منذ أن قامت الثورة الإيرانية ضد حكم الشاه في عام 1979، جرت العادة علي أن يسيطر رجال الدين المتشددون علي الداخل باستدعاء " بعبع " الخارج . ولعل هذا هو ما دفع راي تاكيه مؤلف كتاب " إيران الخفية : لعبة الشطرنج السياسي الخفي في جمهورية ولاية الفقيه "، الذي أصدره في عام 2005، وقمت بترجمته ونشره، إلي أن يقول في كتابه : " إذا اختفت أمريكا من خريطة العالم لاخترع رجال الدين المتشددون أمريكا جديدة " . ويضيف محلل الشئون الإيرانية الأبرز علي مستوي العالم، وهو أمريكي من أصل إيراني في كتابه : " الأصل في النووي الإيراني ليس صناعة قنبلة نووية، ولا إنتاج طاقة سلمية نووية، وإنما كان وسيلة لإلهاء الشعب بقضية تجعله دائما مضطرا للتضحية ببعض الحقوق مقابل تحقيق الحلم النووي، مستغلين عداء الإيرانيين القديم للأمريكيين، وسقط الإيرانيون في الفخ . ولم يمض وقت طويل حتي أدرك الإيرانيون خاصة الإصلاحيين أنهم سقطوا في الفخ الذي نصبه لهم مرشد الجمهورية الولي الفقيه علي خامنئي ومحافظوه المتشددون الموغلون في التشدد، وبدأوا يتحركون صوب السلطة لإنهاء اختطاف مجتمعهم بحجة " الشيطان الأعظم " المتربص بهم علي طول الخط " أمريكا " . وفي عام 1989، وبعد عشر سنوات من الثورة وصل زعيم ينتمي إلي التيار المحافظ صحيح، ولكنه أقل تشددا وبراجماتيا يري أن استمرار السقوط في الفخ الأمريكي ليس في صالح إيران .هذا الرجل هو هاشمي رافسنجاني الذي استمر في السلطة حتي عام 1997، سعي خلالها إلي تشجيع التقارب مع الغرب، وتحسين العلاقات مع أمريكا، بأساليب كثيرة منها المساعدة في إطلاق سراح رهائن أجانب كانوا محتجزين بلبنان منذ سنوات قبل رئاسته، وتخفيف حدة التصريحات العدائية للأمريكيين .وفي الداخل، سعي رافسنجاني إلي تحويل إيران أكثر انفتاحا ذات نظام مبني علي السوق، وعارض فرض القوانين المتشددة، وشجع علي تحسين فرص عمل النساء، فما كان من المحافظين المتشددين إلا أن بدأوا يخططون لإسقاطه في الانتخابات فقط، وإنما لتحطيم صورته في المستقبل كمرشح سياسي، ومن ثم تعرض رفسنجاني لاتهامات متكررة بأنه جمع ثروة طائلة بفضل علاقاته السياسية، وهي المزاعم التي لم تثبت عليه دوما، وهي المزاعم أيضا التي نفاها علي الدوام. وفيما كان يشبه الثورة علي التطرف والثورة علي التشدد، وصل الإصلاحيون المعتدلون بزعيمهم محمد خاتمي في عام 1997إلي السلطة في انتخابات رئاسية حصل فيها علي 70٪ من من الأصوات ( 20 مليون صوت، ليخلف رافسنجاني ، كما فاز خاتمي بولاية رئاسية ثانية قبل أن يخلفه محمود أحمدي نجاد). خاتمي لم يفعل مثلما فعل رافسنجاني، بل اتخذ خطا أكثر اعتدالا وانفتاحا علي الغرب منه، وتنفس الإيرانيون لأول مرة الصعداء، وخفتت طبول الحرب، واختفت التصريحات العدائية المتبادلة، وراح الاقتصاد الإيراني يتحسن بفعل الاستقرار، وبدأت عائدات البترول تضخ في أماكنها الصحيحة، وخلال ولايتين رئاستين، تحسنت علاقات إيران بالدول الغربية بعد أن شهدت انفتاحا غير مسبوق. ولكن خاتمي لم يكتف بهذا، بل قدم طلبا للبرلمان الإيراني لإلغاء ولاية الفقيه، المنصب الذي يضع الولي الفقيه ( المرشد الأعلي للجمهورية ) فوق جميع السلطات حتي الرئيس المنتخب، ويجعله خصما وحكما، وهنا ثارت ثائرة خامنئي ومتشدديه، وقرروا حرمان الإصلاحيين من الترشح في الانتخابات التالية، وبدأوا رحلة قمع استمرت حتي الآن للأصوات المعتدلة، وانتهت رئاستي خاتمي، وجاء أحمدي نجاد، مرشح خامنئي، الذي كان قد تلقفه وجهزه رئيسا، من بين صفوف ما اصطلح علي تسميته في إيران ب " جيل العائدين من الحرب "، في إشارة للحرب الإيرانية العراقية، ليواصل العزف علي اسطوانة " الشيطان الأمريكي الأعظم "، والتصعيد مع الأمريكيين، والسيطرة من جديد علي الداخل باستدعاء خطر الخارج . وبالأمس فقط، استطاع الإصلاحيون العودة من جديد إلي السلطة، بخاتمي جديد من بين صفوفهم، هو حسن روحاني الذي أعلن أمس رئيسا في انتخابات أكثر من ساخنة، وراهن عليه الإصلاحيون كبارقة أمل وحيدة يمكن أن تخرج إيران من براثن الفخ الأمريكي لا سيما أنه الزعيم المعتدل الذي يؤمن بحتمية إصلاح علاقات إيران الخارجية، ومع أمريكا خاصة، والمصالحة في المحادثات النووية مع القوي العالمية، والنهوض باقتصاد بلاده، الذي تضرر بقسوة من العقوبات، وواجبه تجاه الانتصار للحريات، وإقرار المزيد من التعددية السياسية وإنهاء عزلة إيران الدولية. والآن بعد عودة الإصلاحيين للسلطة، لا يعلم أحد في إيران كيف ستسير العلاقة بين خامنئي والرئيس الجديد، الذي تحداه، وأسقط مرشحه المحافظ كبير مفاوضي النووي السابق سعيد جاليلي، في مفاجأة بالنسبة لخامنئي كان لها وقع الصدمة ؟ .. الإيرانيون ومعهم العالم ينتظرون الآن ما ستحمله الأيام القادمة من إجابة.