* ما يجري علي أرض مصر هذه الأيام يتجاوز مستقبل النخب السياسية الموجودة حاكمة أو معارضة.. إنه يتناول مصير البلاد أثناء أحداث 30يونيو وما بعدها.. لقد رأينا الأزمة تكبر شيئا فشيئا ككرة ثلج تدحرجت من أعلي جبل إلي سفح القاع.. بالأمس كانت الأمور تجري في إطار تجاذبات بين من في الحكم ومن يمارسون دور المعارضة ولم تكن مطالبات الأخيرة تتجاوز تعديل بعض مواد الدستور واستبدال حكومة قنديل بأخري محايدة لإدارة الانتخابات المزمعة لمجلس النواب.. لكن اليوم خرجت الأمور من نطاق المعارضة والحكم معاً.. وعادت للشارع من جديد. ولا يمكن لأحد أن يتوقع ما سوف يحدث فيه أو منه. * لقد انزلقت بلادنا لمعركة كبري تجاوزت حدود الاختلاف السياسي المقبول إلي الخلاف والتشرذم وحدود الأدوار.. وأخطر ما في هذه المعركة للأسف هو شعور المنخرطين فيها بصعوبة قبول التنازل أو الخسارة رغم أن أيًا منهم لا يملك السيطرة علي حركة الشارع ولا حتي التنبؤ باتجاه ومقدار هذه الحركة أو مداها. * ما يجري علي أرض مصر اليوم وما يتفاعل تحت السطح يتجاوز مستقبل النظام الحاكم والمعارضة معاً. إنه يتناول حجم أدوار إقليمية ودولية وتوازنات تنذر بمخاطر لا يعلم مداها إلا الله.. وهو ما يفسر لنا جانبا من حديث الفريق أول عبدالفتاح السيسي الذي جاء بمثابة نداء الفرصة الأخيرة للجميع..!! * ما يحدث بمصر اليوم هو الأخطر من كل ما مضي.. فنحن إزاء أزمة معقدة أسهم في نسجها أطراف عديدة.. فأهل الحكم ومن يدور في فلكهم لم يحققوا وعودا قطعوها علي أنفسهم تخص آلام وآمال المواطنين البسطاء واحتياجاتهم اليومية.. ولا استجابوا لنداءات المعارضة والقوي السياسية.. ولم تسلم المعارضة هي الأخري من النقد والاتهام بأنها لا تملك البدائل. وأنها تسير بالبلاد نحو المجهول دون جماهيرية حقيقية أو برامج واضحة علي الأرض.. وظل الحبل مشدوداً بين طرفي المعادلة حتي وقع الانقسام والاستقطاب والتناحر حتي ظهر الطريق الثالث الذي اختطه شباب ليس لهم لون سياسي محدد ولا انتماء أيديولوجي محدد أو ميل لهذا الفصيل أو ذاك. لقد قامت حركة تمرد التي ولدت بين الجماهير وتحركت من خلالها دون أن تتحدث - كما يدعي البعض - باسمها برسم معالم الطريق الثالث بالدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة.. وبين هؤلاء وأولئك يري البعض أن الجيش هو الحل ما دامت القوي السياسية - سلطة ومعارضة - عاجزة عن تسيير أحوال البلاد وحل مشاكلها وتحقيق طموحاتها وآمالها ومبتغاها.. * لنترك جانبا ضراوة المشاهد اليومية والاستخدام المفرط للغة التهديد والوعيد والتكفير والإقصاء والممارسات الفظة التي تفوح منها رائحة عنف. تنذر باحتراب أهلي. ندعو الله أن يجنب مصر وأهلها شروره وآثامه.. لنترك هذا جانبا ولننظر في وجوه الشعب المصري لنسأل هل هذا هو الشعب الذي أقام الدنيا ولم يقعدها في ثورة يناير.. هل كانت تلك هي حالته النفسية يوم تنحي الرئيس السابق.. هل انتابه أثناء الثورة وفي عز جبروت مبارك ونظامه مثل هذا الخوف أو فقدان الثقة بالنخبة أو الرعب من المستقبل كما ينتابه اليوم.. هل كانت الأطراف المؤثرة والفاعلة سياسياً علي مستوي حدث عظيم كثورة يناير وأحلام عريضة كأحلام الشعب.المصري في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية.. أم أن النخبة هذه هي المسئولة عما آل إليه حال البلاد والعباد..؟! * لقد أتاحت ثورة يناير فرصة عظيمة للتحرر والشفاء من أمراض التخلف والاستبداد والفقر التي سادت عهودا طويلة.. فإذا بنا إزاء أمراض أشد فتكًا وضراوة وزاد عليها الانقسام وتفكك الجبهة الداخلية وشيوع الإحباط والخوف من المجهول.. وهو ما لم يعانه الشعب المصري علي مدي تاريخه الطويل..!! * ولأن المحن تلد المنح.. فقد عاد شباب الثورة ليقدموا المبادرة والحل لعلاج الاحتقان والفراغ السياسي قبل أن تقع الكارثة.. بالدعوة إلي انتخابات رئاسية مبكرة. دعت إليها حركة ¢تمرد¢ الشعبية. من حق ¢تمرد¢ وغيرها أن تنظم ما شاءت من مظاهرات لتعبر عن مطالب سياسية أيا كان مضمونها. مادامت تلتزم السلمية في أفكارها وأهدافها وحركتها علي الأرض. ومن حق الدولة وأجهزتها أن تطبق القانون بحياد دون أن تلبسه رداء السياسة. وأن تتحذ ما يلزم من إجراءات احترافية لمنع العنف أو الخروج علي القانون أو الديمقراطية التي ارتضيناها طريقا للحكم والمعارضة علي السواء بعد الثورة. في كل بلاد الدنيا نشهد مظاهرات واحتجاجات علي الحاكم لكننا أبداً لم نجد مظاهرات لتأييد هذا الحاكم أو تخويف معارضيه ورغم أن ذلك خروج علي أعراف الديمقراطية المعروفة عالمياً فإنه لا يعد خروجا علي القانون. ويبقي مقبولاً ما لم يحد عن قواعد اللعبة الديمقراطية.. أما أن يلجأ المؤيدون وأشياعهم إلي التحريض علي العنف أو تهديد الخارجين في مظاهرات 30يونيو بالسحل ورميهم بالكفر والخروج من الملة والتطاول علي رموز الدولة وأعمدتها الرئيسية كالأزهر والكنيسة والقضاء والإعلام والشرطة.. فهذا ما يزيد النار اشتعالاً. وتلك سقطة تتناقض تماما مع ما دعت إليه مليونية كان عنوانها ¢لا للعنف¢.. فكيف تدعو المعارضين لالتزام السلمية ثم تهددهم بالعنف.. ومن يتحمل مسئولية الدماء إذا أريقت في 30يونيو.. ومن يتحمل مسئولية الحفاظ علي أمن وسلامة الوطن والمواطنين دون تمييز بين أهل الحكم و المعارضة..؟! * لقد جاء نداء الفرصة الأخيرة من الفريق أول عبدالفتاح السيسي بمثابة جرس إنذار وطوق نجاة للجميع. جاء بدافع شعوره بالمسئولية الأخلاقية للجيش تجاه وطنه وبني وطنه فليس من المروءة أن يصمت الضباط أو ضباط الصف إزاء شعور المصريين بالخوف والترويع في ظل وجود جيشهم. * لقد أكد السيسي أن القوات المسلحة لن تصمت علي أي إساءة توجه لها.. وهي رسائل واضحة بأن الفرصة لا تزال سانحة أمام الجميع.. أهل الحكم قبل المعارضة. * لقد كان أمل كبير يحدوني أن يفاجئنا الرئيس مرسي بمبادرات لم الشمل ودرء المفاسد والأخطار عن الوطن في وقتها قبل أن تصبح المهمة مستحيلة. فالاستجابة للشعب ومطالبه ليست تنازلات بل استحقاقات واجبة ولازمة في أي نظام حكم ديمقراطي. * وإذا كان حكم مستأنف الإسماعيلية قد برأ الشرطة من تهمة فتح السجون والمعتقلات وهروب من فيها وإحداث انفلات أمني مروع هدد البلاد بالفوضي.... فهذا أدعي لالتفاف الشعب حولها ودعمها بكل السبل. وحسناً ما فعله نادي ضباط الشرطة عندما قرر الوقوف علي الحياد وعدم الانحياز لأي تيار سياسي علي حساب الآخر. والاكتفاء بتأمين المظاهرات السلمية التي ستخرج 30يونيه الجاري دون رفع أي عصا أو سلاح في وجوه المتظاهرين. والتصدي بالقانون لأي محاولات لاقتحام منشآت أو تعدي علي المواطنين السلميين.. فتلك ولا شك خطوة عملية لإعادة ثقة الشعب في شرطته ولو نجحت الشرطة في ذلك لأحدثت قطيعة مطلوبة مع ماضي مؤلم لممارسات شرطية تعسفية كانت سببا رئيسيا في قيام ثورة يناير. وخصوصا ما فعله أمن الدولة بالمعارضين والتدخل في شئون الأحزاب والجامعات والتعيينات وغيرها وانتهاج القمع والتعسف في حق المواطنين. وإهدار دولة القانون لحساب نظام مستبد باطش. وهو ما دفع ثمنه للأسف رجال الشرطة جميعاً. * لا شك أن الأمن مطلب شعبي وحياتي لا غني عنه لأي مجتمع ولأي عمران فلا تنمية ولا تقدم ولا اقتصاد في غياب الأمن.. ولن تقوم للدولة هيبة إلا بعودة شرطتها جهازا وطنيا محترفاً يستهدف تحقيق الأمن العام وحماية المواطن وتأمين المجتمع والممتلكات ضد الخارجين علي القانون.. وأظن أن إعلان نادي ضباط الشرطة انحيازه للشعب ومواصلة جهوده لتصفية جميع بؤر الإرهاب في سيناء وغيرها هو خطوة في هذا الطريق لنسج علاقة جديدة مع الشعب صاحب السيادة ومصدر السلطات.