"أيام فلسطين في الأندلس" عنوان ليس له أي بُعد تاريخي. وإن كان التاريخ بوقائعه وأحداثه المعروفة سيطل برأسه وسيفرض نفسه بمجرد أن ترد علي أي لسان وفي أي بيان الكلمتان: فلسطين والأندلس. ولكن ما أبعد التاريخ في هذا العنوان عن الواقع الحي المعاش الذي يجعل الأندلس. نعم الأندلس العصرية. وتحديداً جنوب أسبانيا. تتعاطف مع فلسطين القضية ومع شعبها. وقبل أن أدخل في فلسطين فإن الأندلس أو "إقليم أندلسية" يضم 9 محافظات في جنوب أسبانيا. وهي محافظات يخفق قلبها مع فلسطين» دعماً ومساعدة وتضامناً وتعاطفاً. وليس هذا توصيفاً إنشائياً. إنه تقرير لواقع عشته وعايشته بنفسي علي مدي أسبوع تقريبا تنقلت فيه بين انتجرا. وملقا. وغرناطة. وقرطبة ثم وقفت علي مشاهد الإسراف والبذخ اللا إنساني في كاربيَّا. وفي "بورتو اليخوت" الذي يسمونه "بورتو بانوس". وإذا تداعي إلي الذهن "بورتو مارينا". حيث عاصمة الساحل الشمالي. فإنه إسراف هنا وسفه هناك. وما بين الإسراف والسفه تضيع أموال العرب. وربما العرب أنفسهم. ندع التفصيلات فهي طويلة عريضة بطول وعرض أسبوع كامل قضيته هناك متحدثاً ومستمعاً ومحاوراً ومشاهداً. ومبهوراً بكل هذا. وشربت منه جرعة أمل في أن شعوب العالم تتعاطف معنا. مع "أم القضايا العربية". وما علي العرب إلا أن يتحركوا ويفعلوا وينشطوا ويهتموا بقضيتهم اهتمام رجل من فلسطين. ساقته المقادير إلي أن يعيش في الأندلس منذ 20 سبتمبر 1967. حينما ذهب إليها طلبا للعلم. والتحاقاً بكلية الطب. ومن هناك انطلق سنوات ليعمل وينشط في أمريكا اللاتينية. وما بين أسبانيا وبلدان أمريكا الجنوبية عقد صداقات واسعة وأقام علاقات متينة مع مؤسسات وشخصيات وجماعات وجمعيات وجعل كل هذا من أجل فلسطين. وترجم هذا بشكل عملي منذ 2003 في "المنظمة الأوروبية للتعاون مع فلسطين". وحتي لا أطيل الشرح والتفصيل في الحديث عن هذه اللجنة فإنها أقامت في فلسطين في العام الحالي -2010- 65 مشروعاً. تكلفت حوالي 50 مليون جنيه مصري. وتخطط لثمانين مشروعاً آخر في العام الجديد. وتشمل هذه المشروعات الزراعة والتعليم والصحة وغيرها. أما في داخل الأندلس فحدث عن نشاطها ولا حرج. فهي تعمل بجد ونشاط من أجل تضامن شعبي حقيقي مع فلسطين. وفي سبيل ذلك تعقد الندوات والمؤتمرات والملتقيات. وتقيم المعارض. وتدعو شخصيات فلسطينية وعربية ودولية للمشاركة في نشاطها الاعلامي. وفي محاورة سياسيين وصحفيين ومفكرين أسبان حول فلسطين وتطوراتها. وما يجري فيها. ولا أتردد في القول: إن ما شاهدته وعشته لم أكن لأتصوره حالياً في أي بلد أوروبي تعاطفاً وتأييداً لقضية فلسطين وكفاح شعبها. إن ما سمعته في قاعة المحاضرات في فندق "دانتيجراجولف" وفي مدن أسبانية مختلفة لم نعد نسمعه في كثير مما يجري حولنا في وطننا العربي: إدانة -وليس شجباً- لإسرائيل وسياستها وتصرفاتها. وتأييداً لأهداف النضال الفلسطيني وكيفية تحقيقها. إن الكلمات والمصطلحات التي استخدمتها رئيسة منظمة "مؤتمر السلام العالمي" وممثلو أحزاب ومنظمات أسبانية لم يعد كثير من العرب يستخدمونها. يكفي مثلاً التأكيد علي حقوق اللاجئين الفلسطينيين وقول محافظ قرطبة: "لن ننساهم". كلمة استوقفتني طويلاً. وتساءلت: أين نحن العرب من هذا؟ وهو سؤال طرحه بقوة ووضوح أحد المحاورين الأسبان. من موقع التعاطف مع العرب. وكيف تراجعت مواقفهم حتي عن قرار الأممالمتحدة منذ 1948 بشأن اللاجئين إلي أن وصلت إلي "حل متفق عليه". حسبما تقول "المبادرة العربية". نسيت. وربما تناسيت أن أقول لك إن الرجل الذي يقف وراء كل هذا هو الدكتور رشيد سليمان "أبوجهاد". وهو طبيب أمراض نفسية مرموق وأستاذ جامعي. وهو رئيس المنظمة الأوروبية للتضامن مع فلسطين. وتسمي اختصاراً "اسيكوب" التي أصبحت في وقت قصير من أنشط منظمات المجتمع المدني في أسبانيا. علي الأقل بالنسبة لمجالها. أي دعم فلسطين.وهو إلي جانب ذلك عضو في العديد من اللجان والهيئات الأسبانية. ويضع كل هذا في خدمة قضيته أي فلسطين. لدرجة أني قلت لإخوة فلسطينيين شاركت معهم في ندوة هذه اللجنة بعنوان "ماذا بعد غزة؟". لو كان لديكم في كل بلد من بلدان العالم رجل واحد في إخلاص ونشاط الدكتور "أبوجهاد" وقدرته علي نسج العلاقات مع الناس والمنظمات لكان لكم شأن آخر في كسب الرأي العام العالمي. وتحسرت علي أيام عشتها وتجارب شاهدتها كانت تضع فلسطين البند الأول في جدول التضامن العالمي مع حركات التحرر الوطني. ولكن للأسف. كل هذا ضاع. أو ضُيَّع. كيف ضاع؟ ومن المسئول؟ العقدة طويلة ومحزنة قدر الحزن الذي يثيره عجز الجامعة العربية في هذا الميدان. ميدان مخاطبة الرأي العام العالمي. بشكل علمي وعقلاني يكسب العقول قبل الأفئدة. أو يكسب العقول والأفئدة معاً. لا مجال هنا للبكاء علي اللبن المسكوب. فأمامنا اليوم تجربة لبن تم "خضه" فأعطي ويعطي زبداً ليس بقليل. وهذا الزبد ليس عطاء الرجل وحده. أعني الدكتور رشيد. بل أعني أنه جهد مجموعة نشطة ومخلصة من الأسبان الذين عرفوا قضية فلسطين وأبعادها الحقيقية. وتضامنوا معها بقوة وإخلاص. ولعل هذا هو الدور الأكبر الذي قام به "أبوجهاد". وهو كيفية انتقاء وكسب هؤلاء الأشخاص كي يقدموا هذه التجربة التي لا أعرف مثيلاً لها في كثير من البلاد التي يعيش فيها عدد أكبر من الفلسطينيين الذين يعيشون في أسبانيا. ويمتلكون ثروات طائلة. ولكنهم عجزوا عن الوفاء بحقوق فلسطين عليهم. وأذكر علي سبيل المثال هنا دولة شيلي التي يعيش فيها حوالي 100 ألف فلسطيني يسيطرون علي نسبة كبيرة من اقتصاد هذا البلد. ومع ذلك لم يكرسوا شيئا من ذلك أو علي الأقل لم يكرسوا الجزء المناسب من ثرواتهم ونشاطهم من أجل فلسطين.. في المقابل هناك أقلية صهيونية تنشط وتعمل وتؤثر. ولعل هذا ما دفعني منذ سنوات وسنوات إلي أن أكتب وأردد السؤال: متي نتعلم من عدونا؟ والدرس هنا. أن كفاءة الحركة الصهيونية. ويجب أن نعترف بذلك. تكمن في قدرتها علي أن تأخذ من كل "يهودي" ما يستطيع أن يقدمه. وبرز هذا بشكل خاص حينما تم التداخل بين المنظمة الصهيونية العالمية والمؤتمر اليهودي العالمي. وقد شهد هذا التداخل صراعات عميقة وطويلة. انتهي في أكثر من حالة إلي أن يكون رئيس المنظمة الصهيونية هو نفسه رئيس المؤتمر اليهودي العالمي. وهذا بالضبط. ما أهملته منظمة التحرير الفلسطينية. بعد أن مارسته سنوات خاضت خلالها معركة كسب الرأي العام العالمي. ونسجت علاقات ممتازة مع قوي شعبية وحزبية في كثير من دول العالم. ومن أسف أن كل هذا تراجع. بل تلاشي. ولا تكاد تسمع صوتا فلسطينيا إلا همسا. في كثير من دول العالم. ومن هنا تأتي أهمية تجربة "اسيكوب" والقائمين عليها. وقد دعيت إلي ندوتها حول "ما بعد غزة" من جانب الدكتور "أبوجهاد". بناء علي قراءته لبعض ما أكتب عن فلسطين. خاصة في مجلة "الحرية" التي تصدرها الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين. وتلقيت الدعوة عبر صديق فلسطيني مقيم في دمشق. سألني: هل تلبي دعوة إلي ندوة حول فلسطين؟ وبعد أخذ وعطاء أبديت موافقة مترددة. وبناءً علي هذه الموافقة تلقيت فوراً الدعوة عبر الهاتف من الدكتور "أبوجهاد" نفسه. ومن ثم لم يعد مجال للتردد أو التراجع. وفوجئت بأن الحصول علي تأشيرة دخول لأسبانيا يحتاج إلي أوراق وشهادات غير معتادة: حساب في البنك. شهادة تأمين صحي دولي. الدعوة. تذكرة الطائرة. مكان الإقامة تحديداً. وقد أعادت هذه الأوراق ترددي من جديد. ولكن غالبت ذلك. وحصلت علي التأشيرة. وأعددت ورقة عن الأسباب الرئيسية لعدوان إسرائيل علي قطاع غزة الذي سمته "الرصاص المصبوب". وألقيت ملخصاً للورقة في الجلسة الأولي من الندوة. ثم فوجئت بأني مدعو إلي الحديث في جلستين أخريين. إحداهما عن "بدائل موقف المنظمات الدولية من قضية فلسطين". واخترت الحديث هنا عن بديل للموقف العربي الراهن وما مقومات هذا البديل. والدور الذي يمكن أن تقوم به الدول الأوروبية في هذا الشأن. وقد فوجئت في هذه القضية بالنقد الحاد. خاصة من جانب قوي يسارية أوروبية. لموقف التبعية الذي تتخذه الدول الأوروبية تجاه الولاياتالمتحدة. خاصة في قضية فلسطين وفي العلاقات مع العرب عامة. إن ما سمعته من كثير من المتحدثين الأسبان في هذه الندوة أثار لديَّ انطباعاً هاماً بأن أوروبا تكاد تفيق من "حكاية الهولوكست" أو "المحرقة" التي تعرض لها اليهود في الحرب العالمية الثانية. وقال هؤلاء بكل وضوح إنه لم يكن اليهود وحدهم الذين تعرضوا لمظالم و عذابات و"محرقة" الحرب العالمية الثانية. فقد عانوا مثلما عاني آخرون. وتعرضوا لما تعرض له كثيرون في عدد غير قليل من الدول الأوروبية. في حدود ما رأيت وسمعت وشاهدت أكاد أقول إن قوي أوروبية مؤثرة تكاد تتمرد علي الخوف الذي عانته طويلا من الاتهام بمعاداة السامية. وهذه "اليقظة الأوروبية" تكاد تكون وراء الذعر الذي تبديه الدوائر الإسرائيلية مما تسميه "نزع الشرعية" عنها. وكان من المفيد في هذا الخصوص حضور مخرج سينمائي إسرائيلي شارك بالحديث في الندوة وعرض عدداً من أعماله السينمائية التي سجلت بعض ما يجري في الأراضي العربية المحتلة. خاصة في المخيمات. الجلسة الثالثة التي شاركت بالحديث فيها كانت عن جذور الصراع. والصهيونية. ومسئوليات المنظمات الدولية. وتناولت أساساً جذور الصراع العربي- الصهيوني. مركزاً علي أننا نحن العرب نخوض الصراع ضد إسرائيل والصهاينة وكل من يدعمهم. ولسنا -ولم نكن- في صراع مع اليهود الذين قال عنهم الشعب الفلسطيني منذ نهاية الحرب العالمية الأولي: "إخواننا في الوطن. لهم ما لنا وعليهم ما علينا". ونظراً لضيق الوقت لم أتعرض لأكذوبة خاصة بهذا الشأن. هي أكذوبة إلقاء اليهود في البحر. والتي أثبتُّ بالبحث التاريخي منذ سنوات أن الصهاينة هم الذين صكوها. أو قلبوها. بعد أن كانوا يقولون إنهم يريدون إعادة العرب إلي الصحراء. وتحدث مشاركون فلسطينيون عن أوضاع حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة. وعن الاقتصاد الفلسطيني. وعن الأسرة في السجون والمعتقلات الإسرائيلية. وقد شهد هذه الجلسات عدد لا بأس به من المهتمين والمسئولين والصحفيين في الأندلس. وكان عدد الحاضرين في حدود مائة شخص.. ثم ألقيت محاضرات في ندوات أخري في مجلس محافظة قرطبة. وفي احدي مدارسها. كما صدر عن الندوة بيان من عشر نقاط من أهم ما يمكن أن يصدر عن مثل هذه الندوة علي هذا المستوي في أي بلد عربي. وفي إطار المحاضرات والمحاورات أبدي المشاركون في الندوة اهتماماً بدور الاعلام. وكيف أن منابر اعلامية "مستقلة" بدأت في الظهور سواء في المجال الصحفي أو الإذاعي أو في مواقع الانترنت. ودعا المشاركون في الندوة إلي البحث عن دبلوماسية دولية مختلفة عما هو قائم. وتضمن ذلك الدعوة إلي أن يغض الأوروبيون "الاتحاد الأوروبي" العلاقة الخاصة مع إسرائيل. كما دعوا إلي زيادة اهتمام منظمات المجتمع المدني بالتضامن مع فلسطين والدفاع عن حقوق شعبها. نعم حقوق شعبها. كما تحدث عنها وحددها أسبان بدوا وكأنهم لا يقلون عروبة عن كثير من العرب. ولا يتبقي اليوم سوي أن أشير إلي أني ذهبت إلي أسبانيا. أقصد تحديداً الأندلس. في 28 نوفمبر وعدت مساء يوم الاثنين الماضي 6 ديسمبر. أي أني عشت وكنت من ضحايا إضراب الملاحين الجويين وتوقف حركة الطيران. ونمت ليلتي في مطار ملقا. حيث تم إلغاء الرحلة إلي برشلونة بينما كنت أتأهب لدخول الطائرة. ولكن عذاب تلك الليلة لم يؤثر قليلاً أو كثيرا علي سعادتي واهتمامي بهذه الندوة. التي ربما تكون نقطة بداية جديدة للتعامل مع شعوب أوروبية بشأن فلسطين.