قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "ما من أيام عند الله أفضل من عشر ذي الحجة. فقال رجل: هن أفضل من عدتهن جهاداً في سبيل الله؟ قال: هن أفضل من عدتهن جهاداً في سبيل الله. وما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة. ينزل الله تعالي إلي السماء الدنيا. فيباهي بأهل الأرض أهل السماء. فيقول: انظروا عبادي جاءوني شعثاً غبرًا ضاحين. جاءوا من كل فج عميق يرجون رحمتي ولم يروا عذابي. فلم يُرَ يوم أكثر عتيقاً من النار من يوم عرفة". وقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة. وإنه ليدنو ثم يباهي الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء". وقال عبدالرحمن بن يعمر: "شهدت رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة. وأتاه ناس من أهل نجد فقالوا: يا رسول الله كيف الحج؟ فقال عرفة. فمن جاء قبل صلاة من ليلة جمع. فقد تم حجه". وقيل: إنها سميت بعرفة لأن آدم وحواء تعارفا بها أي حين هبطا من الجنة ونزل هو بالهند ونزلت هي بجدة. ثم تاها أمداً ولم يلتقيا إلا بعرفة. وقيل أيضاً: إن جبريل عليه السلام لما عرف إبراهيم مناسك الحج قال له: أعرفت فقال: نعم. فسميت عرفات. وقيل: إنما سميت بذلك من قولهم عرفت المكان أي طيبته. ومنه قوله تعالي: "ويدخلهم الجنة عرفها لهم". أي طيبها لهم. وقيل: إن هذه التسمية هي الرابط بين اليوم التاسع وما قبله وما بعده. فعندما ذكر إبراهيم عليه السلام بنذره في المنام أن يذبح ولده وفاز به كان ذلك في اليوم الثامن. وظل عليه السلام يقلب الأمر بين عقله وقلبه. هل هذا حلم من الشيطان أم رؤيا من الرحمن؟ فسمي اليوم يوم "التروية". ولما تجلت له حقيقة الأمر وعرف أن هذا أمر من الله سبحانه. كان ذلك في اليوم التاسع. فسمي يوم "عرفة". ولما تداول أمر الذبح مع ابنه. وأسلما لله في أمرهما. وتوجها للنحر والوفاء بالنذر. كان ذلك في اليوم العاشر. فسمي يوم النحر. وسواء صحت أحد هذه الأقوال أم صح غيرها. فقد عرفته القلوب المؤمنة. واستشعرته بوجدانها فطفقت إليه ملبية. فعرفة ذلك الموقف العظيم الذي تجتمع فيه الخلائق طائعين مذعنين. وقد لفهم البياض. وتكشفت الوجوه وتعلقت بالسماء. فطمست رتب الدنيا. ومحقت آثار الشرك والخيلاء والتفافر بالأنساب والآباء. عرفة موئل العباد الأطهار الذين أقبلوا من كل فج ومكان ليعلنوا ولاءهم لله عز وجل. وليتسلم كل مقبول هوية جديدة تنبيء عن ميلاده. فيها اسمه الجديد عبدالله الذي يباهي الله به الملائكة. "عرفة" مملكة بلا سلطان إلا وجدان ربي بالإيمان. تعاليمها القرآن. قوتها صلاة. وحصادها رحمات وحسنات وعقران. تتعارف القلوب فيها قبل الشخوص والأبدان. تنهمر الدمعات الندية ندماً ووجلاً وخشوعاً ترجو التوبة من الله والمغفرة. "عرفة".. دعوة الله لعباد جاءوا شعثاً غبرًا يهتفون بالتلبية "لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك". من منا لا يشعر بعزة الإسلام حين يري وفود الله تهتف بكل لسان. من منا لا ينفطر قلبه شوقا كلما تذكر هذه المعزوفة الأثيرية علي لسان عجوز تتوكأ علي عصاها جاءت من أقصي الأرض يكاد الحرف لا يستبين علي شفتيها. من منا لم يذق حلاوة اللقاء والتعارف حيث نقتسم شربة الماء. ونشترك في الدعاء والرجاء. الرجل أخ وزوج وأب وابن. والمرأة أخت وزوجة وأم وابنة. كل منا يحنو علي أخيه المسلم إن ألمه مكروه أو شدة لوجه الله وابتغاء مرضاته. إنه ليس كأسفار الدنيا نهنأ في عرفة تنصهر القلوب والأرواح في بوتقة الإيمان. فنتأسف علي أحوال اخواننا المسلمين الذين أهدرت دماؤهم فوق تراب الأرض. ندعو الله. ونصلي علي أرواح الشهداء نزرع أرض عرفة بأنات التسبيح والرجاء كل يستيقظ مليار ونصف المليار من المسلمين.