انطلقت الدعوة لمؤتمر العدالة الأول عام 1986 من نادي قضاة مصر حيث عقد المؤتمر، وكانت المقدمة للوثائق الصادرة عنه متضمنة أن القضاة هم الذين دعوا لهذا المؤتمر وأعدوا له، لأنهم حملوا أمانة الحكم بين الناس فهم جديرون بأن يحملوا أمانة رفع المعاناة عن كاهلهم وهم أعلم الناس بمواطن الداء وسبل الدواء ، بينما مؤتمر العدالة المزمع إقامته وجه رئيس الجمهورية الدعوة لرجال القضاء والنيابة وسائر الهيئات القضائية، غير أنها لم تلق ترحيبا من عموم القضاة للحقائق التالية: أولا : إن القول بأن رئيس الجمهورية وجه الدعوة للمؤتمر بوصفه الحكم بين السلطات هو خطأ شائع، ذلك أن النص في المادة 132 من الدستور القائم قد جاء في الفصل الثاني الخاص بالسلطة التنفيذية، ونص فيه علي أن رئيس الجمهورية هو رئيس السلطة التنفيذية ويرعي مصالح الشعب ويراعي الحدود بين السلطات، وهو مايعني أنه بوصفه رئيسا للسلطة التنفيذية يلتزم بتطبيق الدستور والقانون علي النحو الذي يحقق مصالح الشعب ويرعي مصالح الوطن، فلايتغول علي السلطة القضائية بإصدار قوانين تتضمن الانتقاص من اختصاصاتها أوعزل أحد قضاتها، وأن ينفذ الأحكام النهائية الواجبة النفاذ متي طلب منه ذلك، وألا يعلق علي حكم قضائي إلا بالطريق الذي رسمه القانون وهو الطعن علي الحكم، أويتدخل في عمل السلطة التشريعية بأي شكل من الأشكال، والقول بغير هذا التفسير لاسند له في أي دستور من الدساتير الحديثة في العالم ويعود بنا إلي نظريات التفويض والحق الالهي التي ظهرت في القرنين السابع عشر والثامن عشر ودونها لويس الرابع عشر في مذكراته بقوله (إن سلطة الملوك مستمدة من تفويض الخالق فالله لاالشعب مصدرها، وهم مسئولون أمام الله عن كيفية استعمالها، وسلطة عمل القوانين هي من اختصاصنا وحدنا بلا تبعية ولاشريك )، ولما كانت هذه النظريات ترتكز علي الاعتقاد الديني فهي تخرج عن نطاق البحث العلمي الفني، وقد نصلح في عصور الجهل والتخلف، ولاتصلح للحكم في عصر العلم والمدنية، وهي لاتؤدي فقط إلي الحكم الاستبدادي لما لمبادئ الدين من أثر كبير في الضمير الانساني، بل إنها تعد مبررا لاطلاق يد الحاكم بلا رقابة ولامسئولية. ثانيا : منذ صدر قانون استقلال القضاء عام 1943 تضمنت مذكرته الايضاحية عبارات أخاذة لاتزال محتفظة بجمال الحقيقة التي عبرت عنها، فمن بين هذه العبارات "أن القضاء سلطة تقوم بجانب السلطتين التشريعية والتنفيذية بأداء رسالة هي بطبيعتها مستقلة، وكل تدخل في عمل القضاء من جانب أيا من السلطتين يخل بميزان العدل ويقوض دعائم الحكم، وأن في قيام القاضي بأداء رسالته حرا مستقلا مطمئنا علي كرسيه وآمنا علي مصيره أكبر ضمانة لحماية الحقوق العامة والخاصة، فهو الأمين علي الأرواح والأنفس والحريات، وهو الحارس للشرف والعرض والمال، ومن حق الناس أن يطمئنوا إلي أن كل ما هو عزيز عليهم يجد من كفالة القضاء أمنع حمي وأعز ملجأ، وإذا نال أحدهم ضيم أوحاق به ظلم فمن حقه أن يطمئن إلي أنه أمام قضاء قوي بحقه عزيز بنفسه مهما يكن خصمه قويا، ومن الحق أن يتساوي أمام القضاء أصغر شخص في الدولة بأكبر حاكم فيها، وأن ترعي الجميع أعين العدالة". وعلي الرغم من أن القضاء ظل مستقلا بموجب هذا القانون قبل ثورة يوليو عام 1952 إلا أن الأنظمة الاستبدادية التي توالت علي الحكم بعد ذلك حرصت علي الانتقاص من هذا الاستقلال وتفتيت وحدة القضاء، ذلك أن من طبائع الأنظمة الاستبدادية احتقار القانون وعدم احترام أحكامه، لأنها تنكر فكرة القانون ذاتها ولاتسلم إلا بحقها أوبسلطتها في الحكم دون أي قيد أوشرط، وخبرة المستبدين بنفسية الجماهير وادراكهم تلهف مجموع الناس لاحترام القانون والنظام، يدفعهم إلي تبرير تصرفاتهم بنصوص قانونية معيبة، فكل جرم يقترفونه يجب أن يكون له أساس فني، وإذا كان هذا الجرم يتعارض مع القوانين القائمة فلا جناح في أن يخلق قانون يبرر أخس الجرائم كسرقة أموال الشعوب واحتكار أقواتهم وإضفاء الحماية علي السارقين والمحتكرين بموجب تلك القوانين المعيبة، فاستقلال القضاء خرافة في نظام يري أن الإنسان مجرد وسيلة من وسائل السلطة وليس غاية تسخر لخدمتها كل النظم، ومن ثم جري العدوان علي هذا الاستقلال ردحا طويلا من الزمن، تارة باعتباره مرفق وليس سلطة وحينما اعترض القضاة علي ذلك كانت مذبحة القضاة الشهيرة عام 1969، والتي فصل فيها من فصل من القضاة وأحيل آخرين إلي وظائف مدنية، وتارة أخري بالتلويح بمناصب سياسية للقضاة أوندبهم في أماكن حكومية تخرج عن نطاق عملهم القضائي نظير مقابل نقدي كبير، مما يفقدهم الصلاحية لنظر قضايا الجهات التي يندبون إليها، والمفارقة الغريبة أنه حتي بعد ثورة 25 يناير التي قامت من أجل الحرية والعدالة والمساواة أمام القانون، وجدنا البعض يروج لأفكار خبيثة بالقول بأن القضاة موظفون وبالمناداة بتطهير القضاء الذي يمكن من خلاله التخلص من بعض القضاة بغير الطريق القانوني وبضماناته المألوفة، مع أن القضاء كان دائما طوال فترات الاستبداد هو الملجأ والحصن الأخير الذي يحتمي به الشعب من عسف السلطة واستبدادها، وأسلوب التطهير الذي يروج له البعض يتنافر تنافرا مطلقا مع استقلال القضاء الذي أوجب خضوع القضاة لنظام خاص للتأديب في كل ما يمكن أن ينسب إليه من خروج علي مقتضي التقاليد القضائية أوأي انحراف عنها ويتطلب توافر أدلة قاطعة علي ارتكاب هذا الانحراف، وإنه لأمر مجاف للعدالة فضلا عن مناهضته الصارخة لاستقلال القضاء أن يحاسب القاضي علي الشبهات التي يهدرها هو كقاضي في المحاكمات الجنائية فوق منصة القضاء، فما جدوي استقلال القضاء إذا سمحنا تحت شعار تعبير مخادع هو رقابة الرأي العام أن يكون العمل القضائي أوالحكم القضائي مثار مناقشة أوتقييم من غير المتخصصين، مع أن المهم هو اطمئنان الناس لسير الاجراءات القضائية في مجراها الطبيعي لتحقيق العدالة وانطباق القانون، وهناك من المقومات الأساسية لاستقلال القضاء ما يجب التأكيد عليه حتي لايكون هذا الاستقلال خرافة أوعديم الجدوي، وهي أنه سلطة تقف علي قدم المساواة مع سلطتي الدولة الأخريين التنفيذية والتشريعية، مما يعني أن قانون السلطة القضائية كي يكون معبرا عن إرادة القضاة الحقيقية يجب عرضه علي الجمعيات المعمومية للمحاكم لدراستها ومناقشتها، طالما أن تلك الجمعيات هي صاحبة الاختصاص الأصيل بنظر كل مايتعلق بتنظيم سير العمل القضائي ومايعترضه من معوقات طبقا للمادة 30 من القانون القائم، وهو مالم يتم قبل توجيه الدعوة إلي مؤتمر العدالة المشار إليه.