طريقة عمل الكريم كراميل، لتحلية مغذية من صنع يديك    وزير الزراعة: توجيهات جديدة لتسهيل إجراءات التصالح في مخالفات البناء    حرق جثمان السنوار ونثر الرماد في البحر، قناة إسرائيلية تكشف مصير جثة قائد حماس (صور)    استهدفت إسرائيل فروعها في لبنان.. ما هي مؤسسة القرض الحسن التابعة لحزب الله؟    الاحتلال الإسرائيلى يقتحم مدينة نابلس بالضفة الغربية من اتجاه حاجز الطور    عاجل - مصير جثمان يحيى السنوار.. دفن "سري" أم ورقة ضغط بيد الاحتلال؟    وجيه أحمد: التكنولوجيا أنقذت الزمالك أمام بيراميدز    أول تعليق لمصطفى شوبير بعد فوز الأهلي على سيراميكا كليوباترا (صور)    حسام البدري: إمام عاشور لا يستحق أكثر من 10/2 أمام سيراميكا    المندوه: السوبر الإفريقي أعاد الزمالك لمكانه الطبيعي.. وصور الجماهير مع الفريق استثناء    تحذير مهم بشأن حالة الطقس اليوم الإثنين.. والأرصاد تنصح: «شيلوا الصيفى»    إصابة 10 أشخاص.. ماذا حدث في طريق صلاح سالم؟    حادث سير ينهي حياة طالب في سوهاج    ناهد رشدي وأشرف عبدالغفور يتصدران بوسترات «نقطة سوده» (صور)    ارتفاع جديد بالكيلو.. أسعار الفراخ البيضاء والبيض الإثنين 21 أكتوبر 2024 في بورصة الدواجن    6 أطعمة تزيد من خطر الإصابة ب التهاب المفاصل وتفاقم الألم.. ما هي؟    إغلاق بلدية صيدا ومقر الشرطة بعد التهديدات الإسرائيلية    «العشاء الأخير» و«يمين في أول شمال» و«الشك» يحصدون جوائز مهرجان المهن التمثيلية    هيئة الدواء تحذر من هشاشة العظام    نقيب الصحفيين يعلن انعقاد جلسات عامة لمناقشة تطوير لائحة القيد الأسبوع المقبل    «هعمل موسيقى باسمي».. عمرو مصطفى يكشف عن خطته الفنية المقبلة    الاثنين.. مكتبة الإسكندرية تُنظم معرض «كنوز تابوزيريس ماجنا»    حزب الله يستهدف كريات شمونة برشقة صاروخية    قودي وذا كونسلتانتس: دراسة تكشف عن صعود النساء في المناصب القيادية بمصر    أحمد عبدالحليم: صعود الأهلي والزمالك لنهائي السوبر "منطقي"    مزارع الشاي في «لونج وو» الصينية مزار سياحي وتجاري.. صور    واحة الجارة.. حكاية أشخاص عادوا إلى الحياه بعد اعتمادهم على التعامل بالمقايضة    هل كثرة اللقم تدفع النقم؟.. واعظة الأوقاف توضح 9 حقائق    تصادم قطار بضائع بسيارة نقل في دمياط- صور    للمرة الرابعة تواليا.. إنتر يواصل الفوز على روما ولاوتارو يدخل التاريخ    خبير استراتيجي: مصر تتخذ إجراءاتها لتأمين حدودها بشكل كامل    كيف تعاملت الدولة مع جرائم سرقة خدمات الإنترنت.. القانون يجب    حبس المتهمين بإلقاء جثة طفل رضيع بجوار مدرسة في حلوان    ملخص مباراة برشلونة ضد إشبيلية 5-1 في الدوري الإسباني    دراما المتحدة تحصد جوائز رمضان للإبداع.. مسلسل الحشاشين الحصان الرابح.. وجودر يحصد أكثر من جائزة.. ولحظة غضب أفضل مسلسل 15 حلقة.. والحضور يقفون دقيقة حدادا على روح المنتجين الأربعة    تصادم قطار بضائع بسيارة نقل ثقيل بدمياط وإصابة سائق التريلا    مباراة الترسانة مع أسوان بدوري المحترفين.. الموعد والقنوات الناقلة    ضبط المتهم بقتل شخص فى عين شمس.. اعرف التفاصيل    النيابة العامة تأمر بإخلاء سبيل مساعدة الفنانة هالة صدقي    النيابة تصرح بدفن جثة طفل سقط من الطابق الثالث بعقار في منشأة القناطر    عمرو أديب بعد حديث الرئيس عن برنامج الإصلاح مع صندوق النقد: «لم نسمع كلاما بهذه القوة من قبل»    نجم الأهلي السابق: هدف أوباما في الزمالك تسلل    حظك اليوم برج الدلو الاثنين 21 أكتوبر 2024.. استمتع بخدمة الآخرين    عمر خيرت يمتع جمهور مهرجان الموسيقى العربية فى حفل كامل العدد    سعر الذهب اليوم الإثنين بعد آخر ارتفاع.. مفاجآت عيار 21 الآن «بيع وشراء» في الصاغة    وفود السائحين تستقل القطارات من محطة صعيد مصر.. الانبهار سيد الموقف    وزير الزراعة: توجيهات مشددة بتسهيل إجراءات التصالح في مخالفات البناء    قوى النواب تنتهي من مناقشة مواد الإصدار و"التعريفات" بمشروع قانون العمل    نائب محافظ قنا يشهد احتفالية مبادرة "شباب يُدير شباب" بمركز إبداع مصر الرقمية    جاهزون للدفاع عن البلد.. قائد الوحدات الخاصة البحرية يكشف عن أسبوع الجحيم|شاهد    «شوفلك واحدة غيرها».. أمين الفتوى ينصح شابا يشكو من معاملة خطيبته لوالدته    هبة قطب تطالب بنشر الثقافة الجنسية من الحضانة لهذا السبب    الانشغال بالعبادة والسعي للزيادة.. أمين الفتوى يوضح أهم علامات قبول الطاعة    مجلس جامعة الفيوم يوافق على 60 رسالة ماجستير ودكتوراه بالدراسات العليا    أستاذ تفسير: الفقراء يمرون سريعا من الحساب قبل الأغنياء    جامعة الزقازيق تعقد ورشة عمل حول كيفية التقدم لبرنامج «رواد وعلماء مصر»    ماذا يحدث فى الكنيسة القبطية؟    هل يجوز ذكر اسم الشخص في الدعاء أثناء الصلاة؟.. دار الإفتاء تجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حكاية جوان ديديون مع نيويورك‮:‬ وداعًا لكل ذلك‮!‬

في‮ ‬1967‮ ‬نشرت الروائية والصحفية الأمريكية‮ "‬وداعًا لكل ذلك‮" ‬فكان نقلة نوعية في كتابة المقالات الذاتية ومثَّل معيارًا ذهبيًا تقاس عليه جودة كل المقالات الذاتية التالية عليه،‮ ‬كما فتح الباب أمام مقالات وكتب عديدة عن توديع المدن الأمريكية والقبض علي جوهرها،‮ ‬خاصة نيويورك‮. ‬ظهر المقال في العام التالي ضمن كتاب ديديون الشهير‮ "‬الزحف نحو‮ ‬بيت لحم‮"‬،‮ ‬وبعد قرابة الخمسين عامًا علي نشره لأول مرة لا يزال محافظًا علي مكانته الرائدة وملهمًا لكتاب من أجيال أحدث،‮ ‬لدرجة أنه في عام‮ ‬2013‮ ‬صدر كتاب،‮ ‬يحمل عنوان المقال،‮ ‬يحكي فيه‮ ‬28‮ ‬كاتبًا حكاياتهم عن نيويورك ومعها اقتداءًا بديديون‮. ‬هنا ترجمة لمقال جوان ديديون،‮ "‬ملكة الصحافة الجديدة‮" ‬كما يطلقون عليها‮. ‬يليه عرض لكتاب‮ "‬فرانك سيناترا عنده برد‮" ‬للصحفي والكاتب جاي تاليز‮ ‬أحد أهم أعلام مدرسة‮ "‬الصحافة الجديدة‮" ‬إضافة إلي هنتر‮ ‬إس‮. ‬تومبسون وتوم وولف‮.‬
كم ميلا يفصلنا عن بابل؟
ثلاثة أميال مربعة وعشرة‮ ‬
هل يمكن أن أصل إليها علي ضوء شمعة؟
نعم،‮ ‬وكذلك العودة‮ ‬
لو أنّ‮ ‬قدميك رشيقتان وخفيفتان
يُمكنك الوصول إليها علي ضوء شمعة‮. ‬
من اليسير أن تري البدايات،‮ ‬لكن الأصعب هو رؤية النهايات‮. ‬أتذكّر الآن،‮ ‬بوضوح يجعل الأعصاب بمؤخّرة عنقي تتقلّص،‮ ‬حين بدأت نيويورك بالنسبة لي،‮ ‬لكن أعجز عن وضع أصابعي فوق اللحظة التي انتهت فيها،‮ ‬أو النفاذ بأي حال خلال الالتباسات والبدايات الثانية والقرارات المعطّلة،‮ ‬إلي الموضع الدّقيق بالصفحة حيث فقدت البطلة تفاؤلها‮. ‬كنتُ‮ ‬بالعشرين حين رأيت نيويورك أول مرّة،‮ ‬وكنّا بالصيف،‮ ‬وقَدْ‮ ‬ترجّلت مِن طائرة دوجلاس د.س‮- ‬7‮ ‬برصيف آيدلوايلد القديم المؤقّت،‮ ‬ألبس فستانًا جديدًا بدا شديد الأناقة في ساكرامنتو لكن أقل أناقة هُنا،‮ ‬حتّي برصيف آيدلوايلد القديم المؤقّت‮. ‬حينها أبلغني الهواء المشبّع بالعفن وبعض الغريزة،‮ ‬ويمتلئ أثيره بالأفلام التي شاهدتها والأغاني التي طالعتها عن نيويورك،‮ ‬أنّ‮ ‬لا شيء يعود كسابق عهده‮. ‬في الحقيقة،‮ ‬لا شيء أبدًا‮. ‬في وقتٍ‮ ‬لاحق،‮ ‬كانت ثمّة أغنية في صندوق الموسيقي بأعالي الحي الشرقي تقول‮: ‬لكن تُري أين بنت المدرسة التي كنتها،‮ ‬ولو كنّا بوقت متأخِّر من الليل لتساءلت أنا الأخري‮. ‬أعرف الآن أنّ‮ ‬الجميع يطرحون أسئلة مشابهة،‮ ‬عاجلا أو آجلا وبغضّ‮ ‬النظر عمّا يعمله هو أو تعمله هي،‮ ‬لكن واحدة من النّعم المشوبة لكون المرء بالعشرين أو الحادية والعشرين أو حتّي الثالثة والعشرين،‮ ‬هي القناعة أنّ‮ ‬لا شيء من هذا،‮ ‬رغم مخالفة كل الأدلّة،‮ ‬قَدْ‮ ‬جري يومًا لأحد من قبل‮. ‬
بالطبع،‮ ‬ربّما كانت مدينة أخري،‮ ‬ذات ظروف أخري،‮ ‬وبزمن آخر،‮ ‬وامرأة أخري‮. ‬ربّما كانت باريس أو شيكاغو أو حتّي سان فرانسيسكو،‮ ‬لكن لأنّني أتكلّم عن نفسي،‮ ‬فأنا أتكلّم هُنا عن نيويورك‮. ‬ذلك أنّني حين أشْرَعتُ‮ ‬نافذتي بالباص علي المدينة أثناء ليلتي الأولي فيها،‮ ‬ورمقت الأفق،‮ ‬لم أر إلا نفايات حي كوينز ولافتات ضخمة تُعلن‮: ‬نفق وسط البلد هذا الممر،‮ ‬غمرتنا بعدها أمطار الصيف‮ (‬وإن تراءت لي لافتة للنظر ومُدهشة،‮ ‬أنا التي نشأت بالغرب حيث لا أمطار في الصيف‮)‬،‮ ‬وعلي مدي الأيام الثلاثة التالية قبعت ملفوفة بالأغطية داخل حجرة بفندق ضُبطت درجة حرارتها علي‮ ‬35،‮ ‬أحاول التغلّب علي نزلة برد وحُمّي شديدة‮. ‬لم يخطر ببالي أن أتصل بطبيب؛ لأنّني لم أكن أعرف واحدًا،‮ ‬ورغم أنّه قَدْ‮ ‬طرأ لي الاتصال بالإستقبال كي يطفئوا جهاز التكييف،‮ ‬إلا أنّني تراجعت،‮ ‬بسبب جهلي مبلغ‮ ‬البقشيش الّذي عليّ‮ ‬دفعه للشخص الّذي قَدْ‮ ‬يصعد إليّ‮- ‬تُري هل ثمّة مَن كان يومًا ما صغيرًا جِدًّا؟ أكتب هُنا لأحكي لكم عن هذا الشّخص‮. ‬لَقَدْ‮ ‬أنفقت كل تلك السنوات في مكالمات خارجيَّة مع الفتي الّذي كنت أدرك تمامًا أنّني لن أتزوّجه خلال الربيع‮. ‬أقول له أنّني سأبقي في نيويورك،‮ ‬ستة أشهر فقط،‮ ‬فيما أحدِّق بجسر بروكلين من نافذتي‮. ‬وحسبما تبيَّن كان الجسر جسر ترايبورا،‮ ‬أمّا أنا فمكثتُ‮ ‬ثماني سنوات‮. ‬
‮ ‬
يبدو لي،‮ ‬أنّ‮ ‬الأيام التي سبقت معرفتي أسماء كافّة تلك الجسور كانت أسعد من الأيام التي تلت،‮ ‬لكن ربّما تري ذلك حين نتقدّم قليلا‮. ‬جزء مِما أرغب في روايته هو حال أن تكون شابًّا في نيويورك،‮ ‬كيف يُمكن لستة أشهر أن تصير ثماني سنوات بالسلاسة الزائفة التي تنحل بها عُقدة فيلم سينمائي‮. ‬لأنّه هكذا تبدو لي تلك السنوات الآن‮. ‬متتالية مديدة مِن التفتت العاطفي واللقطات الماكرة عتيقة الطراز‮- ‬يخبو مشهد نافورات عمارة سيجرام ليحل مكانها مشهد رقاقات الثّلج،‮ ‬أدخل بابًا دَوَّارًا وأنا في العشرين وأخرج منه وقَدْ‮ ‬تقدّم العمر بي،‮ ‬وإلي شارع مُغاير‮. ‬لكن ما أودّ‮ ‬شرحه علي الأخصّ،‮ ‬لك،‮ ‬وربّما أثناء ذلك،‮ ‬لي،‮ ‬لماذا لم أعد أعيش في نيويورك‮. ‬غالبًا ما يُقال أنّ‮ ‬نيويورك مدينة الأكثر ثراءًا والأكثر فقرًا‮. ‬لكن ما لا يُقال‮ ‬غالبًا هو أنّ‮ ‬نيويورك،‮ ‬علي الأقل بالنسبة لنا نحن الّذين جاءوا إليها من أماكن أخري،‮ ‬مدينة الأصغر عمرًا،‮ ‬أيضًا‮. ‬
أذكر أمسيَّة زاهية باردة بشهر ديسمبر في نيويورك،‮ ‬عرضتُ‮ ‬خلالها علي صديق كان يشتكي من بقائه مُدّة طويلة أن يأتي معي إلي حفل ستحضره‮ - ‬أكّدت له بدهاء ابنة الثالثة والعشرين النّاضر‮ - ‬وجوه جديدة‮. ‬ضحك حتّي اختنق حرفيًّا،‮ ‬واضطررت لإنزال نافذة التاكسي كي أصفعه علي ظهره‮. ‬في النهاية كرر‮: ‬وجوه جديدة،‮ ‬إياكِ‮ ‬أن تحكي لي عن وجوه جديدة‮. ‬لقد بدا أنّه أخر مرّة ارتاد بها حفلا وُعِدَ‮ ‬فيه بوجوه جديدة،‮ ‬احتشد فيه خمسة عشر مدعوًّا داخل‮ ‬غرفة،‮ ‬خاض علاقات مع خمس نساء منهم،‮ ‬واستدان منهم جميعًا عدا رجلين‮. ‬ضحكت معه،‮ ‬لكن بشائر الثلج كانت قد بدأت بالسقوط،‮ ‬وتألّقت أشجار عيد الميلاد الضّخمة باللونين الأصفر والأبيض بقدر ما يُمكنني الرؤية أمامنا في بارك أفينيو،‮ ‬وكنتُ‮ ‬ألبس فستانًا جديدًا وربّما مضت فترة طويلة قبل أن أعي المغزي الأخلاقي من الحكاية‮. ‬
ربّما مضت فترة طويلة لأنّني،‮ ‬ببساطة شديدة،‮ ‬كنت عاشقة لنيويورك‮. ‬لا أقصد عشقًا بالمعني الدّارج،‮ ‬بل أعني أنّني كنت أعشق المدينة،‮ ‬بالطريقة التي تعشق بها أول شخص يلمسك والتي لن تهبها لأي شخص آخر أبدًا‮. ‬أذكر تسكّعي عبر شارع سكستيسكند وقت الغسق بذلك الربيع الأول،‮ ‬أو الثاني،‮ ‬فقد بدت كلها متشابهة بالنسبة لي بعض الوقت‮. ‬كان الوقت متأخّرًا لأقابل أحدًا،‮ ‬لكنني توقّفت في جادة لكسنجتون وأشتريت خوخًا ووقفت علي الناصية آكله مدركةً‮ ‬أنّني‮ ‬غادرت الغرب وبلغت حدّ‮ ‬السراب‮. ‬لا يزال طعم الخوخ فوق لساني والهواء النّاعم الّذي يهبّ‮ ‬من أحد الأنفاق يحتك بساقي‮. ‬مازلت أشمّ‮ ‬رائحة الليلك والنفايات والعطر الباهظ وقد عرفت أنّه سيُبهظني آجلا أو عاجلا‮- ‬لأنّني لم أكن أنتمي إلي هناك،‮ ‬ولم آت من هناك‮- ‬لكن حين تكون بالثانية أو الثالثة والعشرين،‮ ‬تتخيَّل‮ ‬أنّك بوقت لاحق ستحقق توازنًا عاطفيًّا عاليًّا،‮ ‬وستصير قادرًا علي الوفاء بثمن أيَّما شيء تريده‮. ‬كنت لا أزال آنذاك مؤمنة بالاحتمالات،‮ ‬ما زال الإحساس حاضرًا،‮ ‬بالأخص بالنسبة لنيويورك،‮ ‬أنّ‮ ‬شيئًا استثنائيًّا سيقع بأي لحظة،‮ ‬بأي يوم،‮ ‬بأي شهر‮. ‬آنذاك كنت أكسب خمسة وستين أو سبعين دولارًا في الأسبوع‮ (‬اتركي نفسك لهاتي كارنيجي هكذا نصحتني إحدي مُحررات المجلّة التي كنت أعمل بها،‮ ‬دون أدني أثر من سخرية‮)‬،‮ ‬مبلغ‮ ‬شديد الضآلة جدًّا اضطرني للأكل في محلات بلومنجدال كذوّاقة،‮ ‬وهي حقيقة لم يرد ذكرها بالرسائل التي كتبتها إلي كاليفورنيا‮. ‬لم أقل لأبي أبدًا أنّني في حاجة للنقود لأنّه كان سيرسلها،‮ ‬وكنت أجهل ما إذا كنت سأتمكّن أنا من عمل ذلك‮. ‬وقتئذ،‮ ‬بدا كسب لقمة العيش بالنسبة لي،‮ ‬محض لعبة ذات قواعد اعتباطيَّة لكن صارمة لحدّ‮ ‬بعيد‮. ‬وعدا بعض أمَاسِي الشتاء‮- ‬وقد بلغت السادسة والثلاثين أوائل السبعينيات،‮ ‬حين يسود الظلام الحالك القاسي وتهبّ‮ ‬ريح علي جانبي النّهر،‮ ‬فأتوخّي الخطي السريعة نحو حافلةٍ‮ ‬ما تحدوني رغبة بالنظر إلي شبابيك العمائر الزّاهية؛ لأري الطهاة يطبخون بمطابخ نظيفة،‮ ‬وأتخيَّل نساء يضئن الشّموع بالطابق العلوي،‮ ‬وأخرياتٍ‮ ‬يحممن أطفالهن بالطابق السفلي‮- ‬عدا بعض الليالي المماثلة،‮ ‬لم أشعر قطّ‮ ‬بالفقر،‮ ‬بل كان يملؤني إحساس أنّني إن لزمني المال سأجده‮. ‬يُمكنني كتابة عمود واسع الانتشار موجه للمراهقين بعنوان ديبي لين أو تهريب الذّهب إلي الهند،‮ ‬أو امتهان البغاء لقاء مئة دولار بالمرّة،‮ ‬أو أي شيء آخر‮. ‬
ما مِن شيء لا رجعة فيه،‮ ‬بل كان كل شيء بمتناول اليدّ‮. ‬ثمّة ما يلفت النّظر ويثير الاهتمام قاب قوسين أو أدني مِنّي،‮ ‬ثمّة ما لم أره أو أفعله أو أعرفه من قبل أبدًا‮. ‬قَدْ‮ ‬أرتاد حفلا فألتقي رجلا يدعو نفسه السيد إغراء عاطفي،‮ ‬يُدير معهد الإغراء العاطفي أو تينا أوناسيس بلاندفورد،‮ ‬أو أحد ارستقراطيي فلوريدا الكسالي مِمَن كانوا يتواجدون آنئذٍ‮ ‬بانتظام فيما يُعرف بالبيغ‮ ‬سي،‮ ‬سيرك ساوثهمبتون المغاربي(لدي صِلات رائعة داخل البيغ‮ ‬سي،‮ ‬يا عزيزتي‮ ‬سيقول لي مِن فوق الكرنب في شرفته الواسعة المستعارة‮)‬،‮ ‬أو أرملة ملك الكرفس بسوق هارلم،‮ ‬أو بائع بيانو من بونتير بميسوري،‮ ‬أو رجلا كوّن ثروات في مدلاند بتكساس‮. ‬أستطيع أن أقطع عهودًا لنفسي ولآخرين وسيتوافر لي كل الوقت الموجود بالعالم كي أفي بها‮. ‬أستطيع البقاء ساهرة طوال الليل،‮ ‬أرتكب أخطاءً‮ ‬لا شيء منها يُعتد به‮. ‬
هكذا تري أنّني كنت بحالة لافتة للنظر في نيويورك‮: ‬لم يطرأ ببالي أبدًا أنّني كنت أحيا حياة واقعيَّة هُناك‮. ‬فما احتل خيالي دائمًا أنّني لن أبقي هناك إلا بضعة أشهر أخري،‮ ‬لحدّ‮ ‬عيد الميلاد أو عيد الفِصح أو لأول يوم دافئ في مايو‮. ‬لأجل ذلك كنت علي راحتي جِدًّا برفقة الجنوبيين الّذين بدوا في نيويورك مثلما كنت،‮ ‬في إجازة طويلة لأجلٍ‮ ‬غير مسمّي مِن أيَّما بقعة ينتمون إليها،‮ ‬مدرَّبين علي الانشغال بالمستقبل،‮ ‬منفيون مؤقّتون يعرفون دائمًّا مواعيد الرحلات الجويَّة إلي نيوأورليانز أو ممفيس أو ريتشموند أو،‮ ‬بالنسبة لي،‮ ‬كاليفورنيا‮. ‬إنّ‮ ‬شخصًا يعيش برفقة جدول رحلات جويَّة داخل الأدراج يحيا وفق روزنامة مُغايرة بعض الشيء‮. ‬عيد الميلاد مثلا،‮ ‬كان موسمًا قاسيًا،‮ ‬البعض الآخر ربّما يتقبّله قبولا عاديًّا فيمضي إلي منتجع ستوي أو يسافر للخارج أو يقضي يومه بين أحضان أمّه في كونيكتيكت،‮ ‬أمّا نحن الّذين صدّقوا أنّهم كانوا يعيشون بمكانٍ‮ ‬آخر فقد ينفقون المناسبة بإجراء حجوزات طيران وإلغائها،‮ ‬في إنتظار الرحلات التي تؤجّلها رداءة الطّقس كأنّنا في انتظار آخر طائرة تغادر لشبونة عام‮ ‬1940،‮ ‬وأخيرًا يسلّي بعضنا الآخر،‮ ‬نحن الباقون،‮ ‬ببرتقالات وتذكارات ومحارات مدخّنة من أيام الطفولة،‮ ‬نتقارب،‮ ‬مستعمرون ببلادٍ‮ ‬بعيدة‮. ‬‮ ‬
هكذا كُنّا بالضبط‮. ‬لست واثقة من إمكانية امتنان شخص نشأ في شرق أمريكا لما تمثّله نيويورك كليّة،‮ ‬فكرة نيويورك،‮ ‬ما تعنيه لنا الّذين جاءوا من الغرب أو الجنوب‮. ‬بالنسبة لطفلة من شرق أمريكا،‮ ‬لاسيما طفلة كان لها باستمرار عمّ‮ ‬في وول ستريت أمضت مئات من أيام السبت أولا بمتجر فاو للعب الأطفال وقياس الأحذية بمتاجر بست،‮ ‬ثُمّ‮ ‬الانتظار أسفل ساعة بلتمور والرقص علي أنغام لستر لانين،‮ ‬نيويورك مُجرّد مدينة،‮ ‬وإن تكن المدينة الأبرز،‮ ‬مكان معقول يقضي به الناس حياتهم،‮ ‬لكن بالنسبة لنا نحن الّذين جاءوا من أماكن أخري لم يسمع بها أحد عن لستر لانين وجراند سنترال ستيشن ليس إلا برنامج إذاعي يُبث يوم السبت،‮ ‬حيثُ‮ ‬وول ستريت والحي الخامس وشارع ماديسون ليست أماكن قطعًا بقدر ما هي أفكار مُجرّدة‮ (‬حيث المال،‮ ‬وآخر موضة،‮ ‬والباعة المتجولين‮) ‬لم تكن نيويورك مُجرّد مدينة،‮ ‬بل علي العكس،‮ ‬هاجسًا رومانسيًّا أبديًّا،‮ ‬الآصرة المعضلة بين كل الحبّ‮ ‬والمال والنفوذ،‮ ‬الحلم الفاني المشع بذاته‮. ‬إنّ‮ ‬التفكير في‮ «الحياة‮»‬ ‬هُناك،‮ ‬كان يعني إنزال العجائبي منزلة الدنيوي،‮ ‬إذْ‮ ‬المرء لا‮ »‬‬يعيش‮» ‬في أرض الأحلام‮. ‬
في الحقيقة،‮ ‬كان شاقًّا لأبعد الحدود بالنسبة لي،‮ ‬أن أتفهّم هؤلاء الشابات اللائي لم تكن نيويورك بالنسبة لهن منتجعًا بحريًّا زائلا صرفًا بل مكانًا حقيقيًّا،‮ ‬النساء اللائي اشترين محامص خبز ونصبن دواليب جديدة داخل شققهن وألزمن نفسهن ببعض الأثاث السائغ‮. ‬لم أشتر يومًا أي قطعة أثاث في نيويورك‮. ‬وطيلة عام أو ما يقرب من عام كنت أعيش بشقق آخرين،‮ ‬بعدها في الناينتيز عشت داخل شقّة مؤثثة بالكامل بعفش صديق رحلت زوجته فخزنه داخل مستودع‮. ‬وحين‮ ‬غادرت الشقّة بالناينتيز‮ (‬وقت أن كنت أترك كل شيء ورائي،‮ ‬وكل ما حولي يتفتت‮) ‬تركت كل ما بداخلها،‮ ‬حتّي ثيابي الشتويَّة وخارطة مقاطعة ساكرامنتو التي كنت أعلِّقها فوق حائط‮ ‬غرفة النوم كي تذكّرني بماهيتي،‮ ‬وانتقلت إلي شقة تضم أربع حجرات تحتل طابقًا كاملا بأحد بنايات الرهبان في شارع خمسة وسبعين‮. ‬ربّما تكون كلمة رهبان مضللة هُنا،‮ ‬تفترض ضمنًا بعض الخشونة الأنيقة،‮ ‬فحتّي بعد أن تزوّجت ونقل زوجي بعض الأثاث إليها،‮ ‬لم يكن ثمّة شيء علي الإطلاق بتلك الغرف الأربع باستثناء حشيَّة مزدوجة رخيصة وبضع آرائك،‮ ‬طلبتها عبر الهاتف يوم قررت الانتقال،‮ ‬وكرسيين فرنسيين للحديقة أعارتهما لي الصديقة التي استوردتهما‮ (‬يصدمني الآن أنّ‮ ‬كل من عرفتهم في نيويورك كانت لديهم جميعًا بذور الهزيمة‮. ‬ذلك أنّهم جلبوا مِن الخارج كراسي للحدائق‮ ‬غير رائجة بهامكر شليمر أو سعوا إلي تسويق منعمات الشّعر في هارلم أو التستر علي عورات عصابات الجريمة المنظّمة أمام ملاحق صحف الأحد‮. ‬أعتقد أنّ‮ ‬لا أحد مِنّا كان شديد الجديَّة،‮ ‬بل انخرطنا فقط بحيواتنا بالغة الخصوصيَّة‮.)‬
كل ما فعلته بتلك الشقّة كان شدّ‮ ‬خمسين ياردة من الحرير الصناعي الأصفر بعرض نوافذ‮ ‬غرفة النّوم،‮ ‬لأنّني كنت أظنّ‮ ‬أنّ‮ ‬الأشعة الذّهبية قد تحسِّن مزاجي،‮ ‬لكنني لم أكلِّف نفسي عناء ضبط الستائر بشكل صحيح فظلّت أسلاك الحرير الذّهبيَّة الشّفافة الطويلة طوال ذلك الصيف تهبّ‮ ‬خارج النوافذ وتتشابك وتبتل بالأمسيات التي تشهد عواصف رعديَّة‮. ‬هكذا مرّ‮ ‬عامي الثامن والعشرين،‮ ‬عندما كنت أكتشف أنّه ليس كل الوعود توفّي،‮ ‬وأنّ‮ ‬بعض الأشياء هي في الحقيقة لا رجعة فيها،‮ ‬وأنّها أحصيت علي أي حال،‮ ‬كل المراوغات والمماطلات،‮ ‬كل كلمة،‮ ‬كل شيء‮. ‬
‮ ‬
هل هذا كل ما كان يتعلّق به الأمر؟ الوعود؟ الآن حين تخطر نيويورك ببالي،‮ ‬تأتي علي هيئة ومضات هلوسة خاطفة،‮ ‬شديدة الهدوء والتفصيل درجة أرجو معها بين الحين والآخر لو تصلح الذّاكرة الخلل الّذي عادة ما يُنسب إليها‮. ‬أغلب الوقت الّذي كنته في نيويورك كنت أستعمل عطرًا اسمه فلور دوروكاي،‮ ‬ثمّ‮ ‬ليردوتومب،‮ ‬والآن أقل أثر منهما يمكنه تعطيل ارتباطاتي باقي اليوم‮. ‬كذا،‮ ‬لا يُمكنني شمّ‮ ‬صابون هنري بندل بالياسمين دون العودة للماضي،‮ ‬ولا مزيج التوابل الخاص المستخدم في سلق الكابوريا‮. ‬كان ثمّة براميل كابوريا مسلوقة بمطعم تشيكي بشارع ايتيز حيثُ‮ ‬تسوّقت مرّة‮. ‬الرّوائح،‮ ‬بطبيعة الحال،‮ ‬محفزات سيئة السمعة للذاكرة،‮ ‬لكن هناك أشياء أخري تؤثِّر بي بالطريقة ذاتها‮. ‬الشراشف المخططة بالأزرق والأبيض،‮ ‬مزيج فيرمونت،‮ ‬بعض ثياب النوم الباهتة التي كانت جديدة سنة‮ ‬1959‮ ‬أو‮ ‬1960،‮ ‬وبعض الايشاربات الشيفون التي اشتريتها بنفس التاريخ تقريبًا‮. ‬
أتصوّر أنّ‮ ‬كثيرين مِنّا مِمَن قضوا زهوة شبابهم في نيويورك لديهم نفس المشاهد في الصدارة‮. ‬أذكر النزول بالكثير من الشقق نشكو صداعًا خفيفًا حوالي الخامسة صباحًا‮. ‬كان لي صديق لا يستطيع النّوم،‮ ‬وكان يعرف بعض الأصدقاء الآخرين ممن يشكون المشكلة ذاتها،‮ ‬فكنّا نشاهد السماء تضيء ونحتسي الكأس الأخير دون ثلج ثمّ‮ ‬نعود أدراجنا في الصباح الباكر،‮ ‬حينها تكون الشوارع نظيفة ومبللة‮ (‬هل أمطرت بالليل؟ لم نعرف أبدًا‮) ‬وسيارات الأجرة القليلة التي تجوب الشّوارع لا تزال تشعل أضواءها الأماميَّة،‮ ‬والضوءان الوحيدان بإشارات المرور هما الأحمر والأخضر‮. ‬كانت حانات الوردة البيضاء تفتح بوقت مبكِّر جِدًّا صباحًا،‮ ‬أذكر انتظاري في إحداها كي أراقب رائد فضاء ينطلق في الفضاء،‮ ‬ساعتئذٍ‮ ‬انتظرت طويلا حدًّا جعل عيني لحظة إنطلاق رائد الفضاء فعلا ليست علي شاشة التلفاز،‮ ‬بل مسلطة علي صرصور فوق بلاط الأرضيَّة‮. ‬لكم راقت لي الغصون الجرداء المطلّة علي ميدان واشنطن ساعة الفجر،‮ ‬واستواء الحي الثاني أحادي اللون،‮ ‬والفرجة علي سلالم الحريق وقضبان واجهات المحلات المتمايزة والفارغة‮. ‬
إنّ‮ ‬القتال بالسادسة والنصف أو السّابعة صباحًا صعب نسبيًّا،‮ ‬دون نوم،‮ ‬وهو ربّما ما كان أحد أسباب بقاءنا ساهرين كل ليلة،‮ ‬والّذي بدا لي وقتًا ممتعًا من اليوم‮. ‬كانت النوافذ ممكنة الغلق في تلك الشقّة بالناينتيز فكنت أتمكّن من النوم بضع ساعات ومن ثمّ‮ ‬الذّهاب للعمل‮. ‬كنت أستطيع العمل اعتمادًا علي الساعتين أو الثلاث ساعات نوم وإناء قهوة من تشوكفول أوناتس‮. ‬أحببت الذهاب للعمل،‮ ‬الإيقاع المنعش الشّافي لإصدار مجلّة،‮ ‬التتالي المنظّم من ختامات ذات أربعة ألوان وذات لونين إلي ختامات بالأبيض والأسود ثمّ‮ ‬المنْتَج،‮ ‬ما مِن فرصة للتجريد بل شيء بدا سهل الصقل ويُمكن التقاطه من كشك الصّحف وحمله في اليدّ‮. ‬أحببت كافّة التفاصيل الدقيقة بالتجارب الطباعيَّة والتصميمات،‮ ‬العمل لوقت متأخِّر بالليالي التي كانت أعداد المجلّة تذهب فيها إلي المطبعة،‮ ‬والجلوس وقراءة مجلّة فاريتي وانتظار استدعائنا إلي طاولة التحرير‮. ‬من مكتبي،‮ ‬كنت أستطيع أن أطلّ‮ ‬علي المدينة صوب إشارة الطّقس فوق ناطحة سحاب متشوال والأنوار التي كانت تتهجّي حروف التايم ولايف بالتناوب فوق روكفلر بلازا،‮ ‬لكم كان يرضيني ذلك بشكل‮ ‬غامض،‮ ‬تمامًا كالسير بأنحاء الحي السّكني في الساعة الثامنة الليلكيَّة في أمسيات بشائر الصيف والنظر إلي الأشياء،‮ ‬سلطانيات لاوستوفت بواجهات العرض في شارع سبعة وخمسين،‮ ‬الناس بثياب المساء يحاولون الحصول علي تاكسي،‮ ‬الأشجار ولم تكد تكسوها الأوراق،‮ ‬النسيم الهفاف،‮ ‬وكل الوعود الحلوة بالمال والصيف‮. ‬
مضت سنوات،‮ ‬لكنني لم أفقد بعد هذا الإحساس بالدّهشة بشأن نيويورك‮. ‬كنت بدأت آلف إحساس الوحدة بها،‮ ‬إحساس أنّه في أي وقت ليس هناك مَن يحتاج لمعرفة أين كنت أو ما كنت أفعل‮. ‬أحببت المشي،‮ ‬من النهر الشرقي إلي هدسون ثمّ‮ ‬العودة أيام النشاط،‮ ‬أو النزول إلي الفيليج بالأيام الدافئة‮. ‬ربّما تترك لي صديقة مفتاح شقّتها بالويست فيليج حين تغادر البلدة،‮ ‬وأحيانًا أروح إلي هناك فقط لا لشيء إلا لأنّ‮ ‬الهاتف آنئذ قد بدأ في إزعاجي‮ (‬كما ترون،‮ ‬كان الأذي قد لحق بالوردة فعلا‮) ‬ولم يكن لكثير من الناس ذلك الرّقم‮. ‬أذكر يومًا وكان لأحدهم رقم الويست فيليج،‮ ‬فجاء لاصطحابي علي الغداء هناك،‮ ‬أصابنا دوّار الخمر،‮ ‬وجرحت أصبعي وأنا أفتح له زجاجة بيرة فانفجرت بالبكاء‮. ‬مشينا إلي مطعم أسباني وشربنا بلودي ماري وحساء جازباتشو إلي أن أحسسنا بالتحسّن‮. ‬آنذاك لم أكن أعاني الإحساس بالذّنب لأني أقضي المساءات بتلك الطريقة؛ لأنّ‮ ‬كل مساءات العالم كانت لا تزال أمامي‮. ‬
وحتّي بهذا العمر كنت لا أزال أحبّ‮ ‬ارتياد الحفلات،‮ ‬كل الحفلات،‮ ‬بل والحفلات السيئة،‮ ‬حفلات ظهيرة السبت التي أقامها المتزوجون حديثًا مِمَن عاشوا في بلدة ستويفسانت،‮ ‬حفلات الحي الغربي التي أقامها كُتّاب فاشلون أو مغمورون وكانوا يقدمون فيها نبيذًا أحمر رخيصًا ويتكلمون فيها عن الذّهاب إلي جواتالاخارا،‮ ‬حفلات فيليج حيث كان كل المدعوين يعملون بوكالات الإعلان ويصوتون للديمقراطيين الإصلاحيين،‮ ‬الحفلات الصّحفيَّة في مطعم ساردي،‮ ‬أسوأ أنواع الحفلات‮. ‬سيتشكَّل لديك تصوّر الآن أنّني لم أكن المرأة التي تستفيد من تجارب الآخرين،‮ ‬ذلك أنّني استغرقت وقتًا طويلا في الحقيقة قبل أن أكفّ‮ ‬عن الإيمان بالوجوه الجديدة وأبدأ باستيعاب درس تلك الحكاية،‮ ‬وهو أنّه كان ممكنًا بجلاء أنْ‮ ‬أعلق لمالا نهاية في المهرجان‮. ‬
‮ ‬
لا أستطيع أن أحدد اللحظة التي بدأت عندها في استيعاب ذلك الدّرس‮. ‬كل ما أعرفه أنّني اغتممت جِدًّا حين بلغت الثامنة والعشرين‮. ‬كل ما قيل لي بدا مكرورًا،‮ ‬فلم تعد لدّي طاقة كي أنصت‮. ‬لم أعد أستطيع البقاء بحانات صغيرة قريبة من جراند سنترال وسماع أحد يشكو عجز زوجته عن مجاراته وقد فاته قطار آخر إلي كونيكتكت‮. ‬لم يعد لديَّ‮ ‬اهتمام لسماع أنباء الدفعات تحت الحساب التي حصل عليها كتّاب آخرون من ناشريهم،‮ ‬أو أنباء المسرحيات التي تعاني متاعب الفصل الثّاني في فيلادلفيا،‮ ‬أو أخبار الناس الّذين قد أحبهم جِدًّا لو فقط سافرت إليهم وقابلتهم‮. ‬كنت ألتقيهم بالفعل،‮ ‬دائمًا‮. ‬كان ثمّة أجزاء بعينها بالمدينة أضطررت لتحاشيها‮. ‬لا أطيق شمال حي ماديسون في صباحات أيام العمل(كان هذا نفورًا مُرهقًا علي وجه الخصوص،‮ ‬ذلك أنّني كنت أعيش علي مسافة خمسين أو ستين قدمًا شرق ماديسون‮) ‬لأنّني آنئذ كنت أري نساءًا ينزهن كلاب يوركشاير ويتسوقن من جرستيد،‮ ‬يثرن بعضًا مِن اشمئزازي الفبلنسكي‮. ‬لا أستطيع الذهاب إلي ميدان التايمز بعد الظهيرة،‮ ‬أو إلي مكتبة نيويورك العامّة لأي سبب أيًّا كان‮. ‬أعجز عن دخول شرافتز حينًا،‮ ‬وحينًا آخر بنويت تيللر‮. ‬
آذيتُ‮ ‬مَن أهتم لأمرهم،‮ ‬وأسأت لمن لم أهتم لأمره‮. ‬انفصلت عن أقرب النّاس إليّ،‮ ‬وبكيت درجة لم أعد أدرك معها متي أبكي ومتي لا،‮ ‬بكيت داخل المصاعد وسيارات الأجرة ومغاسل الثياب الصينيَّة،‮ ‬وحين قمت بزيارة الطبيب،‮ ‬لم يقل إلا أنني أبدو كمن يعاني اكتئابًا،‮ ‬وأنه لابد أن أعرض نفسي علي متخصص‮. ‬كتب اسم وعنوان طبيب نفساني وأعطاهما لي،‮ ‬لكنني لم أذهب إليه‮. ‬
بدلا من ذلك،‮ ‬تزوّجت‮. ‬تبيَّن أنّ‮ ‬الزواج شيء طيب جِدًّا لكنه جاء في توقيت بالغ‮ ‬السوء؛ إذْ‮ ‬كنت لا أزال لا أستطيع الذهاب إلي شمال حي ماديسون أثناء الصباح،‮ ‬ولا أزال أعجز عن الكلام مع النّاس،‮ ‬ولا أزال أبكي بمغاسل الثياب الصينيَّة‮. ‬لم أع من قبل أبدًا ما تعنيه كلمة يأس،‮ ‬ولست متأكّدة أنّني أعيها الآن،‮ ‬لكنني وعيتها تلك السنة‮. ‬بالطبع،‮ ‬لم أستطع العمل‮. ‬بل ولا حتّي تناول العشاء بأي درجة من اليقين،‮ ‬وقَدْ‮ ‬أقعد داخل شقّة شارع خمسة وسبعين مشلولة حتّي يتّصل زوجي من مكتبه ويقول بلطف أنّني لست مضطرة لحضور العشاء،‮ ‬وأنّني أستطيع لقائه في حانة مايكل أو في توتس شور أو بمطعم ساردي‮. ‬بعدئذ بصباح ما في أبريل‮ (‬تزوجنا في يناير‮) ‬اتصل بي وقال أنّه يرغب في مغادرة نيويورك فترة من الزّمن،‮ ‬أنّه يرغب في ستة أشهر أجازة من المدينة،‮ ‬نستغلها في الذهاب لمكانٍ‮ ‬ما‮. ‬
مضت ثلاث سنوات علي ذلك الكلام،‮ ‬وعشنا في لوس أنجلوس مذاك‮. ‬عديدون مِمَن نعرفهم في نيويورك يتصورونها حالة اضطراب عجيبة،‮ ‬وفي الحقيقة صارحونا بذلك‮. ‬لا توجد إجابة وافية ممكنة علي ذلك الطرح،‮ ‬وهكذا نرد بإجابات تقليديَّة،‮ ‬الإجابات التي يرد بها الجميع‮. ‬أتكلّم عن مدي صعوبة تحمّل تكاليف العيش في نيويورك الآن،‮ ‬عن المساحة التي نحتاجها‮. ‬كل ما أعنيه أنّني كنت صغيرة جِدًّا في نيويورك،‮ ‬وأنّه عند نقطة ما انكسر الإيقاع الذّهبي،‮ ‬ولم أعد تلك الفتاة الشّابة‮. ‬أخر مرّة كنت فيها في نيويورك كانت في صقيع يناير،‮ ‬وأصاب البرد والإنهاك الجميع‮. ‬أغلب من عرفتهم هناك انتقلوا إلي دالاس أو خضعوا لعلاج إدمان الكحوليات أو اشتروا مزرعة في نيوهامبشاير‮. ‬مكثنا عشرة أيام،‮ ‬استقلينا بعدها طائرة بعد الظهيرة عائدة إلي لوس أنجلوس،‮ ‬وفي طريق العودة للبيت من المطار تلك الليلة رأيت القمر فوق المحيط الهادئ وشممت رائحة الياسمين تغمرنا من كل اتجاه،‮ ‬آنئذ علم كل مِنّا أنّه ما من سبب يدفعنا للحفاظ علي الشقّة التي كنا لا نزال نحتفظ بها في نيويورك‮. ‬مضت سنوات كنت أشير فيها إلي لوس أنجلوس بوصفها السّاحل،‮ ‬لكن يبدو أنّها كانت منذ زمن بعيد‮. ‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.