إذا كان من الوارد قبول الخلافات السياسية حول قضايا وطنية أساسية. تتعدد وتختلف بشأنها وجهات النظر. واعتبار هذا من طبائع الأمور وسُنن الحياة. إلا أن هناك قضايا فرعية ولا أقول ثانوية تثار. ويدور حولها خلاف يطول ويمتد. مع أنه يمكن حسمها في وقت قصير. مما يوفر جهوداً كثيرة. ويتيح لنا التركيز علي قضايا أكثر أهمية. فهل أصبح كل شيء وأي شيء في هذا الوطن عرضة للخلاف والصراع وتبديد الوقت والجهد. مما يؤدي إلي ضياع فرص ووقت يجب ألا يضيعا؟!!.. ولعل أكبر وأوضح نموذج لذلك هو الخلاف المثار بين "جامعة النيل" و"مدينة زويل للعلم والتكنولوجيا".. كم كان المرء يتمني لو أن جميع من شاركوا في هذه القضية لم ينخرطوا في هذا الخلاف. الذي وصل إلي القضاء. وصدر فيه حكم واجب النفاذ. لقد قرأت كل ما وقع تحت يدي من مقالات وكتابات صحفية حول هذا الخلاف الذي امتد أكثر مما يجب. ويكاد يؤدي إلي ضياع سنة دراسية علي طلبة جامعة النيل الذين يعتصم بعضهم. والذين عقدوا مع أعضاء بهيئة التدريس وبعض أولياء الأمور مؤتمراً في نقابة الصحفيين يوم الأحد الماضي. فاتني حضوره. لعلي كنت خرجت منه بما يزيدني معرفة بالمستجدات في هذا الخلاف الذي يبدو علي أي حال أنه ليس خلافاً عبثياً. بدليل أنه في كل طرف من طرفي الخلاف شخصيات وقامات علمية كبيرة لها احترامها. وتقديرها.. كان المرء يربأ بكل منهم. وينتظر منهم جميعاً العمل والسعي لتسوية الأمر بطريقة علمية وودية.. تراعي المصلحة الوطنية والعلمية أولاً وقبل أي اعتبار. يبدو أن موقفي هذا غير موضوعي. ولا ينظر للأمر نظرة علمية دقيقة. علي الأقل هذا ما خرجت به من ورقة بحثية في الموضوع. أعدها الأستاذ الدكتور أشرف بيومي أستاذ الكيمياء الفيزيائية بجامعة الإسكندرية وجامعة ولاية ميتشجان "الأمريكية" سابقاً. وهو إلي جانب هذا شخصية سياسية معروفة وصاحب نشاط ومواقف سياسية محددة من أرضية وطنية وقومية. وعنوان الورقة التي ستصدر في كتيب هو: "العلم كأداة للهيمنة الأجنبية.. مشروع زويل نموذجاً".. وهو من 22 صفحة جديرة بالقراءة بإمعان وتدقيق. ليس من أجل الاقتناع بها أو الاتفاق مع كاتبها في كل كلمة خطها. أو كل رأي طرحه. بل من أجل الفهم والمناقشة. والدفاع عما يستحق الدفاع عنه. قاعدة علمية مصرية أولاً بداية.. يحدد الدكتور أشرف بيومي موضوعه بوضعه في إطاره السياسي والاقتصادي الوطني. من وجهة نظر مواطن مهتم بقضايا البحث العلمي. ويكتب في مقوماته الضرورية علي مدي أكثر من أربعة عقود. وباحث علمي منذ حوالي ستة عقود. وشارك في مشروع مركز الأبحاث العلمية بجامعة الإسكندرية في السبعينيات.. ويؤكد أنه ليس طرفاً في النزاع القائم. ولكنه كمواطن طرف في مستقبل البحث العلمي المصري. وضرورة أن يكون أي مشروع مرتبطاً بمشروع تنمية جاد. وهو غير متوفر حتي الآن. وأن يكون غير تابع لأي طرف أجنبي. خصوصاً قوي الهيمنة العالمية. وبعد وضع القضية في إطارها العام هذا. يضيف الكاتب: لا شك أننا نتناول قضية في غاية الأهمية. تقع أهميتها في ارتباطها العضوي الوثيق والمتفاعل مع مشروع تنمية طموح. يحقق التقدم للوطن والرفاهية والمعيشة الكريمة للمواطنين. ولكنه غائب. لم يتبلور بعد. لا يمكن. بل من المستحيل أن يحقق أي مشروع في هذا المضمار أهدافه إلا إذا كان مستقلاً وغير تابع. أي لا يخضع لأهواء وأولويات دول أخري. والاستقلال هنا لا يعني مطلقاً عدم الاستفادة بخبرات أجنبية. ولكنه يعني أن هذا التفاعل لابد أن ينبثق من قاعدة مصرية. يقودها متخصصون في العديد من المجالات العلمية والتنموية في هذه الحالة فقط. يمكن أن تقوم هذه القاعدة العلمية المصرية بانتقاء ما هو ضروري من الخبرات التي تخدم أولويات المشروع. والتي أقرتها المؤسسات الفاعلة الوطنية بناء علي مقاييس علمية معلنة. أي أن التفاعل يتم بشروط مصرية صميمة. وليس من قبل مجموعة مختارة من قبل فرد بناءً علي مقاييس غامضة ويسودها أجانب. وبعض المصريين العاملين في الخارج. حتي لو كانوا عشرات من حاملي جوائز نوبل. تساؤلات مشروعة؟!! ويطرح الدكتور أشرف بيومي مجموعة أسئلة أساسية وهي أسئلة منطقية ومشروعة: هل تريد قوي الهيمنة الممثلة في الولاياتالمتحدةالأمريكية وحلفائها. بما في ذلك الكيان الصهيوني. أن تكون هناك نهضة حقيقية في دول العالم الثالث وفي مصر بالذات؟!.. هل تشجع هذه القوي نهضة علمية تقود وتغذي التنمية المستقلة؟!.. هل تخطط هذه القوي لإجهاض محاولات لإقامة قاعدة وطنية محلية نشيطة. أو أي برنامج تنموي طموح.. ولماذا؟!!.. هل يعقل أن تسير عملية النهضة المفترضة دون قيادة. ومساهمة حقيقية وواسعة من قبل العلميين المحليين. وتبقي القيادة لمستشار رسمي لرئيس الدولة. التي تتزعم وتقود قوي الهيمنة العلمية. أياً كان هذا الشخص. حتي لو كان من مواليد الوطن. وحاصلاً علي جائزة نوبل عن أبحاث قام بها خارج مصر؟!!.. مَن الذي يحدد أولويات البحث العلمي في مصر أو في أي بلد آخر؟!!.. هل يمكن أن يقوم بهذا فرد حتي إذا افترضنا عبقرية هذا الشخص في الأمور العلمية والتنموية والإدارية.. إلخ.؟!!.. ما الأولوية الحالية والحقيقية و"ليست الإعلامية" للبحث العلمي في مصر؟!!.. وفي ضوء إجابة هذه التساؤلات. يضع الدكتور أشرف بيومي "قواعد" إنشاء منظومة علمية وتكنولوجية وطنية. ثم يتناول العلم في سياقه الاجتماعي. مؤكداً استحالة تناول قضية العلم والتكنولوجيا بشكل واقعي دون توصيف البيئة الاجتماعية السياسية. إن الأولويات الاقتصادية تقع في القلب من فلسفة السلطة السياسية. وسلوكها نحو البحث العلمي. كما أنها تحدد بدرجة كبيرة. بل وفاصلة ما إذا كان العلم والتكنولوجيا قضايا تنموية محورية.. إن الولاياتالمتحدةالأمريكية هي أكبر منتج للعلم في العالم. وقد سمح لها ذلك بأن تنتزع امتيازات سياسية كبيرة. ولم يقتصر هذا علي دول العالم الثالث. بل شمل أيضاً دولاً صناعية. ولكن بدرجة أقل.. إن استخدام العلم في السياسات الخارجية قد أدي إلي ازدياد تحكم الشركات العملاقة ودول الهيمنة. وقد أدي هذا إلي تفاقم أحوال الدول النامية. بحيث أصبح العلم أداة إمبريالية. مبعوث "علمي" فوق العادة!! وفي الجزء الثالث والأخير من هذا البحث. يتناول الدكتور أشرف بيومي "مشروع مصر القومي" المسمي باسم "زويل" ويشير إلي قرار الرئيس الأمريكي أوباما في 2009 بتعيين الدكتور أحمد زويل في "المجلس الاستشاري للرئيس في العلوم والتكنولوجيا". ويعتبر هذا مسألة أمريكية تخص الدكتور زويل لانتمائه إلي المؤسسة العلمية الأمريكية. أما قرار الرئيس الأمريكي بتعيين زويل "مبعوثاً فوق العادة" من أجل دفع الشراكة العلمية والتكنولوجية بين الولاياتالمتحدة والعالم الإسلامي. فهو أمر يقع في صميم اهتمامنا كمصريين. وقد أشارت مجلة "الطبيعة" وهي مجلة علمية وفنية وشهيرة في يناير 2010 إلي أن هناك "مجموعة عمل" ستقدم توصيات بالنسبة لمجالات تعاون علمي بين مصر والولاياتالمتحدة. ويستخلص من هذا "أننا أمام مشروع أمريكي يحدد لنا نشاطات تعاون علمي. يحدد أولوياته مبعوث لدولة أجنبية".. هل سيكون هذا التعاون في صالح مصر؟!.. هل سيعمق تبعية الدولة والمؤسسات المصرية بحيث تشمل الجانب العلمي بالإضافة إلي الجوانب السياسية والاقتصادية؟!.. هل يتناقض مشروع زويل مع الأولويات المنشودة مصرياً.. أم أنه يحرفنا عنها؟!.. ولا يتردد الدكتور أشرف بيومي في وصف مشروع زويل بأنه "في خدمة عولمة التحكم في مصر". ويدلل علي هذا من خلال عرض أعضاء مجلس أمناء مدينة زويل وخلفياتهم. إلي جانب مجلس إدارة محلية. ويتساءل: مَن الذي اختارهم. وبأي معايير؟!!.. كما يتساءل ويجيب: "ما هي علاقة زويل بالعدو الصهيوني".. الذي منحه جائزة "وولف" في سنة 1993؟!!.. ويصل الحديث إلي بيت القصيد. وهو: لماذا التربص بجامعة النيل بالذات؟!!.. طبقاً لكلمات الدكتور أشرف بيومي!! ما العمل؟!! وجامعة النيل جامعة بحثية غير هادفة للربح. تأسست عام 2003. وموضوعات بحثها تنصب علي البحث عن حلول علمية لمشكلات نواجهها. ولتحقيق أهداف نريدها. وتعكس أولوياتها اهتمامات وطنية.. فلماذا يجري التربص بها؟!!.. القضية ليست مفاضلة بين مشروع زويل وجامعة النيل. بدعوي أن كلاً منهما مفيد.. القضية المحورية بكلمات الدكتور أشرف بيومي.. هي ما إذا كان مشروع زويل ضاراً بالمصلحة الوطنية. وما إذا كان يهدد المصالح القومية. ومن ثم لابد من مواجهته والتصدي له؟!!.. كيف نسمح لمؤسسة تشكلت بالطريقة التي تمت وبقيادة زويل المرتبطة بعلاقة رسمية مع الولاياتالمتحدةالأمريكية. ناهيك عن علاقاته بالكيان الصهيوني. بأن تقوم بتقييم مشروعاتنا القومية الاقتصادية؟!! هل تساؤلات د. بيومي فيها حدة أكثر مما يجب؟!!.. هنا لا حياء في العلم.. خاصة أن صاحب هذه الرؤية أستاذ له مكانته العلمية. عمل في جامعتين: مصرية وأمريكية.. ويعرف عن قرب طبيعة الحياة العلمية. وتكوين المجتمع العلمي الأمريكي. وله كتابات كثيرة في الموضوع الذي طرقه. يكفي أن الدكتور أحمد زويل بمكانته العلمية كان أحد تلاميذه في دفعة 1967. في كلية العلوم بجامعة الإسكندرية. ويقول عنه: "كان يعتبرني لفترة طويلة.. متبنيه العلمي.. كما كان يردد كثيراً. وهذا صحيح".. ولذلك فإن ما يقدمه الدكتور بيومي هنا يجب أن يؤخذ في الاعتبار. وتستحق رؤيته التي عرضت خطوطها العامة أن تكون موضع التقدير. والنقاش. والحوار.. لذلك فإنه يختتم رؤيته بسؤال: ما هو واجب العلميين المصريين؟!!.. ويري أن الواجب الأول هو معرفة الحقائق كاملة جيداً قبل تكوين رأي. والثاني هو معارضة مشروع زويل عندما تتولد قناعة بخطورته. والثالث هو محاسبة المسئولين قانونياً وإعلامياً علي قراراتهم غير المسئولة. حتي لا تتكرر المأساة. والرابع هو تشكيل هيئة مستقلة من العلميين تتناول مثل هذه القضايا وتضع ملامح لمشروع وطني لتقدم العلم. والضغط لتنفيذه.. والخامس هو تقييم ممنهج وعلمي لمشروعات قائمة.. أما واجب العلميين الملح الآن فهو إنقاذ جامعة النيل. واسترجاع حقوقها كاملة. .. ولم يبق لي إلا أن أقول: "يا علماء مصر اتحدوا".. واسلمي يا مصر.