لا مفاجآت في قرارات "ترامب" لم يكن الرئيس الأمريكي "ترامب" هو مَن أرسل الجنود الأمريكيين إلي سوريا. أو قاد عملية تشكيل تحالف دولي موسع من أكثر من ستين دولة لمواجهة تنظيم "داعش" فيها وفي الشرق الأوسط. الرئيس السابق "أوباما" هو من فعل ذلك. وحين جاءت القوات الأمريكية إلي سوريا. لقيت معارضة داخلية في أمريكا. خوفًا من تورط في حرب يطول أمدها. وتحول سوريا إلي مستنقع يصعب علي أمريكا الخروج منه. وامتدت معارضة الوجود العسكري الأمريكي في سوريا إلي دول أخري. إقليمية مثل إيران. وغير إقليمية. بينما اعتبر النظام السوري هذا الوجود احتلالاً. لأنه جاء بلا دعوة منه. ولأنه لم يحارب "داعش". وإنما حارب النظام نفسه. ودعَّم المعارضة السورية في مواجهته. الآن. حين يقرر الرئيس "ترامب" سحب جنوده من سوريا. فإنه يواجه نفس المعارضة بشكل آخر. وبصورة أكثر اتساعًا. معارضة من المؤسسة العسكرية الأمريكية ذاتها. لأنه اتخذ قراره خارجها.. لم يستشرها. ولم يلتفت إلي تقديراتها للموقف سواء من حيث ضرورة الانسحاب أو حجمه. أو توقيته. أو تأثيره علي الحلفاء. أو علي الموقف في سوريا علي الأرض. بل التفت عن كل هذه التقديرات. ومعارضة من الحلفاء. الأوروبيين بالذات. وخصوصاً في حلف الأطلنطي. لأنه لم يبلغهم بنيته. ولم يتشاور معهم قبل أن يحول النية إلي قرار معلن. ومعارضة من قوي داخلية في سوريا. وقوي إقليمية خارجها. كانت تستفيد من الوجود العسكري الأمريكي. إذ يمثل لها غطاءً لتحقيق مكاسب خاصة. جغرافية أو سياسية أو اقتصادية.. وانسحاب هذا الوجود يرفع عنها هذا الغطاء. ويتركها وحدها في العراء دون سابق إنذار حتي تتمكن من تدبير أمورها. ورأينا. خلال هذا الأسبوع. أكثر من "ترجمة" عملية لهذه المعارضات. استقال "جيم ماتيس" وزير الدفاع في إدارة ترامب. اعتراضًا علي تجاهل "ترامب" لرأيه. كما استقال "ماكجورك" الممثل الشخصي للرئيس الأمريكي لدي التحالف الدولي ضد "داعش" في سوريا. وكان حلفاء أمريكا الأوروبيون في "الأطلنطي". والآسيويون خارجه مثل اليابانوكوريا الجنوبية. يعتبرون وجود "ماتيس" في الإدارة الأمريكية بمثابة "صمام الأمان الأخير" لهم في مواجهة قرارات ترامب المفاجئة و"المدمرة" أحياناً من وجهة نظرهم. وخرجت أصوات قادة أوروبيين تنتقد قرار ترامب. كان أبرزها صوت الرئيس الفرنسي "ماكرون". كما انطلقت أصوات من داخل سوريا. أبرزها صوت ما يسمي ب"قوات سوريا الديمقراطية" المُشَكَّلة من أكراد سوريا. الحليف الداخلي الرئيسي للولايات المتحدة. ووصفت هذه الأصوات قرار "ترامب" بالخيانة. لأنها تعتبر أنها. وقد قاتلت إلي جانب قواته. فإن هناك "شراكة دم" تفرض في أبسط التقاليد والأعراف العسكرية والإنسانية. التشاور المسبق. أو علي الأقل الإخطار عند اتخاذ قرارات استراتيجية. ولم يتوقف الأمر عند المعارضات. بل امتد إلي "المخاوف" من أي تأثيرات سلبية للانسحاب. سارع رئيس وزراء العراق إلي الاتصال بوزير الخارجية الأمريكي. ليحصل منه علي تأكيد بأن الانسحاب من سوريا لن يؤثر علي الالتزام الأمريكي بمحاربة داعش في العراق. وعلي الجانب الآخر. لم يستطع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إخفاء مخاوفه من أن يؤدي الانسحاب الأمريكي إلي مضاعفة النفوذ الإيراني في سوريا. لكنه كالعادة حاول أن يخفي مخاوفه في غلاف من القوة. فأعلن أن إسرائيل ستظل في كل الأحوال قادرة علي الدفاع عن نفسها. أربعة أطراف فقط. رحبوا بالانسحاب الأمريكي: النظام السوري روسياإيران.. وتركيا التي كانت الطرف الوحيد الذي أبلغه "ترامب" مسبقاً بقراره. ونسَّق معه. وكتب في إحدي تغريداته أنه "ترك سوريا لتركيا". والأطراف الأربعة هم من يمثلون القوة الأخري المواجهة للتحالف الدولي الذي تقوده الولاياتالمتحدة. والتنسيق بينهم قائم ومستمر. والحق أنه لا يوجد في قرار "ترامب" سحب قواته من سوريا. وأيضاً من أفغانستان ما يثير الدهشة. لأنه ليس أكثر من حلقة في سياق سلسلة قرارات لا تحمل في الواقع أي مفاجأة. لا فيما يتعلق بشخصية الرئيس الأمريكي. ولا فيما يتعلق ببرنامجه الانتخابي ووعوده للأمريكيين.. المفاجأة فقط عند من لم يصدقوا أن ترامب سيفعل ما يقول. وسيقول ما يفعل. فمنذ بداية حملته الانتخابية عام 2016 وإعلانه شعار "أمريكا أولاً". والرجل يعلن في كل مناسبة. أن مصلحة بلاده عنده تتقدم علي أي شيء آخر. وأنه في حالة تعارض هذه المصلحة مع مصالح أي حلفاء فالأولوية لأمريكا أياً كانت النتائج. والرجل لا يتوقف عن الإعلان عن أنه سيسحب الجنود الأمريكيين من أي مكان لا يكون استمرار وجودهم فيه ضروريًا أو يحقق فائدة لأمريكا. سواء كانوا في سوريا أو أفغانستان أو اليابان أو كوريا الجنوبية. والرجل يؤكد في كل مناسبة أنه لن يقدم "حماية مجانية" لأي طرف. حليف أو غير حليف.. وأن من يُرِد الحماية فعليه أن يدفع تكلفتها. والرجل يأخذ قراراته "من دماغه". ووفقاً لحسابات المكسب والخسارة لأمريكا. وليس من أدمغة الآخرين. ولم يسبق له خلال السنتين اللتين قضاهما حتي الآن في البيت الأبيض أن فعل غير ذلك أو حاد عنه حتي نفاجأ به. وقد وجد الرجل أن قراراته. مهما كانت صادمة للآخرين. فإن هؤلاء الآخرين ما يلبثون بعد زوال تأثير الصدمة أن يأتوا إليه. ويجلسوا إلي مائدته. ويطلبوا التفاوض. مما يجعله أكثر يقيناً بقوة بلاده. وبأنها تستحق بالفعل أن تكون دائماً أولاً. وربما تكون هناك ملاحظات. مع. أو ضد قرار الانسحاب من سورياوأفغانستان وأي مكان آخر.. مثلاً. الرئيس ترامب برر قراره بأن أمريكا هزمت "داعش" في سوريا. وبالتالي لم تعد هناك ضرورة للبقاء هناك. والحق أن "داعش" انهزمت بالفعل. لكن لم يتم القضاء عليها. لا في سوريا. ولا في أي مكان آخر. وبالتالي فاحتمال عودتها قائم. حين لا يكون هناك مَن يملأ الفراغ. وعلينا أن نتذكر من تجربتنا المصرية أن "داعش" خرجت من عباءة "الإخوان". الذين تعرضوا علي مدي تسعين عامًا "2018/1928" لضربات قاصمة. وهزائم منكرة. دون أن ينتهوا من الوجود. مثلاً. ليس بالوجود العسكري المباشر يتحقق الدور أو النفوذ لأي دولة في أي مكان خارجها.. هناك الكثير من الأدوات الأخري التي قد تكون في بعض المراحل أمضي وأكثر تأثيرًا. تبقي بعد ذلك أسئلة تحتاج إجابات: ما هو مصير التحالف الدولي ضد "داعش" في سوريا. ولمن تؤول قيادته بعد إتمام الانسحاب الأمريكي؟!!.. وهل يؤدي هذا الانسحاب إلي سلسلة انسحابات جوهرية أخري من دول كبري؟!!.. وما هو تأثير الانسحاب علي إيران.. هل سيُقَوِّيها إن كان الوجود قد ساهم في تحجيمها؟!!.. وهل ستصبح إسرائيل أكثر عُدوانية؟!!.. وهل سينفرد مثلث روسياوإيران وتركيا بالكعكة السورية؟!!.. وأين الموقف العربي من ذلك كله؟!!