ربما خرج قائد الانقلاب العسكري من زيارة برلين المشئومة بأقل الخسائر، ونجا من الكمين الذي وقع فيه الرئيس السوداني عمر البشير في جنوب إفريقيا، إلا أن رحلة أخرى إلى أوروبا حيث المملكة المتحدة تلبية لدعوة رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون قد لا تمر مرور الكرام ويسقط معها السيسي في فخ التسريبات التي خرجت بسخاء من مكتب عباس كامل لتلاحقه جرائمه التي ارتكبها بحق الشعب المصري في بلاد الضباب. ومع اللحظات الأولى للإعلان عن الدعوة التي تلقاها قائد الانقلاب العسكري من الجانب البريطاني توالت ردود الأفعال الغاضبة في الداخل والخارج من استقبال من تلطخت يداه بدماء الشعب المصري ودهس على الديمقراطية - التي يتغنى بها الإنجليز - بمجنزرات الانقلاب، وسحق إرادة الصناديق ببيادة جنرالات المصالح، في موقف يبدو مشابهًا لما صاحب السيسي في رحلته إلى ألمانيا وانتهت إلى فضيحة مدوية ونتائج صفرية.
كمين الضباب الأجواء في عاصمة الضباب على وجه التحديد لن تمر بردًا وسلامًا على قائد الانقلاب خاصةً لما تمثله لندن من بؤرة الحدث والشاهد على الكثير من مراحل الصراع بين الشرعية والانقلاب، بداية من تقرير جينيكنز حول أنشطة الإخوان والذي برأ الجماعة من مزاعم الإرهاب، وانتهاءً بتأكيد أحد أكبر مختبرات التحليل الصوتي لصحة تسريبات السيسي، وهو ما يستوجب ملاحقة عصابة الانقلاب جنائيًّا.
إلا أن السيسي دون أن يتعلم درس برلين أو يستوعب بعد صفعة فجر العادلي استقبل كيم داروك مستشار رئيس الوزراء البريطاني لشؤون الأمن القومي، ليتسلم دعوة رئيس الوزراء "ديفيد كاميرون" لزيارة بريطانيا لمواصلة التشاور والتنسيق بشأن تطوير العلاقات الثنائية وتناول القضايا الإقليمية.
الزيارة المزعومة لا تعبر عن أهمية السيسي في عيون الغرب في ظل السخط الشعبي والرسمي المصاحب لقائد الانقلاب أينما حل وارتحل، وإنما تعكس بجلاء النظرة التي يبرر بها حلفاء الحرب ضد الإرهاب المزعوم استقبال القاتل دون خجل أو تردد، باعتباره شرطي الشرق الأوسط في وجه "المد الإسلامي" للحيلولة دون وصول أي فصيل يحمل المرجعية الإسلامية إلى سدة الحكم.
تلك الحقيقة لم ينكرها داروك في لقائه مع قائد الانقلاب، والذي أكد أنه التقي السيسي لبحث تعزيز العلاقات الثنائية في مجال مكافحة الإرهاب، وهي البضاعة الفاسدة التي لا يملك العسكر سوى ترويجها الداخل والخارج، ويؤمن عليها الغرب لتحقيق كامل أهدافه في بلدان الصراع وبؤر التوتر في العراق والشام وليبيا واليمن وتبرير غاراته التي تمارس كافة أشكال التطهير العرقي في سوريا لتغيير خريطة المنطقة بأكملها لصالح أجندة الاستعمار وحلفائه.
المتحدث الرسمي باسم الانقلاب كشف أن مستشار الأمن القومي البريطاني تناول تطورات الأوضاع الإقليمية في المنطقة، لا سيما ما يتعلق بالأزمات وتردي الأوضاع الأمنية في كل من سوريا وليبيا، فضلاً عن العمليات الإرهابية في العراق، وأعرب عن تطلعه إلى الاستماع لرؤية السيسي في هذا الشأن.
وأوضح أن السيسي روج ذات البضاعة بترديد مزاعم أن جميع التنظيمات الإرهابية المنتشرة في بعض دول المنطقة تستقي أفكارها المتطرفة من ذات المصدر وتحاول الترويج لأفكار تجتذب الشباب عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وهو الأمر الذي أسفر عن انضمام الكثير من المقاتلين الأجانب إلى هذه الجماعات المتطرفة بهدف تدريبهم ثم عودتهم إلى دولهم الأصلية لنشر فكر العنف والإرهاب والتدمير.
هنا بريطانيا وتعد بريطانيا أحد أهم العناصر التي تملك أدلة تدين الانقلاب وتفند أكاذيبه وترد بالوثائق على مزاعمه، وكانت البداية عبر تقرير لجنة جينكينز التي أوكل إليها ديفيد كاميرون مهمة التحقيق في نشاط جماعة الإخوان المسلمين وحركات الإسلام السياسي، بناءً على مطالب من الملك السعودي الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، وبالفعل تحركت اللجنة التي ترأسها سفير بريطانيا السابق لدى المملكة وعلى مدار العام من أجل جمع الأدلة والوثائق والبراهين التي تدين الجماعة وفتحت تحقيقات موسعة مع قيادات العمل الإسلامي في بريطانيا، إلا أنها انتهت إلى لا شيء.
وأمام النتائج الصفرية للجنة جون جينكينز لجأت بريطانيا في أكثر من مناسبة لتأجيل الإعلان عن نتائج التحقيق والتي كشفت صحيفة "الإندبندنت" عن نتائجه بتبرئة ساحة جماعة الإخوان المسلمين، وعلى خلفية التسريبات استدعت الأسرة المالكة في السعودية قبل رحيل العاهل عبد الله ولى العهد البريطاني الأمير تشارلز في زيارة بالغت فيها الرياض في حفاوة الاستقبال وأغدقت على الأمير من أجل تغيير بوصلة التقرير وإجراء تعديلات جوهرية على النتائج، إلا أن شيئًا لم يتغير وتكشفت عورات الانقلاب أمام الرأي العام العالمي حول الحرب المشبوهة على الإرهاب والانقلاب على الشرعية، بعدما عزا وزير الخارجية البريطاني السابق السير مالكوم ريفكيند، تأجيل نشر التقرير إلى "مشاكل دبلوماسية" تتصل بنتائجه، وقال: "لدينا عدد كبير من الحكومات الصديقة التي تعارض "الإخوان المسلمين".
وفي الوقت نفسه عدد آخر يدعمها". وأكد لورينزو فيدينو - الخبير في شؤون "الإخوان المسلمين"- والذي أسهم في إعداد تقرير السير جون وخلص إلى أن الإخوان ليسوا منظمة إرهابية، لكنه دعا التنظيم في الوقت نفسه لاتخاذ مواقف أكثر شفافية بخصوص علاقاتهم مع تجمعات أخرى تشمل جمعيات خيرية وأئمة مساجد، وأن حكومة كاميرون تعمدت إرجاء نشر نتائجه؛ لأنه مسألة ساخنة وحساسة لكونه يتصادم مع الموقفين السعودي والمصري.
اعتقال السيسي ومن جينكينز إلى "جيه بي فرينش أسوشييتس" تبدو الصورة أكثر سودواية فى وجه السيسي، حيث تجري الشرطة البريطانية حاليًا تحقيقًا في الادعاءات بارتكاب الانقلاب العسكري انتهاكات لحقوق الإنسان من بينها ممارسة التعذيب بحق أكثر من 40 ألف معتقل سياسي في سجونها.
وكشف موقع "ميدل إيست آي" أن الشرطة البريطانية تسلمت نسخة من التحليل الصوتي المهني الصادر عن مختبرات "جيه بي فرينش أسوشييتس" في لندن، وهو التحليل الذي انتهى إلى تأكيد صحة التسجيل الأول الذي بثته "مكملين"، وكذلك صحة الصوت المنسوب إلى ممدوح شاهين، بما يؤكد في النهاية أن عملية اعتقال ومحاكمة مرسي لم تكن قانونية، وأن الانقلابيين في مصر زوروا الأدلة، وزوروا مكان الاحتجاز.
وأكد الموقع أن التسريب الذي يؤكد المختبر الجنائي المستقل أنه صحيح يعني أن السيسي والدائرة المقربة منه متورطون في انتهاك القوانين، وهو ما يعني أنه في حال قبول هذه البيانات من قبل القضاء في بريطانيا فإن كافة الوزراء في الحكومة السابقة، وبعض الوزراء الحاليين، وعددًا كبيرًا من جنرالات الجيش المصري قد يتم اعتقالهم إذا وطئت أقدامهم أراضي بريطانيا.
ويمثل تقرير المختبر الجنائي المستقل والمتخصص باختبارات الصوت تطورًا جديدًا في اتجاهين: الأول محاكمة الرئيس المصري محمد مرسي والعيوب التي تشوبها، بما يجعلها متناقضة مع المعايير الدولية للمحاكمات العادلة، فضلاً عن أنها تمثل انتهاكًا للقانون المصري، والاتجاه الثاني وهو الأهم، أن الدليل الجديد والمستقل قد يؤدي إلى ملاحقة عدد كبير من جنرالات ورموز الانقلاب العسكري في مصر الذين تؤكد التسريبات تورطهم في انتهاكات للقوانين ولحقوق الإنسان ولسير العدالة وتدخلهم بشكل سافر في سير القضاء فضلاً عن تزوير الأدلة.
ردود الأفعال ومع أنباء الدعوة البريطانية توالت ردود الأفعال الغاضبة؛ حيث أعرب نائب رئيس "رابطة مسلمي بريطانيا" محمد كزبر عن دهشته الشديدة من الدعوة، وخاصة لتوجيهها بعد الحكم بالإعدام على مرسي.
وقال كزبر إن بريطانيا تقف في العادة ضد أحكام الإعدام، وبالتالي كنا نتوقع منها موقفًا أقوى في مواجهة السيسي بعد الحكم بإعدام مرسي، إلا أنها قامت بدعوة قائد الانقلاب لزيارتها بدلاً من ممارسة الضغط عليه ومقاطعته.
كزبر وصف الدعوة بأنها تعكس نفاق الدول الغربية، وأن الحكومة البريطانية تولي التجارة أهمية أكبر من الديمقراطية وحقوق الإنسان التي تروجها كذبًا.
بدورها قالت نائبة مدير منظمة العفو الدولية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا حسيبة حاج صحراوي، إن دعوة السيسي لزيارة بريطانيا مثيرة للدهشة، مضيفة: "نرغب في رؤية كاميرون وهو يناقش مع السيسي وجهًا لوجه انتهاكات حقوق الإنسان في مصر".
من جانبه، استنكر المحلل السياسي الجزائري محمد العربي زيتوت الدعوة التي وجهتها الحكومة البريطانية إلى الجنرال عبد الفتاح السيسي لزيارة المملكة المتحدة، مشيرًا إلى أن الشعوب المستضعفة في بلاد المسلمين تراقب ذلك بمرارة ولكنها لن تنساه.
وقال زيتوت- في تدوينة عبر صفحته الرسمية على موقع "فيس بوك" - "بدعوتها السيسي لزيارتها، تكون حكومة بريطانيا قد التحقت بكبرى الحكومات الغربية التي استقبلت جنرالاً انقلابيًا قاتلاً وطاغية ومعتوهًا".
وأضاف: "ترى شعوبنا ذلك بمرارة ولكنها لن تنساه.. لن تنسى الشعوب المستضعفة في بلاد الإسلام، أن الغرب الاستعماري خنقها ونهبها وخربها لعقود طويلة، ثم بعد أن اُضطر للرحيل نصًب عملاءه لقهرها ومواصلة نهبها وإضعافها".
وتابع المحلل السياسي البارز: "كلما انتفضت الشعوب فأسقطت عميلاً فاسدًا وخائنًا استبدله الغرب بآخر، ربما كان أبشع وأفظع منه وأشد جرمًا وإجرامًا".
وأوضح زيتوت: "كل هذا والغرب يملأ الدنيا صخبًا وصراخًا بدعاوى الديمقراطية وحقوق الإنسان، مزاعم أكدت الأحداث والسنين أنها كذب على الناس في بلدانه، واستغفال لبعض العقول في بلداننا البائسة المتألمة، أيما ألم، من خبث وخداع ومكر يستمر ويتعاظم، بلا هوادة، منذ قرون".
وتأتي الدعوة البريطانية المثيرة للجدل بعد ساعات من تنديد الصحف البريطانية بالأحكام المسيسة والجائرة في مصر والتي تفضح النفاق العالمي، وكشفت صحيفة "جارديان" تناقض الساسة بالبيت الأبيض وبريطانيا بين الهتاف بمبادئ ومسارات ثورات 2011، الصمت المطبق الآن بعدما تم الحكم على أول رئيس ينتخب بطريقة ديمقراطية بمصر بالبقاء مدى الحياة وراء القضبان، موضحًا أن العديد من الأشخاص اعتبروا الحكم بمثابة آخر مسمار يدق في نعش مبادئ وأحلام الربيع العربي.
وحذرت الصحيفة من أن النفاق الذي يوجد في قلب الموقف الغربي من أحكام الإعدام بمصر، قد يظهر قريباً للمهمَّشين والغاضبين بالشوارع المصرية، مشددةً على ضرورة احتضان الأشخاص المتمسكين بمبادئ ثورة 2011، لا سيما الحرية والديمقراطية والعدالة، بدل التخلي بسهولة عنهم خشية خروج الأوضاع في مصر عن السيطرة.
"جارديان" شددت على أن مبادئ الربيع العربي ما زالت حاضرة ولن تغيب عن الأذهان، وبأن الملايين من المصريين يرغبون في مواصلة المشوار لتحقيق تلك المبادئ بحماسة وبشكل سلمي، وفى حال مواصلة المجتمع الدولي تخليه عن هذه المبادئ فإنه سيوفر بذلك كافة الأجواء لانتشار الفوضى بالشرق الأوسط.