الأحزاب كانت فيما مضى تماثيل منصوبة، وخُشبا مُسندة، وطبولا مخروقة، وصورا باهتة، وظلالا شاردة، وزعماؤها قططا أليفة، ومخلوقات مُدجنة، وظهورا وطيئة، ومراكب مُسرَجة، وببغاوات ملقنة، تأليف وتلحين السلطات، وصناعات واختراعات الأنظمة، وتربية وتعليما للسادة، ورعاية وعناية لأولى الأمر، لا تشتغل بالسياسة، وإنما تشتغل بالقيافة والعيافة والهيافة، ولا تشغل نفسها بتدبير الأمور، وإنما تشغل نفسها بإطلاق البخور، وقياس الأتور، لا تُستشار فى صغير أو كبير، ولا يُسمع لها فى جليل أو حقير. ويُقضى الأمر حين تغيب تَيْمٌ ولا يستأمرون وهم شهود لا تحظى بتداول السلطة، ولا بالوصول إلى سدة الحكم، وإنما ترضى أن تكون وصيفات أو غلمانا للسادة، لا تستطيع أن تنكر منكرا، أو تعترض على فساد، أو تمنع جريمة، أو تدافع عن مظلوم، لأنها لا تسمع ولا تنطق ولا ترى، لا تقدر على أن تطالب بإصلاح، أو ترسم طريق فلاح، أو تقترح خطة رشاد، لأنها غير مؤهلة لذلك، ولا مدربة عليه، ولا وُجِدَت لأجله، ولهذا نعمت حياتنا السياسية بالفشل، وسعدت بالتأخر، وهنئت بالثورات الباطلة والانقلابات البائرة وحكم العسكر، وفازت بالعنف والضرب فى المليان. نعم، لقد غابت شعوب العالم الثالث أو غُيِّبت، فصُنعت لها أحزاب باسمها، وهيئات بتوقيعها، وحكومات تتكلم بلسانها، وترى بعيونها، وبرلمانات ومجالس تتحدث بأمرها وتنطق بإرادتها، وتعرف مصالحها، وتكتم أنفاسها، والحقيقة أن أسوأ نوع من أنواع الاستبداد هو الذى يأتى عن طريق مظاهر تمثيلية أو نيابية، أو ديكورات حزبية، لأنه يكون نظاما مشوها معسولا لقيطا يستبد بالشعب باسم الشعب، ويقتل الأمة باسم الأمة، ويحطمها ويحجب المبدعين، ويطلق السفلة والغوغاء وقطاع الطرق فيتكون منهم رأس نظام، ويتألف منهم عقل أمة: أى دهر نحن فيه مات فيه الكبراء هذه السفلة والغوغاء فينا أمناء ما لنا شىء من الأشياء إلا ما تشاء ضجت الأرض وقد ضجت إلى الله السماء رفع الدين وقد هانت على الباغى الدماء يجب أن تترك الشعوب لتكوِّن هى الأحزاب، لتدافع عن حقوقها، وتحمل توجهاتها، وتحافظ على مصالحها، يجب أن يفسح المجال للشعوب لتتحمل تبعات اختيارها، وتحاسب ممثليها، وتناقشهم وتسقطهم إن أرادت، وتعاقبهم إن رأت ذلك. إن إماتة دور الشعوب أصابها بالإحباط، ووصمها بالسلبية، وحكم عليها باللامبالاة، وحطم فيها الإرادة، وسلبها الهوية والتميُّز، لقد ألفت حكومات كثيرة أحزابا مصنوعة حسب إرادتها وشهواتها وخبلها، وسمَّتها أسماء ما أنزل الله بها من سلطان، وصنعت لها برامج، ودبجت لها أهدافا عديدة، أحزابا سميت باشتراكية، وقومية، وشيوعية، وتحريرية، وتقدمية.. إلخ. وذهبت كأمس الدابر مخلّفة وراءها الجراح والخراب والتأخر، لأنها من بنات الأهواء والشطحات، ولا تمُتُّ إلى الأمة بصلة أو نسب، وهل يتصور أن تكون هناك أحزاب وحريات ومعارضة فى ظل الأحكام العرفية أو قانون الطوارئ؟ وهل يتصور إنسان أن تجرى انتخابات حرة فى ظل حكم عسكرى أو سلطوى أو مباحثى أو إرهابى يملك كل شىء حتى الأرزاق، ويعامل الناس بالحديد والنار؟ وقيل انتخابٌ قلت فى الشكل وحده كشوف وأصوات وكلٌّ معيّن فما ناجح إلا المرادُ نجاحه ولو أنه كَلٌّ على الناس هيّن لقد بات أمر الناس نهبا مقسما ولا تطلبوا البرهان فالأمر بيّن فهل يتصور أن تعيش بلاد تحت الأحكام الاستثنائية ستة عقود من الزمن، يقهر فيها الإنسان، وتجهض ملكاته، وتؤكل حقوقه، وتبدد مقدراته، ولا حسيب أو رقيب أو رحمة؟ هل يتصور أن تبلغ هذه البلاد شيئا، أو تنال منالا، أو تحقق هدفا، أو تبنى صناعة، أو تصنع حضارة، أو تكسب رخاء؟ فمثلا عاشت أرض الكنانة تحت فساد الحكم ردحا من الزمان، ثم جاء الاستعمار فملك الرقاب، وأذل العباد، وأفسد الحياة، ثم جاءت بعده الحكومات الوطنية!! فسارت على النهج نفسه، وقطعت الطريق نفسها، وتسببت بكل سبب، وتذرعت بكل وسيلة لتكبل الأمة، وتلغى شخصيتها، فمثلا قانون الطوارئ رقم 69 الصادر فى 52 أغسطس 1939م، صدر بسبب دخول الحلفاء الحرب، وتصور أننا عشنا فى بركته حتى الثورة، ونهلنا من عطاءاته حتى قضى الله أمرا آخر، ولقد استمر هذا القانون حتى عام 1972م، باسم قانون الطوارئ، وحماية حريات المواطنين ضمن القانون رقم 73 لسنة 1927م، ثم جاء قانون العيب، ثم قانون الطوارئ ومحاربة الإرهاب، الذى استمر حتى اليوم، ثم لم يكتف بهذه القوانين فصدرت قوانين أخرى مكملة مثل قانون النقابات، والمحاكم الاستثنائية، وقانون الصحافة.. إلخ، ثم لا قانون والضرب فى المليان، ثم لا تنفيذ لأوامر القضاء والمجلس سيد قراره، ثم.. ثم.. وقد تسأل فتقول: وأين الشعب؟ فأقول: إن الشعوب موجودة وحيّة، وهويتها وعمقها زاهر ومضىء، ولكنها كانت تريد القيادة المخلصة، فحينما طلب من الشعب المصرى بعد إلغاء معاهدة 1936م مقاطعة الإنجليز ترك 90 ألف عامل العمل فى معسكرات الإنجليز بغير تردد، دون أن يعلموا شيئا عن مصيرهم المجهول، وهم فى حاجة إلى لقمة العيش، وحينما قامت الثورة لتحارب الظلم هَبَّ الناس لتأييدها بالنفس والنفيس، ولكنهم بعد ذلك خاب فألهم، وضاع أملهم. وتسألنى: وأين القيادة الحزبية التى تتصدر العمل الوطنى؟ أقول: القيادات الموجودة وقعت فى مصيدة التدجين، ونسيت لغة الكفاح الشريف وأصيبت بالحقد على العاملين المخلصين ولم تتعاون معهم، فهل ستظل أم تتنحى؟ تنحى فاغربى عنى بعيدا أراح الله منك المؤمنينا أغربالا إذا استُودِعْتِ سرا وكانونا على المتحدثينا حياتُك ما علمتُ حياةُ سوء وموتك قد يسر العالمينا وأما القيادة التى كانت فى ظهر الغيب وأرادها الله للأمة اليوم، فهى والحمد الله مؤمنة شريفة، كبيرة القلب، حانية الجوانح، كثيرة العطاء، شجاعة النفس، متفتحة العقل، تراقب الله فى كل شاردة وواردة وتحاسب نفسها قبل أن يحاسبها ربها، وتتأسى بالصالحين فى أفعالها وأعمالها، ذكر القرطبى فى تفسيره أنه بلغ عمر بن عبد العزيز أن ابنه اشترى خاتما بألف درهم، فكتب إليه بلغنى أنك اشتريت خاتما بألف درهم، فبعه وأطعم به ألف جائع، واشترِ خاتما من حديد واكتب عليه (رحم الله امرأ عرف قدر نفسه)، وهكذا كان القادة الذى ربوا الأجيال المؤمنة الذين لو أرادوا خلع الجبال لخلعوها. كانوا يصلحون من أنفسهم قبل أن يدعوا الناس إلى الإصلاح، وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول: (رحم الله امرأ أهدى إلىّ عيوبى) وكان يسأل سلمان عن عيوبه، فلما قدم عليه قال: ما الذى بلغك عنى مما تكرهه. قال: أعفنى يا أمير المؤمنين فألح عليه، فقال: بلغنى أنك جمعت بين إدامين على مائدة، وأن لك حلتين؛ حلة بالنهار وحلة بالليل. قال: وهل بلغك غير هذا؟ قال: لا، قال: أما هذان فقد كفيتهما. فهو على جلالة قدره وعلو منصبه هكذا كانت تهمته لنفسه رضى الله عنه. فكل من كان أرجح عقلا وأقوى فى الدين وأعلى منصبًا، كان أكثر تواضعًا، وأبعد عن الكبر والإعجاب وأعظم اتهامًا لنفسه، وهذا يعتبر نادرًا يعز وجوده. فقليل فى الأصدقاء من يكون مخلصًا صريحًا بعيدًا عن المداهنة متجنبًا للحسد يخبرك بالعيوب ولا يزيد فيها ولا ينقص وليس له أغراض يرى ما ليس عيبًا عيبًا أو يخفى بعضها. قيل لبعض العلماء، وقد اعتزل الناس وكان منطويًا عنهم: لِمَ امتنعت عن المخالطة؟ فقال: وماذا أصنع بأقوام يخفون عنى عيوبى. فكانت شهوة صاحب الدين فى التنبيه على العيوب، عكس ما نحن عليه، وهو أن أبغض الناس إلينا الناصحون لنا والمنبهون لنا على عيوبنا، وأحب الناس إلينا الذى يمدحوننا مع أن المدح فيه أضرار عظيمة مثل الكبر والإعجاب والكذب. وهذا دليل على ضعف الإيمان فإن الأخلاق السيئة أعظم ضررًا من الحيات والعقارب ونحوها. ولو أن إنسانًا نبهك على أن فى ثوبك أو خفك أو فراشك حية أو عقربًا لشكرته ودعوت له وأعظمت صنيعه ونصيحته واجتهدت واشتغلت فى إبعادها عنك وحرصت على قتلها. وهذه ضررها على البدن فقط ويدوم ألمها زمنا يسيرا وضرر الأخلاق الرديئة على القلب يخشى أن تدوم حتى بعد الموت ولا نفرح بمن ينبهنا إليها حتى نشتغل بإزالتها. بل نقابل نصح الناصح بقولنا له: تبكيتًا وتخجيلا وأنت فيك وفيك، ناظر نفسك ولا عليك منا، كلٌّ أبصر بنفسه. ونشتغل بالعداوة معه عن الانتفاع بنصحه بدل شكره على نصحه وتنبيهه لنا على عيوبنا، وينبهنا إلى هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: المؤمن مرآة المؤمن.. المؤمن أخ المؤمن يكف عليه ضيعته.. ويحوطه من ورائه .. والمؤمن ناصح دائما لأخيه المؤمن برفق ولطف: تعهدنى بنصحك فى انفرادى وجنبنى النصيحة فى الجماعة فإن النصح بين الناس نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه وإن خالفتنى وعصيت قولى فلا تجزع إذا لم تعط طاعة "فالمؤمن مرآة المؤمن" هذا الحديث على قلة كلماته وعظيم المعانى كثير الدلالات ينطوى على أعماق تربوية نحن فى أمس الحاجة إليها، خاصة فى هذه الأيام التى يمر بها المسلمون وهم غارقون فى مشكلات كبيرة فيما بينهم.. والمرآة دائما تكشف العيوب من دون صخب ولا ضجيج حتى يعدل الإنسان مسار حياته برأب الصدع ولم الشمل وإصلاح الجو بينك وبين أخيك، فهذه المرآة التى تعمل فى صمت وتستر العيوب وتدل بهدوء على أخطاء الإنسان.. والحقيقة التى لا مراء فيها أن كل الناس لهم محاسن ولهم أخطاء، وكان النبى صلى الله عليه وسلم يحب إبراز المحاسن من أجل أن يشجع عليها.. يحسن من حسن ويقويه ويقبح القبيح ويوهنه فإذا رأى الإنسان فى أخيه بعض المحاسن فليبرزها.. وهذا من الخلق الحسن الذى يجب أن يتصف به الإنسان المؤمن.. وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.