بمناسبة مرور مائة وخمسين عاما علي إنشاء أول برلمان نيابي؛ أصدرت دار الكتب والوثائق القومية مؤخرا دراسة حول "الحياة النيابية في مصر.. مختارات من وثائق الأرشيف المصري" أعدتها د.نيفين محمد رئيس دار الوثائق في أكثر من أربعمائة صفحة ومائة وثيقة، وقدمها د.علي عبد العال رئيس مجلس النواب مؤكداً أن الدساتير المتعددة ابتداء من دستور 1923 تضمنت جميع مبادئ الحكم الرشيد والدولة الحديثة القائمة علي الفصل بين السلطات والتعاون بينها واحترام الحقوق والحريات وتلازم السلطة مع المسئولية ومسئولية الحكومة أمام البرلمان واستقلال القضاء. في الصدارة جاءت كلمة الكاتب الصحفي حلمي النمنم وزير الثقافة؛ موضحا الأسباب التي دفعت الخديو إسماعيل عام 1866 لإنشاء أول مجلس شوري للنواب، ليكون مؤسسة للتشريع والرقابة علي أداء الحكومة، حيث يعد ذلك سمة أساسية من سمات الدولة المدنية الوطنية الحديثة التي بدأ تأسيسها في عهد محمد علي، وهو يمثل النواة الحقيقية للبرلمان والحياة النيابية في مصر. واختتم النمنم "لدينا برلمان، هو الأول بعد ثورة 30 يونيو المجيدة، يعكس مكونات الأمة المصرية، بكل تضاريسها الإنسانية والاجتماعية، وتعول مصر عليه وعلي أعضائه الكثير والكثير، وهو قادر علي أن يلبي طموحات المصريين"! بداية جيدة وتعثر قسّمت د.نيفين الحياة النيابية في مصر إلي سبع مراحل، وأرفقت بكل مرحلة عددا من الوثائق التي توضح ملامحها؛ واعتبرت البداية الحقيقية للنظام النيابي هي إنشاء مجلس شوري النواب في عهد الخديو إسماعيل باشا (1866 -1880) ، الذي تألف من 75 عضوا ، ينتخبون لمدة 3 أعوام، ويعمل بموجب لائحتين؛ الأولي أساسية تتضمن 18 مادة تحدد اختصاصاته والأطر العامة والخاصة لنظام الانتخابات والشروط المفترضة في العضو، كأن لا يقل عمره عن 25 عاما وبشرط أن يتمتع بالرشد والكمال وأن يكون من الأشخاص المعلومين عند الحكومة، كما يحرم من صلاحية الانتخاب الأشخاص الذين حكم علي أموالهم وأملاكهم بأحكام الإفلاس، ولا يعقد المجلس إذا غاب من أعضائه أكثر من الثلث. أما اللائحة الثانية فهي نظامية تتضمن 61 مادة تنظم عمل المجلس. أثني الأوروبيون علي المجلس في هيئته الأولي ووصفوه بأنه في مستوي المجالس الأوروبية ويتمتع باستقلال فعلي، رغم أن تلك الهيئة انتهت بأزمة حادة بين الحكومة والمجلس، مما استدعي تغيير الكثير من الأعضاء لإيجاد آخر أقل شغبا. وفي يونيو 1871؛ أمر الخديو إسماعيل بتعيين أعضاء المجلس، وهو ما كان له أثر كبير علي نشاطه، فاقتصرت مباحثات الأعضاء في الهيئة الثانية علي إبداء الرغبات فيما يخص حياتهم ككبار ملاك. وعندما حان موعد إجراء انتخابات جديد لهيئة نيابية ثالثة غض الخديو إسماعيل الطرف لمدة سنتين متواليتين، بسبب ما حدث في تلك الفترة من أحداث أثرت علي مستقبل مصر السياسي كتفاقم الأزمة المالية وازدياد النفوذ الأجنبي. في البرلمان الجديد وصل عدد الأعضاء إلي 120 عضوا، واتسعت سلطته لتشمل حق إقرار الميزانية والقوانين ومحاسبة الوزراء وغيره، لكن اللائحة في نفس الوقت أعطت الحق للخديو في حل المجلس والدعوة إلي انتخابات جديدة في حالة الخلاف بين المجلس والحكومة ورفض الأخيرة الاستقالة. لكن هذا التطور سرعان ما توقف نتيجة التدخل الأوروبي، وإصدار السلطان فرمانا بخلع الخديو إسماعيل وتنصيب الأمير توفيق بدلا منه في 1879 . هبوط حاد لم يؤمن توفيق بالنظام الدستوي، وشهد عهده سوء الأحوال المالية وإرهاق الشعب بالضرائب الفادحة وازدياد التدخل الأجنبي، مما جعل أحمد عرابي يتوجه إليه في 1881 علي رأس عدد من وحدات الجيش والمواطنين للمطالبة بإسقاط وزارة رياض وإقامة حكومة دستورية وتشكيل مجلس شوري النواب، وزيادة عدد الجيش وفقا للفرمانات السلطانية. وعليه؛ عهد الخديو إلي محمد شريف باشا بتأليف حكومته، وهو بدوره دعا لانتخاب مجلس شوري النواب في العام 1881 وفقا للائحة تضمنت 53 مادة تحدد شروط اختيار أعضائه وتنظم عمله، كما تم نقش ختم خاص به عليه عبارة "مجلس النواب المصري" في مارس 1882، وأقر الخديو لائحة المجلس الداخلية التي ضمت مائة بند مقسمة في 11 فصلا، لكن تلك التجربة لم تكتمل، حيث وقعت مصر تحت الاحتلال البريطاني في سبتمبر عام 1882 وعادت البلاد إلي عهد نظام الشوري. وفق هذا النظام؛ انقسم المجلس النيابي (1883- 1913م) إلي هيئتين استشاريتين هما مجلس شوري القوانين المنوط بدراسة وفحص وتقديم التقارير عن كل المسائل المقترحة من الحكومة إليه، لكن آراءه ليست ملزمة، ويتكون من 30 عضوا؛ 16 منهم بالانتخاب و14 بالتعيين، يعملون بموجب لائحة داخلية مكونة من 38 بندا تنظم عمل المجلس وكيفية انعقاد جلساته. والهيئة الأخري هي الجمعية العمومية التي تضم 83 عضوا من أعضاء مجلس الوزراء وأعضاء مجلس شوري القوانين، ولتلك الجمعية حق الموافقة علي تشريع الضرائب، ولا يصدر بها قانون إلا بعد عرضه عليها، كما كان الأهالي يتقدمون بطلبات للجمعية للنظر في شئون محددة، ففي 1909 تقدم طلاب المدرسة التحضيرية بطنطا، وكذلك بعض أهالي الإسكندرية؛ بالتماس للنظر في مد امتياز قناة السويس، وهو ما تم بالفعل وأسفر عن رفض مشروع المد في إبريل 1910 . صمود وتحول نتيجة لتصاعد أصوات الحركة الوطنية المصرية ورغبة سلطات الاحتلال في إقامة نظام جديد يسمح بتمثيل متوسطي ملاك الأراضي الزراعية صدر قرار حل مجلس شوري القوانين والجمعية العمومية عام 1913؛ لتحل محلهما هيئة استشارية أخري هي الجمعية التشريعية (1913 - 1923م) التي ضمت 83 عضوا؛ منهم 17 معينون والبقية منتخبون لمدة ست سنوات، ويُجدَد ثلث الأعضاء كل سنتين، وللخديو أيضا الحق في حل الجمعية بناء علي توصية من مجلس الوزراء. وقد انتخب سعد زغلول رئيسا للدورة الأولي من الجمعية، والتي كانت الأخيرة كذلك، حيث تأجل انعقادها أكثر من مرة بسبب نشوب الحرب العالمية الأولي. في مارس عام 1919 قامت الثورة المصرية ضد الاحتلال، وبناء عليه؛ أعلنت بريطانيا إنهاء حمايتها علي مصر عام 1922 وأنها دولة مستقلة ذات سيادة، ونصب فؤاد نفسه ملكا عليها وصدر أول دستور لمصر المستقلة عام 1923 ينص علي إقامة برلمان يتكون من مجلسين هما مجلسا النواب والشيوخ (1924 - 1952م). ضم مجلس النواب أعضاء منتخبين بالاقتراع العام لمدة 5 سنوات، وحُرم من حق الانتخاب المحكوم عليهم في بعض القضايا، ورجال القوات المسلحة والبوليس. بينما نص الدستور علي أن خُمس أعضاء مجلس الشيوخ يعينهم الملك، وينتخب الباقون بالاقتراع العام، وتكون مدة العضوية 10 سنوات، يجدد نصفهم كل خمس سنوات. كما نص الدستور علي عدم جواز الجمع بين عضوية المجلسين، وإذا تم حل أحدهما تتوقف جلسات الآخر. شهدت تلك الفترة تتابع 10 هيئات نيابية؛ تعرص خلالها دستور 1923 للعديد من الانتهاكات من قبل الملك ووزارات الأقلية، كما تم إلغاؤه وحل محله دستور 1930 الذي زاد من سلطات الملك والحكومة وقلص من سلطات البرلمان، لكن في العام 1934 صدر أمر ملكي بإبطال العمل به وحل البرلمان الذي قام علي أساسه، وبناء علي رغبة الأمة صدر قرار في 1935 بعودة العمل بدستور 1923، ثم تشكلت وزارة برئاسة علي ماهر أشرفت علي الانتخابات النيابية التي أسفرت عن فوز ساحق لحزب الوفد عام 1936، وهو ما اختلف تماما خلال انتخابات فبراير 1938 التي استخدمت فيها كل أساليب التزييف والإكراه، فجاءت النتيجة بفوز الأحزاب المؤيدة للقصر وهزيمة الوفديين، وقد شهدت تلك المرحلة تصاعدا لمؤشرات عدم الاستقرار السياسي وعجز الحكومة عن السيطرة علي الأحداث. ومن أبرز القرارات التي اتخذها مجلس الشيوخ؛ الموافقة علي مشروع إنشاء وتنظيم جامعة فاروق الأول، وإنشاء صندوق معاشات وإعانات الصحفيين، وإلغاء المعاهدة المصرية البريطانية لعام 1936 واتفاقيتي 1899 . مجلس الأمة مع اندلاع ثورة 23 يوليو 1952؛ بدأت مرحلة جديدة في تاريخ الحياة النيابية المصرية وتم إلغاء دستور 1923، وحل محله بشكل مؤقت الإعلان الدستوري الذي صدر عام 1953 لتنظيم أوضاع الحكم، وفي يناير 1956 تم إعلان الدستور الجديد للجمهورية المصرية، ونص علي أن يتم إنشاء مجلس الأمة (1957-1971م) ويتألف من 350 عضوا منتخبا، مقسمين بين دوائر انتخابية بنفس العدد، وتمتد عضويتهم لخمس سنوات. واشترط القانون فيمن يرشح لعضوية المجلس أن يكون مصريا واسمه مقيد في جداول الانتخابات، ويحسن القراءة والكتابة، ويبلغ من العمر 30 عاما علي الأقل، ولا ينتمي للأسرة المالكة، كما أنه لا يجوز ترشيح رجال القضاء والنيابة والضباط قبل تقديم استقالاتهم من وظائفهم. وقد أعطي هذا الدستور الحق - لأول مرة - للمرأة بالانتخاب. منح الدستور الحق لمجلس الأمة بوجوب إقراره لأي قانون يصدر، كما نص علي أنه لا يجوز للحكومة عقد قرض أو الارتباط بمشروع يترتب عليه إنفاق مبالغ من خزانة الدولة إلا بموافقته، كما يجب عرض مشروع الميزانية العامة للدولة عليه قبل انتهاء السنة المالية بثلاثة أشهر علي الأقل. وقد ألقي الرئيس جمال عبد الناصر في افتتاح الدورة الأولي للمجلس بيانا طويلا تحدث فيه عن أهداف ثورة يوليو والمقومات الأساسية للمجتمع التي تحدد حقوقه وواجباته، والإصلاح الزراعي والصناعة والصحة والثقافة والتعليم. مع التعديل الدستوري عام 1958؛ أصبح تشكيل المجلس يتم بتعيين أعضائه بقرار من رئيس الجمهورية وليس بالانتخاب، علي أن يكون نصفهم علي الأقل من بين أعضاء مجلس النواب السوري ومجلس الأمة المصري. وفي العام 1963 عادت الأمور كما كانت، بعد انفراط الوحدة بين مصر وسوريا، وصدر قانون ينص علي أن يكون نصف أعضاء المجلس علي الأقل من فئة العمال والفلاحين، وأن تقسم الجمهورية إلي 175 دائرة انتخابية، وفي كل واحدة يتم انتخاب عضوين، أحدهما من تلك الفئة. ومع صدور دستور 1964؛ أضيف لرئيس الجمهورية حق تعيين عدد من الأعضاء لا يزيد عددهم عن عشرة. الشعب.. والشوري بحلول دستور 1971؛ بدأت ملامح التطور الدستوري في مصر تتضح، حيث ضم فصلا عن السلطة التشريعية وآخر عن مجلس الشوري، ونص علي القواعد نفسها السابقة، إلي أن جاء قرار جمهوري عام 1979 بأن يصبح عدد أعضاء مجلس الشعب 382 عضوا، يتم انتخابهم لمدة 5 سنوات. وأوكل الدستور للمجلس مسئوليات التشريع وإقرار السياسة العامة للدولة والخطة العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والموازنة العامة للدولة، كما يمارس الرقابة علي أعمال السلطة التنفيذية، ومن حقه سحب الثقة من من أحد الوزراء أو الحكومة بأكملها. ومن أبرز القرارات التي اتخذها المجلس؛ وضع حد أدني لأجور العاملين بالقطاع الخاص عام 1974 . شهد هذا الدستور عدة تعديلات، وفي 1980 تم إضافة باب جديد خاص بإنشاء مجلس الشوري، يقر بألا يقل عدد أعضائه عن 132 عضوا، ينتخب ثلثهم ويعين رئيس الجمهورية الثلث الباقي، وتكون مدة العضوية 6 سنوات. وفي 2005 تم تعديل المادة 76 من الدستور ليصبح علي أثرها اختيار رئيس الجمهورية بالانتخابات السرية من قبل الشعب. وجاء تعديل 2007 ليحدد اختصاصات إلزامية لمجلس الشوري تجعل منه جهازا تشريعيا. بعد هذا التاريخ الطويل؛ جاءت 2010 لتمثل انتكاسة في الحياة النيابية المصرية، حيث لم تعبر انتخابات مجلس الشعب عن رغبة أبناء الوطن وحقهم بالمشاركة في حكم البلاد، فأدت تلك التجاوزات إلي اندلاع ثورة 25 يناير 2011، التي جاءت بدستور جديد في 2012 وصلت بمقتضاه التيارات الإسلامية للحكم وازداد الأمر سوءا، ثم انتفض الشعب في 30 يونيو 2013 بثورة جديدة أطاحت بتلك التيارات وتم تعديل الدستور في 2014، وعلي أثره تم إلغاء مجلس الشوري وتغيير اسم مجلس الشعب إلي مجلس النواب في 2015 .