الحاج عبد القوي عوف وكيف‮ ‬يسمح لإبنه بزيارة مولد البدوي وسط كل هذا الزحام‮ ‬يا أستاذ عزام؟
‮-‬دا ما كانش جاي‮ ‬يزور المولد‮ ‬يا شاويش درويش‮. ‬
‮-‬كان جاي‮ ‬يقضي لأبوه مصلحة‮ ‬يعني؟ وساحب مراته اللي لسه علي وش ولاده وراه،‮ ‬ليه؟
‮- ‬ما هو ده إبنه،‮ ‬اللي خالف العيلة وخد بنت م النعناعية؟
‮-‬وهما النعناعية شويه،‮ ‬دول بعد كام سنة ح‮ ‬يمسكوا الكفر ويشتروا أرض ولاد عوف وولاد شلبي كمان‮. ‬
‮-‬ربنا‮ ‬يطمن قلبك‮ ‬،ما تشرب‮ ‬يا راجل بق الشاي قبل ما‮ ‬يبرد‮. ‬
‮ ‬لا بد أن الشاويش درويش انتبه وتلفت حواليه ثم إنتفض ومد‮ ‬يده مسلما علي عزام أفندي الصراف،وخطا بضع خطوات نحو باب الدار وسمع صرخة الطفل فتأمل وجه عزام وقال ناصحا ومنبها له‮:‬
‮- ‬دا العيل اليتيم بيعيط‮ ‬يا ولداه‮ ‬
‮- ‬أم رفعت وياه‮ ‬،‮ ‬تلاقيها بترضعه مع إبنها‮.‬
‮ ‬كانت‮ ‬يد عزام اليمني ممدودة للشاويش درويش مودعة ويده اليسري علي باب الدار المفتوح،‮ ‬ولم‮ ‬يكن هناك مهرب أمام الشاويش‮ ‬غير مغادرة المكان مودعا‮. ‬لكن الأيام التالية مرت بعسر علي الجميع وأم رفعت التي كانت تتولي‮ ‬غصبا عنها أمور الطفل الوليد،‮ ‬وبيتها شبه المهجور‮ ‬يحتاج وجودها،‮ ‬والأب‮ ‬يحمل طفله في كل وقت وأي مكان لا‮ ‬يراعي متطلباته ولا‮ ‬يتعرف علي مواعيد إرضاعه وتبديل ثيابه،‮ ‬ومهما قيل له لم‮ ‬يكن‮ ‬يحتمل‮ ‬غيابها ومصيرها الصعب ومصيره ومصير الطفل أيضا،‮ ‬لعل أصعب مواجعه كانت بسبب إهمال أكابر أولاد عوف الكبار الذين تركوه‮ ‬يدفنها في مقابر الصدقة كأي‮ ‬غريب بلا أهل ولا أصل‮ ‬، وصحيح أن بعض شبابهم كان‮ ‬يأتي متسللا ليراه ويواسيه أو‮ ‬يجبر بخاطر لكن الكل إعتبروها سقطة لا تليق بتاريخهم أو إسمهم،‮ ‬كان الشباب من أولاد عمه‮ ‬يتوافدون ويتباكون وينتقدون كل ما أشار به كبار العائلة،‮ ‬وكثيرا ما كان‮ ‬يحملني ويسير بي في أركان المدينة بلا هدف ويعجز عن مواصلة السير فيسقط ليحمله العابرون ويسألوه عن الطفل المحمول بين‮ ‬يديه فلا‮ ‬يرد،‮ ‬فيسألون عن مسكنه ويبوح لهم بالعنوان ويركب حنطورا مع‮ ‬غريب متطوع ليعيده لمسكنه وهو‮ ‬يتباكي علي ما جري له ولها ولي وأنا أتباكي طلبا لجرعة من أي‮ ‬غذاء فيمد‮ ‬يده بعبوة اللبن الصناعي،ولا‮ ‬يرتاح له بال حتي أبتلعها ولو كان الأمر‮ ‬غصبا‮ ‬يجبرني علي الترجيع والبكاء والعطس والتوهان‮.‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.