لم يكن الأمر مفاجئا ولا غريبا أن تصدر محكمة جنايات القاهرة حكمها بإخلاء سبيل "مبارك" فى قضية قتل المتظاهرين، فالأمر كان معلوما ومعروفا من قبل، بل إن جريدة "الشرق الأوسط" التى تصدر عن مؤسسة الأبحاث السعودية، والمعروفة بميولها وتوجهاتها المضادة لكل ما هو إسلامى، والمؤيدة لمبارك ونظامه، نشرت قبل ثلاثة أيام تقريرا عن بدء إجراءات استقبال "مبارك" فى مقر إقامته بشرم الشيخ، وأنه يتم إعداد وتجهيز المسكن وترتيبه، كما حفلت تقارير قناة "العربية" المعروفة توجهاتها قبل نظر قضية إخلاء سبيل مبارك، بتفاؤل كبير بخروج مبارك بل تأكيدات ذلك، وسارت على نفس المنهج والأسلوب صحف وفضائيات الفلول والممولة من رجال أعمال كونوا ثروات طائلة فى عهد النظام السابق، بل الأمر ظهر على وجه "المخلوع" فى جلسة الدقائق الثلاث بإعادة محاكمته، عندما ظهر لأول مرة يلوح بيده لمحاميه وعدد من أتباعه فى قاعة المحكمة، وتظهر الابتسامة على وجهه؛ الأمر الذى نظر إليه كثيرون بأنه واثق من حكم الإفراج عنه بعد ثلاثة أيام. وبعيدا عن التعليق على أحكام القضاء الذى نحترمه ونقدره، فإننا ولأول مرة نعرف إيحاءات بل أخبارا وتقارير توحى بصدور أحكام بالبراءة، وتنشر وتبث عبر وسائل إعلامية لها سطوتها وتأثيرها، ولها أجندات سياسية لا تخفى على أحد، مما يثير علامات استفهام كبيرة حول هذا الأمر، وإذا كان لنقابة الصحفيين أو المدافعين عن مواثيق الشرف موقف لخضع الأمر للتحقيق والمساءلة المهنية، فالتعليق على أحكام القضاء ممنوع بمجرد صدورها، ولكن ماذا عن التقارير التى توحى أو تؤكد صدور أحكام قضائية بالبراءة أو الإدانة فى قضايا تهم الرأى العام، أليست هذه توجب المساءلة والتحقيق، وتستحق التوقف عندها حول من سرب هذه الأحكام لهذه الوسائل قبل صدورها؟ أم نهتم بقشور ونغض الطرف عن جرائم إعلامية فى حق القضاء والقضاة مما يلقى بالشكوك والريبة فى حق البعض؟ ولكن مما يدعو إلى التساؤل بل المزيد من التساؤلات واللغط والجدال من قبل المتابعين للأحكام التى تصدر بالبراءة، التى تندر عليه "البعض" بالقول "مهرجان البراءة للجميع" فى جميع القضايا التى تتعلق بقتل الثوار والمتظاهرين فى أحداث ثورة 25 يناير، لماذا هذا الكم الهائل من أحكام البراءة؟ فلا توجد قضية واحدة فى أى محافظة من المحافظات، لم يحكم فيها إلا بالبراءة وكأن الثوار قتلوا أنفسهم، والمصابين طعنوا أو أطلقوا النار على أنفسهم، بل حتى الواقعة الدامغة التى شاهدها العالم كله لا المصريون فقط عبر الشاشات التليفزيونية، وظهر فيها المجرمون وقطاع الطرق والقتلة والمأجورون وهم يقتحمون ميدان التحرير بالجمال والبغال والأحصنة وفى أيديهم السيوف والخناجر والهراوات، لإخلاء الميدان وكان لديهم النية والاستعداد لإبادة المتظاهرين وقتلهم، التى اصطلح على تسميتها ب"موقعة الجمل" حصل جميع المتهمين فى القضية على البراءة، بل رُفض طعن النيابة على الحكم، وأسدل الستار عليها، وغيرها من القضايا المهمة والمثيرة للجدل. وهذا يدعونا إلى التوقف أمام الأمر مليا والعودة إلى الوراء، خصوصا بعد تنحى المخلوع، وتسلم المجلس العسكرى لمقاليد الحكم فى البلاد، وظهور من حاولوا ركوب "موجة الثورة" وتكريس "سلطة العسكرى" والظهور بمظهر الأبطال والمناضلين والشرفاء، وهم فى الحقيقة أيديهم ملوثة بالدماء، وبطونهم مملوءة بالمال الحرام، وحساباتهم متضخمة بالأموال التى حصلوا عليها بطرق غير شرعية، ناهيك عن المناصب والمكاسب والوظائف التى حصلوا عليها لأبنائهم وإخوانهم وأقاربهم، فرأينا الكم الهائل من البلاغات ضد مبارك ونجليه وزوجته ورموز وأركان نظامه، بالفساد والرشوة والكسب غير المشروع، والحسابات البنكية لمكتبة الإسكندرية المودع فيها 145 مليون دولار باسم سوزان مبارك وفلل وقصور مارينا وشرم الشيخ ولسان الوزراء والمدن الجديدة والأراضى الشاسعة التى تم وضع اليد عليها بملاليم، وبيعت بملايين الجنيهات. فى الوقت الذى تركت فيه قضايا أهم منها لم تلق أى اهتمام أو تحريك من النيابة أو حتى قدم بها بلاغات للتحقيق فيها، وترك رموز النظام السابق فى مناصبهم يمارسون دورهم فى فرم وحرق وإتلاف جميع الأدلة والمستندات ومسح أشرطة كاميرات التصوير والتسجيل، ولعل نموذج بقاء زكريا عزمى فى ديوان رئاسة الجمهورية خير دليل على ذلك، كذلك استمرار القيادات الأمنية فى مواقعها ورجال المباحث فى أماكنهم، والقيادات النافذة فى المؤسسات السيادية والمهمة فى مواقع المسئولية، وترك النائب العام السابق الذى عينه مبارك يمارس دوره فى وضع البلاغات التى تقدم له فى ثلاجته الضخمة، أو التخلص منها، أو أن يعهد بها لمن يعرفهم جيدا ويثق بهم ومن لهم مصالح متشابكة معه ومع من قدمت ضدهم، لطمس الأدلة وعدم استيفاء التحقيقات. وكانت النتيجة وجدنا قضايا قدمت للمحاكم بلا أدلة ثبوتية ولا مستندات ولا قرائن، بل وصل الأمر إلى تغيير أقوال شهود الإثبات فى القضايا، ورفضت الأجهزة التى تملك المعلومات والأدلة والوثائق التعاون مع المحكمة أو الادعاء العام، ورأينا جميعا فى قاعة المحكمة عندما أراد رئيسها تشغيل أحد أشرطة فيديو أدلة الاتهام أن عليه مسرحية هزلية بعد محو الأدلة، مما أثار استهجان الجميع. إننا نؤكد يقيننا أن من قام بمسرحية تقديم البلاغات الهائلة ضد رموز النظام السابق فى قضايا معينة، يعرف جيدا أن نهايتها رد الأموال، والتنازل عن القصور والفلل والأراضى، ورد هدايا مؤسسات "الأهرام" و"الأخبار" و"الجمهورية"، ويعرف تماما نهايتها البراءة، ويدرك أن التحقيقات لن تتجاوز الرد العينى، ولن تتسع لتشمل الفساد الضخم الذى كان يرتع فيه النظام، لأنه ببساطة شديدة واحد من أركان هذا النظام وحقق ثروته فى ظله. ولكن أين قضايا تزوير إرادة الشعب فى استفتاءات وهمية، أشرف عليها النظام الفاسد بأركانه وتورط فيها قضاة؟ أين رؤساء اللجان المشرفة على انتخابات 2010 أسوأ انتخابات مزورة شهدتها البلاد؟ أين قضايا التعذيب فى السجون والمعتقلات ومقرات مباحث أمن الدولة؟ أين قضايا خطف المصريين من دول أوروبية وترحيلهم إلى مصر؟ أين قضايا حقوق الإنسان المهدرة؟ أين قضايا المصريين الذين لفقت لهم قضايا دون وجه حق وصودرت أموالهم وممتلكاتهم؟ أين قضايا حرمان المتفوقين من خريجى الجامعات والمعاهد من الالتحاق بالوظائف فى المؤسسات التعليمية والخارجية والأمنية والدبلوماسية بسبب التقارير الأمنية؟ أين قضايا الأدوية والبذور المسرطنة التى أدخلت للبلاد؟ أين قضايا أكياس الدماء الملوثة؟ أين قضية الونش العملاق الذى سرق جهارا نهارا من شارع رمسيس ولم يعرف عنه شىء حتى الآن؟ أين قضايا المختطفين الذين لا يعرف مصيرهم حتى الآن هل هم أحياء أم أموات؟ حتى قضية بيع الغاز للصهاينة بتراب الفلوس حصل المتورطون فيها على البراءة؟ إنها مصيبة كبرى أن نبتلى فى مؤسسات نكن لها كل التقدير والاحترام، فإذا بها مخترقة ومسخرة لخدمة المخلوع ونظامه، فى محاولة بائسة ويائسة لإعادة استنساخ هذه النظام، ونسى هؤلاء أن عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء يوما، وسيذهب الذين يقودون الثورة المضادة مهما كانت مواقعهم، وسيطهر القضاء نفسه، وتتعافى الشرطة، ويسقط ويتساقط إعلاميو مبارك واحدا تلو الآخر، ولن يبقى غير الصحيح، الذى يبنى لا يهدم، الذى يحرص على بلده ويعيش بالحلال ويرضى بخيار الشعب حرا أبيا لا عبدا مستذلا.