كلما أتى موسم الحج تذكرت هذه القصة؛ ولكنها فى هذا العام، وفى ظل حالة الاستقطاب المقيت التى يعيشها المجتمع المصرى كانت أشد وطأة وأعظم أثرا. ففى أجواء سياسية واجتماعية مضطربة، وفى ظل وطن ومجتمع أنهكتهما الممارسات العنصرية البغيضة، وُلد المناضل والباحث عن الحرية و"أشد السود غضبا فى أمريكا" -كما يحلو للبعض أن يطلق عليه- ليخط بحياته القصيرة العريضة، التى لم تمتد لأكثر من أربعين عاما -بين مايو 1925 حتى فبراير 1965- فصلا مهما فى تاريخ الولاياتالمتحدة للتحول به، كما يقول "من الكابوس الأمريكى إلى الحلم الأمريكى".. حلم يتسع للإنسان بغض النظر عن لونه وعرقه ودينه.. حلم يرتكز على قيم العدالة الاجتماعية والمساواة فى إطار حقوقى إنسانى عادل وشامل. كانت نقطة دخوله معترك الحياة غير بعيدة عن نقطة خروج أبيه "الأسود" الذى لقى حتفه على يد مجموعة من البيض، هشموا رأسه ووضعوه فى طريق حافلة أتت على البقية الباقية من أنفاسه؛ فورث عنه، وعن أمه، التى تنحدر أصولها من جزر الهند الغربية، وإخوته الثمانية وعشيرته "السوداء" ومجتمعه "الأسود" كل مشاعر الكراهية ضد التمييز العنصرى، حتى استحال هو ذاته فى يوم ما أحد العنصرين المتطرفين، وواحدا من أبرز الدعاة إلى العنف ضد البيض. وقعت الأم بعد الحادث فريسة المرض النفسى الذى أسلمها إلى إحدى المصحات العقلية لتقضى فيها ما تبقى لها من أيام؛ فتجرع مالكولم وإخوته الثمانية مرارة فقد الأب والأم معا، وأصبحوا أطفالا تحت رعاية الدولة التى قامت بتوزيعهم على منازل مختلفة لتزداد غربتهم ويتضاعف شعورهم بالوحدة والعزلة. فى هذه الأثناء التحق مالكولم بمدرسة قريبة كان فيها هو الزنجى الوحيد، ولكنه الأكثر نبوغا وتفوقا وإصرارا على تحقيق حلمه فى دراسة القانون للنضال من أجل الحقوق المدنية للمواطنين السود، إلا أن الحقد "الأبيض" حال بينه وبين ما يريد، ما دفعه لترك المدرسة والتسكع بين المهن المختلفة "التى تليق بالزنوج" كنادل بأحد المطاعم، ثم عامل فى قطار، إلى ماسح أحذية بأحد المراقص. فى هذه الآونة، استهوت الصبى اليافع حياة الطيش والضياع فراح يسدر فى تعاطى الخمر والمخدرات، وتنقل بين الاتجار فى المخدرات إلى سرقة المنازل والسيارات حتى وقع مع مجموعة من رفاقه فى قبضة الشرطة، ولما يبلغ الواحدة والعشرين من عمره، فأصدروا بحقه حكما مبالغا فيه بالسجن لمدة عشر سنوات بينما لم تتجاوز فترة السجن بالنسبة للبيض خمس سنوات. كانت جدران السجون أكثر حفاوة بمالكولم من جدران الحياة، حيث عكف على القراءة لمدة تصل إلى خمس عشرة ساعة يوميا، وتحول فى أثناء فترة سجنه إلى ما يُعرف بمعتقدات المسلمين السود، وهى حركة دينية كانت تؤمن بانفصال الأعراق؛ وفى أعقاب خروجه من السجن تحول مالكولم إلى الإسلام السنى وكان من أبرز دعاته، وربما صاحب الفضل الأكبر فى انتشار الإسلام بين الأمريكان الزنوج حتى يومنا هذا. وفى عام 1964، قرر مالكولم الخروج للحج، ليعود بشاكلة غير التى خرج بها وبأفكار تجب ما قبلها، والتى كانت ترتكز على ضرورة الفصل بين البيض والسود لعدم قدرتهما على التعايش؛ فبمجرد عودته للولايات المتحدة كتب مالكولم رسالته الشهيرة "رسالة من حاج Letter from Hajj"(أوردتها "أليكس هاليبى" فى كتابها: Malcolm X)، التى عرض فيها لأتباعه التغيرات "التى لا يمكن مقاومتها"، حسب وصفه، والتى اجتاحت قلبه وعقله جميعا فى أثناء رحلته الروحانية بالرحاب المقدسة بلغة لا تخلو من الصدمة والدهشة فى آن. وكان مما جاء بالرسالة: "لم أشهد من قبل مثل هذه الحفاوة بين البشر على اختلاف أجناسهم، ولم ألمس قط تلك الرابطة الروحانية والأخوة الحقيقية التى تجمع شتاتهم؛ كان ما عاينته من الممارسات بين الناس من كل العرقيات والألوان هنا فى هذه البقعة العتيقة المقدسة، وفى بيت إبراهيم ومحمد وكل الأنبياء، مختلفا بطريقة مذهلة ما جعلنى أعيش الأسبوع الماضى كالمسحور الذى فقد عقله، أو كالأبكم الذى فقد كل قدرة على الكلام... كنا نختلف فيما بيننا فى لون البشرة، بداية من الأشقر ذى العيون الزرقاء وصولا إلى الأفارقة السود، إلا أن هذا التنوع الظاهرى لم يمنعنا من التوحد الباطنى على أداء المشاعر نفسها.. لقد بددت هذه التجربة ما أوصلتنى إليه تجربتى ببلادنا بشأن استحالة التعايش بين البيض وغير البيض". ويمضى مالكولم فى رسالته: "لقد أجبرتنى تلك التجربة على إعادة ترتيب كافة الأفكار التى كنت أعتنقها، وأن أكفر بما آمنت به من قبل.. كانت كل ساعة تمر علىّ بهذه الرحاب المقدسة تمنحنى رؤى جديدة عما يجرى هنا (بأمريكا) بين السود والبيض.. إننى (الآن) على يقين تام بأن الأجيال الجديدة من المواطنين البيض سوف تعاين الكتابات التى افترشت الجدر والحوائط بالشوارع والأماكن العامة، والكثير منهم سوف يقرر أنه لا خلاص إلا عبر الطريق الروحانية إلى الحقيقة، الطريق الوحيدة التى تبقت لأمريكا لتجنب العواقب الوخيمة التى تقودها إليها العنصرية بسرعة مخيفة". مات مالكولم بعد كتابة هذه الرسالة بعام واحد بستة عشر رصاصة اخترقت جسده النحيل الطويل، وهو واقف على قدميه بقاعة المؤتمرات بمدينة نيويورك يلقى درس التوحد على مصلحة الوطن ونبذ التمايز العنصرى والاستقطاب السياسى والتشرذم المجتمعى الذى تعلمه من الحج لبناء أمريكا جديدة، وهو يعلمنا كيف يموت الرجال وقوفا فى ميادين العمل يدافعون عن مبادئهم وأفكارهم.. ويا ليت قومى يعلمون! ----------------------- أحمد بركات [email protected]