عذرًا أن نبدأ بقول: إن الحيوان أحيانًا يُمكن أن يُفهم منه ما يريد، سواء فى حاجته الأساسية، أو مطالبه النفسية من إطلاق حريته وعدم المسِّ بعشِّه وعرينه. وأعتقد أن هذه المقدمة تأكيد أن بنى البشر أولى بالإيمان المطلق فى أحقيتهم بالعيش الكريم، والاعتقاد بأنهم يعبرون عن حاجاتهم، التى سُخِّر لأجلها ما فى السماوات والأرض، بمحض فضلٍ من الله المنَّان جلَّ فى علاه (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ). وأى متأمل فى القرآن الكريم سيجد أن ثمَّة وظائف ثلاث لكل المخلوقات البشرية فى هذه الحياة الدنيا، أولها: العبادة، لقوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونَ). وثانيها: العمارة، لقوله تعالى: (هُوَ الَّذِى أَنْشَأَكُمْ فِى الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا لِيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ). وثالثها: الاكتشاف، لقوله تعالى: (وَسَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا). فالعبادة بشمولها تمتد من العقيدة بوحدانية الله وأحقيته التامة بالعبادة، وأداء الواجبات الشرعية، والامتناع عن المنهيات الموبقة، وكذا أداء الحقوق والمسئوليات، والخُلق مع الله والناس والنفس. والعمارة هى الوظيفة النابعة من هذه العبادة، الشاهدة على أن هذه الأمة المؤمنة تعمل وتجتهد وتصابر وتناضل لتعمر الحياة بالخير فى النفس، والحضارة المُعينة للبشر فى ساحة الحياة. ثم وراء ذلك الاكتشاف الواسع لما ينفع الناس من استخراج الطعام والزينة والعناصر المبهجة لتتميم مفهوم العبادة الشاملة. ومع هذه العظمة التى تجلَّى بها الإسلام ليعيش الإنسان عيشة كريمة كما أرادها الله نجده يكفل الحريات العامة بدءًا من اختيار الدين بلا إكراه انتهاءً بأحقية التوصية بما شاء قبل الوفاة. وما بين هذا وذاك ساحة عريضة من المبادئ والمواقف لا تملؤها المجلدات، ولا تحصيها الخطب والمحاضرات، عن مساحة التعبير، والاعتراض، والمناقشة، والمحاورة، والمجادلة، بين الله تعالى وخلقه، والأنبياء وأقوامهم، والرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، والخلفاء الراشدين ومحكوميهم، والفقهاء والتلاميذ، والقُضاة والولاة، والقادة وأتباعهم، والنساء والرجال، والصغار والكبار، فى سلسة حضارية لا تنتهى ومعين معرفى لا ينضب، يظهر سمو الدين الإسلامى، وعنايته الكبرى بأكبر القيم الإنسانية رقيًّا وازدهارًا. واليوم انتكست قيمة الحوار والتعبير، والمحاورة والمجادلة، رغم سنِّ القوانين التى تزعم بأنها تكفل حرية التعبير، والاعتراض السلمى والديمقراطى!. والسبب: أنها تحاول جاهدة تحوير مضامين حرية التعبير إلى مصطلحات عائمة كالمس بسيادة المجتمع، ونظام البلدان، وكأن الجماهير العريضة التى تطالب بإصلاحات حياتية ونظامية ليست هى المجتمع!. "إن عالم الحواس عالم مفلس"، عبارة قالها المفكر الكبير: (د. عبد الوهاب المسيرى)، لخَّص بها كيف اختُزل الإنسان فى المادة فقط، وكأنَّ حواسه كلها لا تبحث إلا عن الطعام والشراب، والكرسى الذى يجلس عليه سحابة يومه، لينال منه آخر الشهر لقمة تعبه فقط. إن الإنسان بطبيعته (متعدد الأبعاد) كما يقرر علماء الطبيعيات والفلسفة، فهو يحس ويقرأ، ويتأمل، وينعتق، ويتشيَّأ، وينقلب، وما لم يشعر أن إمكانياته النقدية والجمالية، ومطالبه النفسية والاجتماعية وحتى الاقتصادية والسياسة مرَّشدة فى نظام يكفل له كل ذلك، فإنه سيدرك أنه يعيش فى حالة "استعمار عالم الحياة"، كما يقول (هابرماس). وحلُّه الوحيد للخروج من هذا الاستعمار المواجهة بالتعبير، سواء محمولًا على الأكتاف فى الساحات، أو صارخًا فى اتجاهات الفكر المعاكس فى الفضائيات، وبعدها تقرر الجماهير موقفها!! ------------------------ رئيس منظمة فور شباب العالمية [email protected]