في إطار احتفالها بالذكرى السنوية الأولى لوفاة العالم والطبيب والأديب الكبير مصطفى محمود، عرضت قناة الجزيرة الوثائقية، الجزء الأول من الفيلم الشيق عن حياة الراحل العظيم. بدأ الفيلم بمشهد عام لجنازة مصطفى محمود، على خلفية من موسيقى الناي الشهيرة التي حفظها مشاهدو برنامج "العلم والإيمان". وعبر مجموعة من الصور التي تنتمي لطفولته، وسني حياته الأولى في مدينة طنطا، ظهر العديد من زملاء الدكتور مصطفى محمود وتطرقوا لبدايته، والأسباب التي شكّلت وعيه، وصنعت منه مفكرًا كبيرًا. شهادات معاصريه حيث قدم لويس جريس شهادته، حول بدايات العالم الكبير، ومدى الجمود الفكري الذي كان يعيش فيه مجتمعه، ومحاولات المحيطين به كبت إبداعه، ومصادرة حريته الفكرية. وذكر طارق نجيدة محامي مصطفى محمود بعض المعلومات الأسرية التي تخص الدكتور، وقال إن زنوبة الحكيم، والدة مصطفى محمود تزوجت مرتين قبل أن تلتقي بوالده الذي كان قد تزوج هو الآخر مرتين، ليكون محمود هو الرباط القوي الذي ضم قلبيهما في إطار واحد. وتحدث التقرير عن مختار محمود، الأخ الأكبر للراحل الكبير، والحاجة زكية الأخت الكبرى التي كانت الصدر الحنون للأسرة بأكملها، والتي طالما لجأ إليها العالم الكبير لتحتوي أحزانه وتُعينه على مواجهة صعوبات الحياة. مواقف مؤثرة واستعرض الفيلم العديد من المواقف التي شكّلت حالة الحيرة الشديدة التي انتابت العالم الكبير في صغره، مثل الموقف الذي حدث من مدرس اللغة العربية الذي كان مصطفى محمود يتناقش معه في بعض الأمور الدينية عندما كان طالبا في المرحلة الابتدائية، فضربه المدرس، وأهانه، مما دفع بمحمود الصغير للمكوث في المنزل وعدم الذهاب للمدرسة مرة ثانية، حتى تم نقل المدرس من المدرسة بعد ثلاث سنوات، فعاد محمود لاستكمال دراسته! ومن المواقف الأخرى، أن أحد الشيوخ صنع له عدة أحجبة، لتقيه الشياطين والضلالات التي كانت في رأسه، ويقصد بها الأسئلة التي يريد إجابات شافية لها، وهو الموقف الذي أفقده احترامه وقناعته برجال الدين في ذلك الوقت، بل ودفعه لتكوين جماعة في المدرسة تحمل اسم "الكفار"، كان يرد من خلالها على مواعظ شيخ الجامع التي كان يرى فيها الكثير من الخرافات والمتاجرة بالدين! وتحدّث المفكر الإسلامي جمال البنا عن مراحل الشك التي مر بها مصطفى محمود، وقال إن أسئلته كانت منطقية، ولم يكن يحتاج لمن يهاجمه، وإنما لمن يحتويه، ويقدم له إجابات شافية لما يدور في ذهنه المتّقد من أسئلة حارقة! وذكر الفيلم سعي محمود الصغير لإنشاء معمل كيميائي في منزله، لتحضير المواد التي يقتل بها الصراصير، وهو الأمر الذي أدى للعديد من الانفجارات والحرائق، لكنه زاد من إصرار الصبي الصغير على المعرفة بشكل أو بآخر. عازف ناي وذكرت الدكتورة لوتس عبد الكريم -مؤلفة كتاب عن حياة مصطفى محمود- أن محمود بدأ حياته فنانا وعازفا على آلة السُلمية والناي، وكان يحرص على حضور الموالد والمناسبات الدينية، ويردد دائمًا أن أقرب الآلات للروح هي الناي لأنها تستطيع أن تُعبّر عن "الآه". وتطرّق الناقد الفني طارق الشناوي للحديث عن الفن لدى مصطفى محمود، وقال إن إحساسه بالإيقاع والنغم أثر على كتاباته فيما بعد وملأها بالموسيقى. دراسة الطب.. لفهم سر الحياة وذكر الفيلم قصة دخول مصطفى محمود كلية الطب، وتفضيله لها على كلية الحقوق التي كانت تُخرّج أهل الحكم، ويسعى الجميع للالتحاق بها أملا في نوال الجاه والنفوذ. لكن محمود دخل الطب، ليبحث عن إجابات، ويقف على أسرار الوجود والإنسان، وذات مرة بينما كان في حصة التشريح، نسي نفسه أمام إحدى الجثث، حيث كان يتأملها ويُدوّن ملاحظاته عليها، حتى أغلق الحارس الباب عليه، دون أن ينتبه لوجوده، فظل محمود يصرخ فترة طويلة، حتى جاء الحارس أخيرا وحرّره، لتظل هذه الحكاية تطارده طوال سني دراسته. وفي السنة الثالثة، تخصص مصطفى محمود في الأمراض الصدرية، وكان يحتفظ بجثة تحت سريره، اشتراها بنصف جنيه، ووضعها في الفورمالين حتى لا تتحلل، ليتدرب على فن التشريح الذي يعشقه، حتى أطلق عليه زملاؤه لقب "المشرحجي". وكان محمود يحتفظ إلى جوار فراشه بعود ورِقّ وناي، كان يعزف عليهم جميعا ويحرص على حضور بعض الأفراح في شارع محمد علي ليشارك بالعزف، بل إنه كان يذهب مع الكاتب الكبير أنيس منصور ليغني أنيس ويعزف محمود، وبعد ذلك يحصلان على العشاء، ثم يأخذ كل منهما ريالا كاملا. ومرة شاهده بعض زملائه في كلية الطب، وهو يعزف في أحد الأفراح فهللوا له، وأذاعوا الخبر في الكلية كلها، وكانت فضيحة! قصة الكتابة أدركت حرفة الأدب مصطفى محمود مبكرا، فكان يذهب إلى روزا اليوسف وهو طالب، ليعرض إنتاجه الأدبي، حتى يتحصل على مبلغ من المال يساعده على استكمال دراسته، وذات مرة قابله هناك الفنان التشكيلي حسن فؤاد، الذي أعجب بأسلوبه للغاية، وطلب منه أن ينشر في روزا، وبالفعل واظب على نشر قصة قصيرة كل أسبوع، كان يأخذ على كل واحدة منها 3 جنيه. وعندما كتب سلسلة من المقالات تحدث فيها عن الفن والغناء والأصوات، نالت إعجاب عبد الوهاب، الذي رأي فيه نجما يوشك أن يسطع، فتحدث إليه، وطلب منه أن يعيش معه، وكأنه يريد أن يكرر قصته مع أمير الشعراء أحمد شوقي، وأفرد له غرفة في منزله. زواج مصطفى محمود أما عن قصة زواجه للمرة الأولى، فبينما كان مصطفى محمود محررا لباب "اعترفوا لي" في روزا اليوسف، الذي كان يرد فيه على مشاكل القراء، ويقدم خبرته ونصائحه الغالية للشباب، تعرف إلى زوجته الأولى، ملكة جمال مصر في ذلك الوقت، وأنجب منها ابنته أمل وابنه أدهم. صدامه مع عبد الناصر ولم يكن مصطفى محمود يحب عبد الناصر، أو يرى فيه شيئا جديدا، لكن المشكلة أنه كان يجاهر بهذا الرأي دائما، دون أن يهتم بتزويقه، أو يخشى أن يتعرض للمتاعب بسببه! وفي إحدى السنين، أصدر عبد الناصر قرارًا بعدم الجمع بين وظيفتين، فاعتزل مصطفى محمود الطب، وفضل أن يكون كاتبا، واتجه اتجاها مختلفا، فاعتذر عن كتابة باب "اعترفوا لي"، واستمر في كتابة باب آخر اسمه "يوميات نص الليل". وكان يجنح في كتابته خلال هذه الفترة للاتجاه الصوفي الزاهد، مستخدما لوحا خشبيا يضعه على رجله وهو على السرير، ليكتب عليه كل أفكاره، مؤكدا أنه لا يملك طقوسا خاصة أو ملابس معينة تُعينه على الكتابة، كما كان يفعل بعض المبدعين. وحتى يستمر في تغذية قلمه وعقله، كان يحرص على القيام بالعديد من الرحلات للأماكن التي يرغب في الكتابة عنها، فزار الغابات، وزار الصحراء، وكتب عن كليهما. وذكر د.مازن النجار المفكر الفلسطيني أن الخلاف بين عبد الناصر ومصطفى محمود نبع من جرأة الأخير، وضيق الأول بالنقد، حيث كان محمود يصر على أن أخطاء عبد الناصر أكبر من حسناته، بل ويردد أنه لم يُقدم فكرا يذكر وإنما ترجم بعض الأفكار الغربية! وفي مرة كتب محمود مقارنة بين النازية والناصرية، فوسوس بعض المقربين لناصر أن يتخذ إجراء ضد محمود، وهو ما حدث بالفعل، حيث أصدر قرارا بمنع محمود من الكتابة، مع استمرار صرف راتبه. واستغل محمود هذه الفترة، وكتب العديد من روائعه مثل "الزلزال" و"شلة الأنس" و"العنكبوت"، وصرح أكثر من مرة قائلا: "يا ريت يسيبونا متفرغين كده شوية كمان". وعندما كتب مصطفى محمود رواية "المستحيل" انبهر بها المخرج الراحل حسين كمال، فحوّلها لفيلم من بطولة نادية لطفي وكمال الشناوي وصلاح منصور، نجح نجاحًا باهرا، وتم عرضه في جميع البلاد العربية. الله والإنسان كان مصطفى محمود يشعر بالحيرة تجاه العديد من القضايا، مثل قضية العلم، وهل هو كاف بالفعل للإنسان، أم أنه سيظل في حاجة إلى أشياء أخرى مثل الغيب ليُكمل له الصورة، ويمنحه إجابات شافية عن كل ما يدور برأسه من أسئلة، ولكنه لم يكن يسعى لإحداث جدل أو بلبلة، ولكن فقط الوصول للحقيقة المفضية لمعرفة الله حق المعرفة. وعندما أصدر مصطفى محمود كتابه "الله والإنسان" أثار ضجة هائلة لجرأته، واحتوائه على العديد من المشاكل والأسئلة الشائكة، وثار ت مؤسسة الأزهر ضده، وطالبت عبد الناصر بمصادرته، بل وسجن مصطفى محمود، ولكن عبد الناصر اكتفى بمصادرة الكتاب، ليكون الكتاب الوحيد الذي صادره عبد الناصر طوال فترة حكمه. وكتب الشاعر الكبير كامل الشناوي عن هذا الكتاب قائلا: "مصطفى محمود في هذا الكتاب.. يلحد على سجادة صلاة!" وانتهى الجزء الأول من الفيلم الوثائق المهم، على أن تتم إعادته يوم الأربعاء المقبل، في حين يتم عرض الجزء الثاني يوم الجمعة المقبلة.