على مدار مبدأين وأربعين مادة كانت "العدالة الاجتماعية" هى أكثر المحاور استفادة من تنوع الأيديولوجيات فى "الجمعية التأسيسية"، حيث سترى أن "مشروع الدستور" قد حاز فى مواده كل مميزات مفهوم "العدالة الاجتماعية"، سواء فى المذهب الليبرالى أو الاشتراكى بجوار الإسلام. وسترى أن "العدالة الاجتماعية" كانت هاجسًا مسيطرًا على عقول واضعى الدستور للدرجة التى أسسوا لوجودها فى أكثر من أربعين مادة، بل لم يكتفوا فى إقرارها بإطارها الاقتصادى المعروف، ولكننا رأيناها منتشرة فى كل أبواب الدستور، فأحاطوها بكمال إنسانى مشهود، وتكاد لا تراهم أغفلوا نظرية حديثة فى "العدلالاجتماعى" إلا وأخذوا بها. العدالة الاجتماعية فى المبادئ والثوابت من بين اثنى عشر مبدأ قام عليها "مشروع الدستور" احتلت "العدالة الاجتماعية" المبدأين الأول والرابع؛ حيث نصت فى الأول على: ".. وتحافظ على موارد الدولة وتوفر أركان العدالة فى توزيعها..". ونصت فى الرابع على: "المساواة أمام القانون وتكافؤ الفرص لجميع المواطنين والمواطنات دون ما تمييز أو محاباة أو وساطة"، وهكذا ينشأ بنيان الدستور على مبادئ العدالة بحيث تكون الدماء المنتشرة فى شرايين الحياة بكل أبعادها متشربة ومرتكزة على هذه المبادئ. العدالة الاجتماعية فى باب الدولة والمجتمع اشتمل هذا الباب على ثلاث عشرة مادة ترسخ "للعدالة الاجتماعية" فى مختلف فصوله وفروعه: ففى فصل المبادئ الأساسية: نصت المادة السادسة على: "يقوم النظام السياسى على مبادئ الديمقراطية والشورى والمواطنة التى تسوى بين جميع المواطنين فى الحقوق والواجبات العامة..". وهكذا يستقر النظام السياسى للوطن على مبادئ العدالة وتداول السلطة والمساواة السياسية الكاملة لينهدم أى شكل من أشكال العنصرية والتميز بين أبناء الوطن. وفى فصل "المبادئ الاجتماعية والأخلاقية":نصت المادة الأولى على: "تكفل الدولة وسائل تحقيق العدل والمساواة والحرية، وتلتزم بتسيير سبل التراحم والتكافل الاجتماعى والتضامن بين أفراد المجتمع..". ونصت المادة التاسعة على: "تلتزم الدولة بتوفير الأمن والطمأنينة وتكافؤ الفرص لجميع المواطنين دون تمييز" لتشغل "العدالة الاجتماعية" مادتين من أصل ست مواد يشتمل عليهم فصل "المبادئ الاجتماعية والأخلاقية".ونرى كيف يركز المشروع على مفهوم "تكافؤ الفرص" ويكرره ليواجه أخطر مهددات المجتمع وهو "الطبقية" الموروثة عن النظام البائد. وفى فصل "المبادئ الاقتصادية" ستجد الآتى: المادة الرابعة عشرة الفقرة الثانية: ".. وتعمل خطة التنمية على إقامة العدالة الاجتماعية والتكافل وضمان عدالة التوزيع وحماية حقوق المستهلك، والمحافظة على حقوق العاملين..". وفى المادة الخامسة عشرة الفقرة الثانية: "وينظم القانون استخدام أراضى الدولة بما يحقق العدالة الاجتماعية، ويحمى الفلاح والعامل الزراعى من الاستغلال". وفى المادة الثامنة عشرة: "الثروات الطبيعية للدولة ملك الشعب، وعوائدها حق له، تلتزم الدولة بالحفاظ عليها..". وفى المادة الحادية والعشرين: "تكفل الدولة الملكية المشروعة بأنواعها العامة والتعاونية والخاصة والوقف وتحميها وفقًا لما ينظمه القانون". وفى المادة الثالثة والعشرين: "ترعى الدولة التعاونيات بكل صورها وتدعمها وتكفل استقلالها". وفى المادة الخامسة والعشرين: "تلتزم الدولة بإحياء نظام الوقف الخيرى وتشجعه..". وفى المادة السادسة والعشرين: "العدالة الاجتماعية أساس الضرائب وغيرها من التكاليف المالية العامة..". وفى المادة السابعة والعشرين: "للعاملين نصيب فى إدارة المشروعات وفى أرباحها، ويلتزمون بتنمية الإنتاج والمحافظة على أدواته وتنفيذ خطته فى وحداتهم الإنتاجية وفقًا للقانون، ويكون تمثيل العمال فى مجالس إدارة وحدات القطاع العام فى حدود خمسين بالمائة من عدد الأعضاء المنتخبين فى هذه المجالس، ويكفل القانون تمثيل صغار الفلاحين وصغار الحرفيين بنسبة لا تقل عن ثمانين بالمائة فى عضوية مجالس إدارة الجمعيات التعاونية الزراعية والصناعية". وفى المادة الثامنة والعشرين: "تشجع الدولة الادخار، وتحمى المدخرات وأموال التأمينات والمعاشات..". وفى المادة التاسعة والعشرين: "لا يجوز التأميم إلا لاعتبارات الصالح العام..". وفى المادة الثلاثين: "المصادرة العامة للأموال محظورة.. ولا تجوز المصادرة الخاصة إلا بحكم قضائى". وهكذا تتأسس "العدالة الاجتماعية" فى "إحدى عشر مادة" من أصل "سبع عشرة مادة" هى قوام "المبادئ الاقتصادية" ليبتعد الدستور عن التغول الرأسمالى على الطبقات الضعيفة وإن حمى وشجع الأفراد على العمل الخاص، كما حمى "التعاونيات" وشجع عليها ليقر أفضل ما فى النظام الاشتراكى، كما أسس لنظرية "الوقف" فهى تطبيق إسلامى ناجح، ثم تراه أشرك العمال فى أرباح المشروعات ليؤسس لملكية واقعية تراها ظاهرة أيضًا فى التمثيل فى مجالس إدارة القطاع العام، ثم يرتفع بهذا التمثيل إلى ثمانين بالمائة للفلاحين وصغار الحرفيين فى الجمعيات الزراعية والصناعية، كل هذه الحماية لم تمنع من حماية المال الخاص وتشجيعه على الاستثمار لتكسر حالة التناقض الطبقى التى خلقها الفكر الشيوعى وتسمح لمميزات الليبرالية الاقتصادية أن تنطلق دون تأميم أو مصادرة بعد أن أسبغت الحماية على الفئات الضعيفة التى اعتادت هذه الرأسمالية على دهسها. العدالة الاجتماعية فى باب الهيئات المستقلة ففى فصل "المجلس الاقتصادى": نصت المادة السابعة بعد المائتين على: ".. ويشكل هذا المجلس من مائة وخمسين عضوا كحد أدنى تختارهم تنظيماتهم المنتخبة من نقابات واتحادات وجمعيات الفلاحين والعمال والمهنيين وغيرهم من فئات المجتمع على ألا يقل تمثيل العمال والفلاحين عن خمسين بالمائة من أعضاء المجلس..". وبهذا التشكيل يصبح المواطن شريكًا فاعلًا فى إقرار العدالة الاجتماعية وليس منتظرًا لتطبيقها من الدولة، حيث إن صلاحيات هذا المجلس قد نصت عليها الفقرة الأولى من المادة فسها حيث قالت: "يقوم المجلس الاقتصادى والاجتماعى على دعم مشاركة فئات المجتمع فى إعداد السياسات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، وتعزيز الحوار المجتمعى". وللحديث بقية إن شاء الله تعالى. ----------