كتبت فى مقال يوم الثلاثاء الماضى عن أن الأحداث المتتالية الكبيرة فى مصر ينبغى ألا تنسينا ما أنجزته مؤسسة الرئاسة، وما قامت به من أعمال، وما صدر عنها من قرارات، وما حققته فى زيارات داخلية وخارجية؛ لأن الإنسان مجبول على التلبس بالحدث الآنى ونسيان الماضى بسلبياته وإيجابياته! ولقد جاء الرئيس مرسى ومؤسسته ليعملوا فى ظروف صعبة، عقب ثورة ما زال لتردداتها أصداء تروح وتغدو فى جنبات المجتمع؛ احتجاجاتٍ ومظاهرات ومليونيات، منها الموضوعى، ومنها غير المبرر سوى بالرغبة فى عرقلة التجربة وتخريب البلاد.. جاءت مؤسسة الرئاسة والنظام الجديد عقب هدم نظام ظل موجودا ينخر فى عظم المجتمع ويهدم قيمه وأعرافه عبر ستين عاما.. بيد أن هذا النظام الفاسد لا يزال منتشرا فى مؤسسات الدولة انتشار السرطان فى خلايا البدن، بحيث تصعب معالجته، والتعامل معه؛ لأنه يقتضى هدمه تماما وإحلال نظام جديد مكانه، وهذا معناه هدم الدولة نفسها بمؤسساتها جميعا. كما جاء النظام الجديد ومؤسسة الرئاسة فى ظل ظرف دولى صعب تتحكم فيها قوى الشر العالمية فى مصائر المجتمعات، كان القرار الأول والأخير لهم، وحكام العرب كانوا –ولا يزال كثير منهم- أتباعا وذيولا منفذين لرغبات أسيادهم؛ لتبقى مصالحهم، ولتحفظ قوتهم وإمبراطورياتهم وسيطرتهم على مقدرات العالم. وقد أثبتت ستة الشهور الماضية من حكم الرئيس مرسى أن التعامل مع الواقع والأحداث أصعب بكثير مما يتصوره البعض؛ لأن هناك جيوشا من الفساد وقوى الشر الداخلية تؤازرها قوى أخرى خارجية تقاوم أى إصلاح أو تغيير، وتحاول إبطال أى قرار أو تعديل؛ لأن هذا ضد مصالحها ويهدد وضعها الآنى والمستقبلى؛ ولهذا فهى تعض على الفساد بالنواجذ، وودت لو ظل الوضع على ما هو عليه، ومن هنا ندرك بعض المخاطر والتحديات والصعوبات التى تواجه مؤسسة الرئاسة والنظام الجديد. وإننى مؤمن –كل الإيمان– أن العقلاء لا يقرءون الأحداث إلا فى ضوء الواقع بفقهه فقها شاملا لا مجزوءا، وحقيقيًّا لا موهوما، ومنضبطًا لا متسيبًا، دون تهوين أو تهويل، فيعطون لكل حدث قدره، ويضعون كل تصرف فى مكانه الذى يستحقه؛ امتثالا لقوله سبحانه: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}. كما أننى مؤمن –أشد الإيمان– أن العقلاء كذلك يقرءون ما يجرى فى ضوء سياقاته وطبيعته، ولا يقرءونه فى ظل مثاليات حالمة، ولا منعزلا عن سياقه وملابساته، وقد قال العلامة ابن القيم فى بدائعه: "والحاكم إذا لم يكن فقيه النفس فى الأمارات، ودلائل الحال ومعرفة شواهده، وفى القرائن الحالية والمقالية، كفقهه فى جزئيات وكليات الأحكام، أضاع حقوقًا كثيرة على أصحابها، وحكم بما يعلم الناس بطلانه، ولا يشكون فيه اعتمادًا منه على نوع ظاهر لم يلتفت إلى باطنه وقرائن أحواله". والواقع أن البعض من المشتغلين بالسياسة، وبخاصة المعارضة، يعامل مؤسسة الرئاسة ويحكم عليها كما لو كانت تعمل فى ظروف طبيعية، وفى نظام عتيق فى الديمقراطية، ومستقر فى الممارسة السياسية الحقيقية... ويحملها مسئولية أى آثار سلبية تظهر الآن أيًّا كانت درجتها، وهى حصاد فساد واستبداد ستين عاما. إننى أدعو إلى أن نقرأ المواقف والأقوال والأفعال والتصرفات فى ضوء الواقع، باستصحاب ملابساته وظروفه وسياقاته المختلفة حتى نريح أنفسنا، ونريح غيرنا، ونعمل جميعا على نهضة البلاد، وتحقيق مصلحة العباد.. وليس هذا إعذارا للرئاسة ولا غيرها، وإنما هو تقدير منصف -فيما أرى- للموقف فى ظل سياقه الطبيعى وظرفه الحقيقى.