اقتربت بدايتا العام الهجرى والميلادى من بعض، ولعلها إشارة إلى قرب التحام ما تشتت عمدًا -أو بغير عمد- فى نسيج الوطن. ويحمل العام الجديد (ملامح) تشكيل خريطة "مصر" السياسية التى بدأت قسمات صورتها تتبلور، ويبدو أنها ستكون كا?تى: أولا: تشكيل التيارات السياسية الإسلامية: لا شك أن الإصرار الرئاسى على بناء المؤسسات سيسهم فى التسريع ببلورة خريطة سياسية جديدة ل"مصر"، التى نتوقع أن تؤثر فى كل التيارات ومنها "التيار ا?سلامى" الذى يتميز بكونه (عديد الروافد)، والذى يتقدمه تياران معلومان وهما "الإخوان" و"السلفيون"، وتأتى روافد أخرى تبحث عن وجودها بتقديم رؤى متجددة؛ فبعضها سيحاول تقديم نفسه بأنه الوسطية الإسلامية الحقيقية البعيدة عن (صراع الأقطاب) (إسلام-علمانية)، ومن ثم سيقبل بلا تحفظ بالوجود العلمانى فى المكون الوطنى بكل تفاصيله، ولا يمانع من التحالف معه، وهذا رافد "د. عبد المنعم أبو الفتوح"، ورافد ثان عكسى سيتقدم باعتباره "الإسلام الحقيقى"، وبأنه (السلفية ولكن بلا صدام)، وأنه (الاعتدال الإخوانى ولكن بلا تفريط)!!، وسيكون (خطابه) مُرحّبا "بالعلمانية" كجزء من النسيج الوطنى، لكنه (سيعمل) ضد وجودها على الأرض باعتبار تكوينه السلفى الرافض تماما للتواؤم مع ا?خر العلمانى، وغالبا لن يُقنع أحدا بأنه (فصيل إسلامى للجميع) كما يتمنى، وذلك لسابق خطابه المتصادم مع مخالفيه، وهذا الرافد يمثله "حزب الوطن" وما سيحيط به من أحزاب وائتلافات إسلامية صغيرة، وهذه الأخيرة ستكون لها فرص اختيار بين الروافد الإسلامية، وغالبا سيكون الاختيار مصلحيا لاطمئنانها إلى توفر بُعد (المبادئ) فى جميع الروافد، والحقيقة أننا نتوقع أن تسحب الروافد الإسلامية الجديدة من الرصيد "الليبرالى والعلمانى"، ولن تكون خَصما من الرصيد ا?سلامى للقوى الكبرى؛ إذ نتوقع أن يتعافى "الإخوان" من آثار الهجمة الإعلامية، ومن الآثار الجانبية لتحمل مسئولية "الرئاسة"، وكذلك نتوقع أن تُثبّت "الدعوة السلفية" أقدامها فى كتلتها الصلبة، مع فقدان جزء من شعبيتها فى عواصم المحافظات لصالح رافدى "الوطن" و"حازم". أما "الرافد الحازمى" فلن يكون له زخم انتخابات الرئاسة الذى كان "حازم" يمثل فيها (الإسلام فى مواجهة العلمانية والفلول)، وذلك قبل خوض د. مرسى المعركة، ولكنه سيجمع الشباب السلفى ذا المذاق الجهادى والمُسيسى، والرافض أحيانا لممارسات قيادة "الدعوة السلفية"، الذى سينحصر تأثيره فى كتل حضرية يصعب امتدادها إلى الريف إلا بمساعدة روافد إسلامية أخرى مثل "الجماعة الإسلامية" فى بعض دوائر الصعيد. و"الجماعة ا?سلامية" تختلف عن "السلفيين" فى أن قيادتها توافقية، وصفها حاد الرأى غالبا لا يقبل الحلول الوسط، لذلك تُلجئهم الشورى لاختيارات حادة لا تتفق مع رأى القيادة، وذلك لعدم نضج التجربة الشورية التى تنقل الخبرات صعودا وهبوطا بين القيادة والصف. أما رافد "د. أبو الفتوح" أيضا فلا نتوقع أن يكون له نفس تأييد انتخابات الرئاسة، وذلك -ابتداء- بفقده التيار السلفى بكل أطيافه وعودة بعض الدوائر الإخوانية المؤيدة له إلى بيتها الأصلى بعد تحمل مسئولية الرئاسة، وتخلى الليبرالية والعلمانية عن "الدكتور أبو الفتوح" ودخولها فى سياق تحالفات أخرى. ومن ثم يظل رهان "عدم الاستقطاب" الذى يدشنه "الدكتور" رهانا نخبويا يعتمد على الأداء الإعلامى، وعلى شخص "الزعيم"، الذى ينجح فيه "الدكتور" عادة، وهو وإن كان يفتقر إلى القواعد الشعبية على الأرض فإنه لا يفتقر إلى دوائر شبابية ممتازة تؤمن بفكر "الحزب" و"زعيمه" وتتوق لِأَن تقدم تجربة "أردوغانية" ذات مذاق مصرى، ولكن أصعب ما يواجه هذا الرافد أن النصيب الأوفر فى هذه الآونة المضطربة يكون عادة للألوان الحادة الواضحة التى تفهمها العامة، التى لا يمتلك منها "الدكتور" حظا كبيرا. ثانيا: تشكيل التيارات العلمانية والليبرالية: ما زالت روافد التيار العلمانى تعانى تشرذما فى كل عناصر الحضور السياسى الشعبى، وهى فى حيرة شديدة من كيفية تقديم نفسها بشكل نهائى، فلا أحد يعرف مصير "جبهة الإنقاذ"، التى تم تشكيلها لتكون (بديلا عن الرئاسة الشرعية) وليست (فريقا للعمل السياسى والمنافسة الانتخابية)، وهم يجدون أنفسهم فى مفترق طريق مفاجئ، وهو هل سيتحولون إلى العمل السياسى طويل المدى، أم يظلون على القاعدة التى جمعتهم وهى إسقاط "الرئيس"، أم سيجمعون بين المتناقضين فيظل "التحالف" على هدفه الأول، مع تغيير تكتيكى بخوض الانتخابات؟ وقد يظن البعض أنه قرار سهل، ولكن الحقيقة غير ذلك؛ لأن إعلانهم بخوض الانتخابات يعنى اعترافهم بالفشل فى مواجهة "الرئيس"، ويعنى أنهم سيعملون فى مجال لم يتفقوا ابتداءً على وضع ضوابطه واتفاقياته فيما بينهم، ويعنى أنهم سيلجئون للشعب بعد أن استندوا للإعلام والمال والنظام السابق، كما أن صعوبة القرار تكمن فى الفوارق بين تقدير كل قيادة لثقلها فى الميدان، فالسيد "حمدين صباحى" قد فرغ لتوه من تشكيل "التيار الشعبى" الذى يتصور أنه مؤيد بالملايين التى منحته أصواتها فى انتخابات "الرئاسة"، وهو يحسب نفسه أثقل الجميع ولا يريد أن يرتبط بمن يُفقده ما بناه منفردا. وهناك "عمرو موسى" الذى انتقلت له -أو يمكن أن تنتقل- تركة "أحمد شفيق" السياسية المتمثلة فى "تنظيم الحزب الوطنى المنحل" ورجاله المنتشرين فى مفاصل الدولة، وهو يرى أن رصيده هو جماع الأصوات التى أيدت "شفيق" وأيدته فى انتخابات الرئاسة أيضا، وذلك بالإضافة للظهير العربى الذى سيكون "موسى" هو اختياره الأول لعودة نظام يمكن التعامل معه، ولا يمثل تهديدا ثوريا لهؤلاء العرب. أما "البرادعى" فما زال عازفا أو ربما مستعليا عن خوض أى منافسة انتخابية، وبوصلته تميل دائما إلى (الصفقات السياسية)، والوصول إلى الحلم عبر (مائدة التفاوض)، وهو يعتبر أن الظهير الأمريكى والأوروبى ما زال يمثل له سندا قويا سواء عبر الضغوط الاقتصادية أو السياسية على مصر. ولكن "الرجل" لا يفتقر إلى قاعدة شبابية ونخبوية تؤمن به وتدفعه للعمل الشعبى، على الرغم من أنه خذلها فى كل ما سبق من تجارب، لكنهم ما زالوا يعتبرونه حكيما فى قرارات حتى تلك الصادمة لهم، "فالبوب" (كما يطلق عليه الفيسبوكيون) ذو تاريخ عريض يستحق -من وجهة نظرهم- التأييد والمساندة والعمل تحت قيادته. وعلى عكس التيارات الإسلامية التى نتوقع أن تثبت الروافد القديمة فيها أقدامها (الإخوان والسلفيين)، فإن المتوقع أن تفقد الروافد العلمانية القديمة بوصلة حركتها، ونشير هنا إلى "الوفد" الذى تراوحت رهاناته بين مساندة الإسلاميين فى بداية أعمال "الجمعية التأسيسية" ثم الانقضاض عليهم والدخول فى "جبهة الإنقاذ"، ولكن "الوفد" لديه من يقول لقيادته: كنا على خطأ، ولديه من يوجه البوصلة إذا عزموا على ذلك، لكن المشكلة تكمن فى أن "التيار الإسلامى" سيتردد كثيرا قبل أن يقبل "الوفد" على قوائمه، وذلك بسبب الاستقطاب (العلمانى-الإسلامى) الذى ألقى بظلاله على الجماهير المسيسة إسلاميا، وكذلك فإن لجوء "الوفد" إلى "جبهة الإنقاذ" سيجعله عرضة لحسابات تضعف وضعه السابق؛ لأن جميع روافد "الجبهة" سيدفع بادعاءات لا دليل قاطعا عليها بأنه ا?ثقل شعبيا، ومن ثم لن يجد "الوفد" وضعا محترما يخرج به من تضارب المواقف. ورغم إعلانه با?نحياز إلى "الجبهة" إلا أن اتصالاته ستظل مستمرة لعله يجد تحالفا يرفعه ولا يهبط به. وكنتاج للحراك السابق فإن مكونات "الجبهة" ستظل تدور فى فلك نفسها غالبا. أما "غد الثورة" و"الحضارة" وأمثالهما من الأحزاب الصغيرة فقد عبّرت قياداتها عنها تعبيرا متوازنا، سواء نخبويا أو إعلاميا، وقد يصل رذاذ طيب من مواقفهم للجمهور عبر دورهم فى صياغة الدستور. فالدكتور "أيمن نور" سيظل يعلن أنه منحاز "لليبراليين"، ولكن عينه ستظل على "التحالف الإسلامى"، ولو نجح "الإخوان" فى وضعه بمكانة متميزة سيذهب إليها فورا، وسيكون هذا بمباركة نجوم التأسيسية الذين وثقوا فى "الإخوان" بسبب تعاونهم معا ?نجاز "الدستور"، وقريب جدا من هذا القول نقوله على حزب "الحضارة" بقيادة المحترم "محمد الصاوى". وسيلاحظ القارئ الكريم أننا أبقينا "حزب الوسط" منفردا عن السياق الإسلامى، وذلك لأننا نتوقع أن تحاول قيادة الحزب أن تجنى ثمار العمل البطولى لقياداته الثلاثة (أبو العلا - سلطان - محسوب) فى صياغة "الدستور"، الذى أعلمه عن قيادة "الحزب" أن طموحهم مرتفع، لذا سيحاولون بناء تحالف منفرد عن الإسلاميين والليبراليين يجمعون فيه رافد "مصر القوية" و"الوطن" و"الحضارة" و"غد الثورة" وربما "التيار الشعبى"، وذلك ليشكلوا أغلبية تفرز "حكومة"، وأتصور أن هذا الإخراج سيكون بديلا وحيدا إذا لم يجدوا مكانا فسيحا فى قوائم "الإخوان"، وإذا لم تستطع قيادة "الوسط" التخلص من الحاجز النفسى العميق تجاه "الإخوان". ولا شك أن تحالفا يضم "الإخوان" و"الوسط" و"غد الثورة" و"الحضارة" و(ينسق) مع "السلفيين" بجميع روافدهم سيكون له اليد الطولى فى قيادة العمل السياسى فى المرحلة المقبلة بإذن الله.