* يخاف بعض الناس من الفوز. ومن الفرحة. ولا يصدق أنه يستحقها. وهذا ما حدث في ختام مهرجان القاهرة السينمائي الدولي مساء الخميس الماضي حين أعلنت الجوائز فحصلت مصر علي نصيب جيد منها بداية بفوز فيلم "ميكروفون" تأليف وإخراج أحمد عبدالله الذي حصل علي جائزة أفضل فيلم عربي إضافة لفوزه السابق بجائزة التانيت الذهبي في مهرجان قرطاج السينمائي الدولي بتونس. ثم وفي المسابقة الدولية للأفلام الروائية الطويلة حصل عمرو واكد علي جائزة التمثيل الرجالي مناصفة مع الممثل اليساندرو جاسمان عن بطولتهما لفيلم "الأب والغريب" الايطالي الجنسية.. إخراج ريكي تونياتزي. كما حصلت سوسن بدر علي جائزة التمثيل النسائي مناصفة أيضا مع الممثلة الفرنسية إيزابيل هوبير. كلتاهما ممثلة كبيرة ولذلك حصلت علي تصفيق الجمهور وحماسه الشديد. وإن كانت حماسة سوسن أكبر بالطبع. فهذه الممثلة القديرة تقدم كل يوم درساً علي أنها تعشق التمثيل كفن في حد ذاته بدون النظر لطول الدور أو عرضه أو "البنط" الذي يكتب به اسمها علي الشاشة وفي الافيشات. وجاء ختام الجوائز فوز فيلمها "الشوق" بالهرم الذهبي في هذه المسابقة. وهو فيلمها لأن سوسن بدر هي بطلة هذا الفيلم الذي يقدم بطولة من نوع آخر ممكن أن نسميها بطولة أدوار الهموم. وهو ما سآتي إليه حالاً. لكن حصول فيلم "الشوق" علي هذه الجائزة يعني التقدير لمؤلفه سيد رجب الكاتب الجديد علي السينما المصرية والممثل القديم "وهذه ليست السابقة الأولي في مصر. فقد بدأ محمد جلال عبدالقوي حياته مع الفن بالتمثيل وأصبح الآن واحدا من كبار نجوم الدراما التليفزيونية" وأيضاً فوز الفيلم يعني تقدير مخرجه خالد الحجر وفريق العمل معه. وفيه مدير تصوير غير مصري هو "نستور كالفو" والمونتيرة منار حسني والموسيقي هشام جبر وتقدير جهات الانتاج التي شاركت فيه سواء المنتج محمد ياسين أو الشركة العربية أو شركة ثالثة "3B" ورابعة فرنسية. لقد أعطت لجنة التحكيم الدولية المكونة من 11 بينهم ثلاثة من كبار المخرجين هم آرتورد بريستين المكسيكي رئيس اللجنة وهيكتور أوليفيرا الأرجنتيني وعلي بدرخان المصري تقديرها لمخرج استطاع أن يدخل المشاهد في حالة من الاستقطاب تجاه بشر يمثلون قطاعا كبيرا من الناس في كل مكان في العالم. وليس في مصر فقط. يعيشون في حالة من الفقر والضنك تجعل العلاج بالنسبة لهم حلماً غير متاح. وهو ما بدأ به الفيلم حين عجزت الأسرة الفقيرة عن علاج طفلها في أحد أحياء الإسكندرية الشعبية. فمات وسط عجز الجميع عن دفع مصاريف غسيل الكلي ثلاث مرات أسبوعياً لتجد الأم فاطمة "سوسن بدر" نفسها في هم عظيم لا تستطيع معه النوم أو الصحو أو النواح. فتفر إلي من تحتمي به. كما تظن. وهي الأسرة التي تركتها منذ عشرين عاما لتتزوج من تحب. لكن نفسها الجريحة تأبي إكمال المشوار لطلب المعونة بعد أن وصلت فعلاً للقرية. فتعود بالقطار علي غير هدي لتنزل القاهرة. وتهيم علي وجهها وهي تغمغم بأن "الولد مات" فقد كان الابن الوحيد بعد ابنتين تقبعان في المنزل في انتظار العدل. وتلعب الحياة لعبتها مع الأم المهزومة حين يضع أحدهم بجانبها مبلغا وهي مكومة في أحد شوارع القاهرة. فيشرق وجهها بالفرحة بعد أن وجدت الحل.. وهكذا تقسم فاطمة وقتها كل أسبوع بين القاهرة. حيث مقر عملها في التسول. وبين الإسكندرية وسط العائلة والبنات والزوج العامل في محل ترزي "سيد رجب". تاركة البنتين وحدهما في البيت "روبي في دور شوق وميرهان في دور عواطف". إن الفيلم هو دراما هذه المرأة الأم المصابة بكل الأمراض الممكنة. ولكن لديها شجاعة الرهان بكل شيء لكي تستمر الحياة. سواء الرهان بامتهان النفس في جولات لا تنتهي لجمع المال بالتسول. أو الرهان بالموروث في حكم البنات حين تتعامل معهما بقسوة بالغة باليد والحذاء لقهر أي رغبة لهما حتي يتسني لها إكمال "تخطيطها" لهما. والمبني علي جمع المزيد من المال. لإبعاد الأسرة عن "الخن" الذي تسكنه والسكن في مكان يجذب عرسان أفضل لبناتها. ولهذا ترفض زواج "شوق" من حبيبها الجار المتواضع لأنه لا يمتلك شقة. عاشت فاطمة حلمها وحدها تاركة الأسرة. ففرت من يديها. عرف أبوشوق أحضان بائعة يانصيب جوالة. واستجابت شوق وعواطف لعبث شباب رصد حالتهما. وصنعت الظروف الصعبة للعائلة النهاية موت الأم وفرار البنتين ومعهما "بؤجة" النقود التي جمعتها في مشهد لا يستدر دموع المشاهد. ولكنه يجعله يرتجف لفرط قسوته المتزايدة. فقد تركت الفتاتان الأب نائماً وهربتا. مع أنه كان أكثر حنانا من الأم. لكن لا أحد هنا يدين أي من أفراد هذه العائلة التي تبدو وكأنها أحدث طبعة من العائلات الفقيرة التي قدمتها الشاشة المصرية. تذكرك من جانب ما بفقر عائلة فيلم "بداية ونهاية" في زمن لم يكن التسول فيه هو الحل. وكان الطموح مازال موجودا برغم سوء الظروف. وربما كانت هذه المقارنة مع الأجواء المحفوظية السينمائية جزءاً من أسباب فوز الفيلم. فالمعروف أن ارتورو ربستين رئيس اللجنة أحد المعجبين بروايات نجيب محفوظ وقد أخرج فيلما عن "بداية ونهاية" حصل علي عدة جوائز دولية. كما أن للمخرج الكبير علي بدرخان أعمالا تطرح قضية الفقر من زوايا مختلفة مثل "الجوع" و"شفيقة ومتولي". وليس هذا الكلام تبريراً لفوز الفيلم بالهرم الذهبي. وإنما هو نوع من التحليل. خاصة مع وجود ثلاثة من كبار الممثلات هن: دينت نيومان "جنوب أفريقيا" ويون جونجهي "كوريا الجنوبية" وميلتيم كومبول "تركيا"م في لجنة التحكيم. واستحالة مرور أداء سوسن بدر عليهن بدون أن يأخذ حقه. بالفيلم طبعا بعض الهنات ومنها عدم اتساق الفتاتين مع الجو العام المحيط بهما بالنسبة للشكل والملبس. وكذلك ما يخص ملامح الحارة والناس فيها. إضافة إلي عدم تفسير "حالة الأم" حين تغضب وتضرب رأسها في الحائط. فهل هي عادة أم مرض. لكنها التفاصيل التي لا تخل ببناء درامي واضح المعالم يطرح ويفسر بعض ما يحدث في الحياة المصرية الآن. بعيدا عنا. وأمام عيوننا انه فيلم عن مصر 2010 بحق.. حتي لو لم نحب ما قدمه لنا.. [email protected]