حينما يسمح البنك المركزي للبنوك العاملة في مصر برفع أسعار الفائدة علي الدولار لتصل إلي 4.5% كما نري في الاعلانات التي تروجها العديد من البنوك لشهاداتها الدولارية. وحين يتجاهل البنك المركزي ما أصاب العملة الوطنية من انخفاضات متوالية في سعر صرفها أمام العملات الأجنبية وخاصة الدولار الأمريكي فمن المؤكد أننا أمام موقف غامض في السياسة النقدية التي ينتهجها "أبو البنوك". لست ممن يتبنون نظرية المؤامرة في تفسير الأحداث. ولكن المؤكد أن ما يحدث حاليا يتناقض مع ألف باء قواعد السياسة النقدية السليمة التي تتبعها أي دولة في العالم تواجه عملتها شبح الانهيار أمام العملات الأجنبية. إذ أن سعر الفائدة يعد أحد الأسلحة الفعالة التي يمتلكها القطاع المصرفي لمنح الجاذبية لعملته في مواجهة العملات الأجنبية. وقد سبق أن لجأت الدولة إلي هذا الإجراء حين أرادت أن يخرج المصريون ما لديهم من "تحت البلاطة" لتمويل مشروع قناة السويس الجديدة. وطرحت الشهادات بسعر فائدة مميز نسبيا وهو 12% فتمكن القطاع المصرفي من تغطية الاكتتاب المطلوب في المشروع القومي الجديد خلال 8 أيام عملاً فقط. وحققت - بالاضافة إلي توفير التمويل المطلوب - نتيجة إضافية تمثلت في تراجع سعر الدولار ليسجل 7.15 جنيه للشراء. و7.18 جنيه للبيع. وكان بمقدور القطاع المصرفي أن يواصل "ملحمة" كبح جماح أسعار الدولار لو استثمر الفرصة وقرر منح سعر فائدة مميز نسبيا علي الايداعات الموجودة لديه بالجنيه المصري. أعتقد أنه كان بمقدوره أن يعيد الدولار إلي حاجز الستة جنيهات وربما أقل. إن ما تفعله لجنة السياسات النقدية بالبنك المركزي في كل اجتماع تعقده حين تقرر تثبيت سعر الفائدة علي الجنيه هو أمر يسير عكس المنطق المتوقع في دولة مثل مصر. يعاني أهلها من الارتفاعات الجنونية وغير المبررة في أسعار كل شيء. حتي حزمة الفجل والجرجير والبقدونس تأثرت بارتفاع سعر الدولار. ومن المفارقات المؤلمة أن الأسعار الحالية علي الجنيه لا تبتعد كثيرا عن أسعارها علي الدولار. إذ أن البنوك التي تتباري في طرحپ أوعية ادخارية بسعر وصل إلي 4.5% علي الدولار تمنح فائدة تتراوح ما بين 5.5% و6% علي الجنيه المصري. وهذا الهامش ضئيل جدا إذا وضعنا في الاعتبار أن العملة المحلية فقدت أكثر من 35% من قيمتها خلال العام ونصف العام الماضي أمام العملات الأجنبية. أي أن الدولار وما شابه من العملات تحول إلي مستودع قيمة يدخره المواطنون وهم يتمتعون حاليا بكلا الحسنيين: * الأول: سعر الفائدة المرتفع والذي يستحيل أن تجد دولة في العالم تقدم رقم ال 4.5% علي الايداعات الموجودة بقطاعها المصرفي بالدولار. * والثاني: احتفاظ الدولار بقيمته الشرائية بل ارتفاعه أمام العملة الوطنية بهذه الطريقة المستفزة التي نراها في مصر. وهو ما يعني أن من يدخر في الدولار يضمن الحفاظ علي أمواله من الانكماش الذي تعرض له مودعو الجنيه. وبعيدا عن هذا الكلام الاقتصادي الجاف. دعونا نتحدث عن بعد اجتماعي وانساني مهم جدا لا يجب أن تغفله البنوك. وهو أن قطاعا كبيراً من المودعين لديها ممن يمكن أن نطلق عليهم "القطاع العائلي" يعتمد علي فوائد البنوك التي يتقاضاها كوسيلة لمساعدته علي تدبير شئون حياته. ماذا يفعل إنسان أمضي أكثر من اربعين عاما من حياته في الوظيفة ثم خرج إلي المعاش وفوجئ بأنه يتقاضي واحداً علي ستة وربما واحداً علي عشرة مما كان يتقاضاه وقت الخدمة؟ المؤكد أن شخصا مثل هذا لن يجد أمامه سوي ما ادخره طيلة حياته ليعيش علي فوائده كوسيلة لسد الفجوة بين ما كان يتقاضاه وبين ما يحصل عليه في مرحلة ازدادت فيها أعباؤه واحتياجاته العائلية وربما الصحية. وهل المطلوب من ضابط بالجيش أو الشرطة أو صحفي أو محام أن يترك مهنته ليتفرغ لتجارة أو صناعة لا يعلم عنها شيئا فيفقد ما ادخره في طرفة عين؟ ماذا يريد البنك المركزي؟ وهل تدفع البنوك المصريين دفعا ليسحبوا مدخراتهم منها ليقذفوا بها في أيدي النصابين و"المستريحين" وما أكثرهم؟