كنا نسمع قبل زيارة غزة عما يحدث ولكن ما رأيناه اليوم خلال الزيارة أكثر بكثير من كل ما سمعناه، فآثار الدمار والقتل كبيرة للغاية. بهذه العبارة لخص وزير الخارجية محمد عمرو زيارة الوفد الوزارى العربى يرافقه وزير الخارجية التركى بالأمس لقطاع غزة.. نعم زيارتنا لغزة كانت فارقة بكل المقاييس.. منذ مغادرتنا القاهرة للعريش جوا ومنها لرفح برا ثم دخول غزة من المعبر البرى مرورا بالعديد من البلدات وصولا لغزة رمز العزة.. بدا كل شيء باعثا على الدهشة. يقول محمد مصطفى مراسل وكالة أنباء الشرق الأوسط: كان المشهد منذ دخولنا رفح الفلسطينية مثيرا للشجن، فلم نكد نسلك طريقنا حتى فوجئنا بأعداد هائلة من إخواننا الفلسطينيين يقفون على جوانب الطرق التى نمضى فيها رافعين رايات النصر، مرددين شعارات الترحيب وعيونهم مليئة بالأمل والود. أهالى غزة خرجوا على سجيتهم فى الشوارع وشرفات المنازل يحتفلون بقدوم أشقائهم العرب.. لم يثنهم أزيز الطائرات الحربية الإسرائيلية التى تضرب مناطق غزة ولا أصوات الصواريخ التى تتساقط عليهم.. كان سائق الحافلة طوال الطريق يدير الراديو ليستمع ونحن منه للأخبار.. مررنا بمنتصف الطريق وعبرنا منطقة الزيتون ثم ما لبثنا بعد قليل وسمعنا من الإذاعة بسقوط صواريخ على تلك المنطقة وسقوط شهداء وجرحى. واصلنا رحلتنا حتى وصلنا لتقديم واجب العزاء فى الشهيد أحمد الجعبرى القائد القسامى المغوار.. ثم دلفنا للقاء رئيس وزراء الحكومة الفلسطينية المقالة إسماعيل هنية الذى جلس متوسطا أشقاءه وزراء الخارجية العرب وأمين عام الجامعة العربية ووزير الخارجية التركى. وخلال لقائه مع وفد وزراء الخارجية العرب ونظيرهم التركى، عرض إسماعيل هنية أبعاد الموقف الراهن، وحتمية رفع الحصار عن قطاع غزة لكن وجهه كان مليئا بالتفاؤل.. وبدا جليا حرصه على تحية مصر وقيادتها لدعمهم لصمود الشعب الفلسطينى.. هذا التقدير للدعم والدور المصرى لم تعكسه فقط كلمات هنية وقادة حماس بل لمسناه كلاما وشعورا من كل شقيق فلسطينى التقيناه أو تحاورنا معه. لكن ما هز مشاعر الوفد العربى والوفد المصرى بشكل خاص كان عندما تفقدنا مقر الحكومة الفلسطينية فى غزة، والذى هدمه القصف الإسرائيلى كليا.. فوق أطلال المقر الحكومى المدمر فوجئنا بعلم مصر مرفوعا فوق الفوهة التى سقط فيها الصاروخ الإسرائيلى.. كان علم مصر خفاقا وبجواره العلم الفلسطينى وخلف كل منهما مقاتل فلسطينى بكامل عتاده. كانت رسالة للإسرائيليين بأن تدميرهم للمبانى لن يجعل العلم الفلسطينى ينتكس.. توجهنا بعد ذلك لتقديم العزاء فى شهداء أسرة الدلو التى لقى أحد عشر من أبنائها بينهم خمسة أطفال وسيدتين مسنتين مصرعهم فى قصف وحشى لمنزلهم خلال العدوان الإسرائيلى على القطاع.. وبينما كنا نتفقد المنزل المدمر إذ بنا نتساءل كيف وصلت إسرائيل لهذا المنزل الكائن بشارع ضيق بدون تلقيها معلومات من مصادر موثوقة.. ولم نكد نركب الحافلة التى تقلنا حنى سمعنا خبرا مفاده أنه تم إعدام ستة عملاء. توجهنا بعد ذلك لمحطتنا الأخيرة فى مستشفى الشفاء بغزة؛ حيث تكتمل مشاهد المأساة التى يعيشها فلسطينيو قطاع غزة منذ أكثر من أسبوع.. المئات من الشباب يحيطون بمبنى المستشفى.. معظمهم ليس لهم أقارب مصابون بل يتطوعون لتقديم المساعدة. دخلنا بصعوبة وسط الزحام للمبنى المتواضع لنجد عشرات المصابين وأشلاء الضحايا وعشرات الأطباء.. الأسرة فى كل مكان تعج بالجرحى.. والأطباء يحاولون إنقاذ أرواحهم بكل جد لكن بأجهزة متواضعة.. ينامون على أسرتهم والجروح تملأ أجسادهم.. وما أن يفيق أحدهم حتى يرفع يده بعلامة النصر.. رائحة الدماء تغلف المكان. أنظر للوجوه أجد إصرارا ولكن أبدا لم أر دموعا تذرف.. أب يحتضن ابنته الصغيرة التى استشهدت بصواريخ الغدر.. يحتسبها عند الله شهيدة.. يتماسك ويمسك هاتفه ليحادث أخاه ويقول له إن هدى ابنته استشهدت، ويطالبه بالمجيء لدفنها.. والد طفلة أخرى لقيت مصرعها جراء القصف كنا نواسيه ففاجأنا بقوله: " لدى ثلاثة أبناء آخرون كلهم فداء لفلسطين". وزير خارجية تركيا أحمد داود أوغلو الذى رافق الوفد العربى فى زيارة غزة ومعه بلال نجل رئيس الوزراء طيب أردوغان لم يتمالك نفسه، واحتضن والد أحد الشهداء لينخرط فى البكاء من هول ما شاهده. أنهينا زيارتنا للمستشفى فى المساء لنبدأ رحلة العودة مرورا ببوابة رفح ووسط حراسة من رجال القوات المسلحة والأمن المصرى الذين رافق عدد منهم الوفد الوزارى العربى خلال زيارته لغزة، أنهينا الزيارة يعتصرنا الألم على ضحايا العدوان الإسرائيلى، ويملؤنا التفاؤل بأن الفلسطينيين صامدون لن ينهزموا؛ لأن الشهادة لديهم أحب من الحياة فى ظل الاحتلال... دموعهم لم تذرف رغم حرب الطائرات والصواريخ ورغم الحرب النفسية الهائلة التى تمارسها إسرائيل؛ لأنهم يؤمنون أن إرادتهم لن تنكسر.