بعد قرار الاتحاد العام التونسى للشغل -الذى يعتبر معقل التيارات اليسارية والعلمانية- الدخول فى إضراب عام يوم 13 ديسمبر الجارى؛ احتجاجا على ما يقولون إنه محاولة ل"تهميشه"، بات من المؤكد أن تتجه تونس نحو مواجهة عنيفة بين أكبر منظمة عمالية، والحكومة التى تقودها حركة النهضة الإسلامية، فى مشهد محتقن اجتماعيا وسياسيا يؤدى بالبلاد إلى درك أسفل من الارتباك والفوضى يؤدى إلى انهيار مؤسسات الدولة والمجتمع. فالمشهد فى تونس يبدو فى ظاهره احتجاجات ذات طابع اقتصادى، لكنها تخفى فى باطنها "احتقانا سياسيا" شبيها بما يحدث فى مصر، خاصة بعد اتهام رئيس الحكومة "حمادى الجبالى" مؤخرا ضمنيا الاتحاد بأنه يسعى ل"إسقاط حكومة شرعية أفرزتها صناديق الاقتراع"، وتفجر الخلاف السياسى أكثر بين الطرفين عندما ساند الاتحاد أحزاب المعارضة فى المظاهرات التى تشهدها تونس من وقت لآخر، وآخرها بمحافظة "سليانة". وفيما كان الاتحاد العام يؤكد أن وقوفه بجانب أهالى "سليانة" لا يتعدى واجبهم النقابى، كانت الحكومة تتهمهم ب"تسييس" القضايا الاجتماعية للمحتجين وبضخ المال السياسى، بل تم اتهام كل من حزب "حركة نداء تونس" التى يتزعمها الباجى قائد السبسى -أحد أكبر رموز نظام بن على- وحركة الوطنيين الديمقراطيين التى يتزعمها شكرى بلعيد ب"رشوة المتظاهرين". من جانبه، اتهم زعيم حركة النهضة راشد الغنوشى، الاتحادَ بقيادة التحركات والاحتجاجات فى البلاد من أجل إسقاط الحكومة الشرعية، وأن قياداته تخدم أجندات أحزاب اليسار الفاشلة فى الانتخابات، وأن المواجهات التى حصلت فى سليانة تسببت فيها ميليشيات نقابية مسلحة بالهراوات والغاز. ولم يفاجئ قرار الإضراب التونسيين؛ لأنه جاء نتيجة عام كامل من التوتر بين الاتحاد والحكومة، لم تخل من التراشق وتبادل التهم، فقيادات الاتحاد تقول إنها سئمت سياسة التسويف والمماطلة وترفض الحوار مع الحكومة لحل القضايا العالقة، بينما تتهمه الحكومة ب"تأجيج الوضع الاجتماعى وتجييش العمال ضدها واستغلال الأوضاع الاجتماعية لتأليب الرأى العام عليها"، حتى إنها لم تتردد فى اتهامه بالوقوف وراء كل حركات الاحتجاج التى شهدتها تونس منذ الثورة التى أطاحت بنظام الرئيس بن على. وأعربت رئاسة الحكومة المؤقتة عن أسفها للدعوة إلى الإضراب والمسيرات وما سينجم عنها من تعطيل للمرافق العمومية ومصالح المواطنين فى قطاعات حساسة وحيوية، لا سيما منها الصحة والنقل وقطاع التربية، ودعت كل الموظفين فى كل المؤسسات، خاصة التعليمية منها للالتحاق بمراكز عملهم وأداء واجبهم. وأهابت رئاسة الحكومة بكل المواطنين والأحزاب والجمعيات والمنظمات، وفى مقدمتها المنظمة النقابية، تغليب منطق العقل والحوار والتهدئة لتجاوز كل الصعاب والمشاكل، خاصة بعد أن تم قطع شوط مهم فى الحوار مع المنظمة النقابية. وعبرت رئاسة الحكومة عن قلقها إزاء الأحداث المؤسفة التى تجددت خلال الأيام الأخيرة وعن حرصها على إجراء التحقيقات اللازمة فى هذا الشأن. وأثار إعلان الإضراب مخاوف التونسيين الذين أصبحوا على يقين بأن مجتمعهم المسالم سيدخل فى مرحلة حرجة قد تزج بالبلاد فى حالة من العصيان المدنى، وهذا الخوف ناتج عن تجربة الإضراب العام السابق، الذى شهدته تونس فى يناير 1978 وخلف أكثر من 500 قتيل بعد أن اقتنع الزعيم النقابى الحبيب عاشور الذى كان يرأس الاتحاد آنذاك بأن الزعيم الحبيب بورقيبة يريد كسر شوكة المنظمة. ويرى مراقبون أن اتحاد العمال فى تونس وصل إلى مستوى جيد من القوة، وهو يستخدمها لممارسة ضغط كبير على الحكومة، فهذه الاحتجاجات دفعت العديد من الشركات والمصانع إلى إغلاق أبوابها والتوقف عن العمل فى كل من مصر وتونس، بما شكل ضربة لاقتصادات هشة أصلاً خرجت من ثورات أطاحت بأنظمة الحكم السابقة.