مع الساعات الأولى للانقلاب على أول رئيس مدنى منتخب فى طريق مصر، انكشفت عورات العسكر، ووضح كيف يستعر صراع الصقور داخل المؤسسة التى توارت طويلا تحت لافتة "ممنوع الاقتراب والتصوير"، حتى نخر الفساد أركانها وضربت المصالح الشخصية الشقاق بين قوادها. "مهرجان التسريبات" الذى دشنه الانقلاب العسكرى فى أكثر من مناسبة وبأكثر من صوره، منذ حوار قائد الانقلاب مع "الذراع الإعلامي" ياسر رزق، وما تلاها فى اجتماع السيسي أفراد عصابته فى أحد دور القوات المسلحة، وقضائح مكتب رجل التسريبات الأول عباس كامل، يؤكد أن المؤسسة تنشطر بين مجموعة من القادة الحاليين والسابقين فى صراع محموم على الغنائم. وعلى الرغم من تيقن أنصار الشرعية ومناهضى الانقلاب العسكرى أن الرهان الثورى على الشارع لا على غيره، وأن إغلاق قناة أو تغير مواقف الدول الداعمة للعسكر هنا أو هناك، أو توقف المعونات الخارجية لآسباب متفاوتة ومتباينة، أو حدوث تحولات كبيرة فى خريطة العسكر، وأن الميدان سيبقى وحده هو الصخرة التى تتحطم عليها الطواغيت وتسقط على عتباتها الانظمة الاستبدادية، إلا التسريبات بقى لغزا محيرا حول الجهة التى تقف وراءها وأهدافها. ربما لا يدرك البعض على وجه الدقة من يقف وراء التسريبات، وكيف خرجت، ولماذا قرر أن يحركها فى ديسمبر من العام المنصرم ثم ترك الصمت يخيم قرابة عام حتى عاد ليضئ المسرح من جديد على مشهد العصابة وهى تبحث وتناقش وتحلل وترتب كيفية تزوير الأوراق وتلفيق الاتهامات وتعمية الحقيقة، وتبحث سبل سلب أموال المانحين فى بلاد النفط. إلا أن التوقيت فى المرة الأولى الذى رافق حوار قائد الانقلاب مع الصحفى الانقلابى "صنيعة العسكر" ياسر رزق أو تلك التى كانت فى أحد دور القوات المسلحة والحوار الشهير بين السيسي و"عمر" حول الأذرع الإعلامية والجاذب للستات، جاءت لتعكس حجم الفرقة بين رفاق المشهد وعدم الاتفاق على سيناريو واحد، والرغبة فى الإطاحة بالسيسي من المشهد قبيل الانتخابات الرئاسية. وأشارت أصابع الاتهام إلى رجال الحرس القديم، والحديث عن أنصار عنان ورجال طنطاوى وزبانية السيسي ومريدي التهامى وفلول شفيق، ولكن كانت الصعوبة بمكان فى الإطاحة برجل الانقلاب قبل أن يحمل فى عنقه وحده إرث الدم كاملا ويتحول إلى كبش فداء على وقع مصالحة أو محاولات لرأب الصدع، فضلا عن استناده على من ارتبط بهم نسبا ومصاهرة لتأمين ظهره من انقلاب أخر أو مكر لا يأمنه. ربما كان هذا هو التحليل الأقرب إلى الواقع آنذاك، إلا أنه الآن وقت استتب الحكم لناقض اليمين وخائن العهود، يأتى الحديث عن تسريبات مكتب السيسي والتى وقعت أحداثها مطلع العام الجارى، ليفتح الباب أمام تكهنات أوسع وتوقعات أبعد، لتضئ الكاميرات على دوافع الصقور فى خروج التسريبات، فى تحليل ربما يكشف عن الرجل الذي يحرك الموقف: سامي عنان يبقى رئيس أركان الجيش المصري السابق سامي عنان أحد أبرز القادة ذات النفوذ الراسخ فى القوات المسلحة بالنظر إلى قوة شخصيته وطول المدة التى بقاها فى المنصب، ما يبرهن على وجود قادة تدين له بالعرفان وترغب فى تسطره المشهد من جديد. وسبق مشهد التسريبات رفض حزب سامى عنان -الرجل الأقوى في الجيش المصري سابقا- وإجباره على الخروج من سباق الرئاسة ثم رفض إنشاء حزب سياسي يمر من خلاله إلى المشهد السياسي، وهو ما يعكس للوهلة الأولى تصفية الحسابات وحرب العصابات ومعركة الوجود أو البقاء داخل المؤسسة، فضلا عن تسرب بعض الأنباء التى تؤكد رفض عنان لما حدث مع الرئيس الشرعى وغرز الجيش فى مستنقع السياسة. شفيق عاد لينتقم مع سقوط الفريق أحمد شفيق –أحد أركان دولة مبارك- فى الانتخابات الرئاسية أمام الرئيس الشرعي محمد مرسى رغم محاولات التزوير، وهروبه إلى منفاه الاختيارى فى دولة المؤامرات، وشنه حربا شرسة على النظام المنتخب، شعر وزير الطيران الأسبق أنه سيكون الرقم الأهم حال الانقلاب على الشرعية، إلا أنه وجد نفسه منبوذا مطرودا وليس له مكانا فى جمهورية العسكر الثانية. شفيق هو حامل أختام الدولة العميقة ورجلها الأول، وهو ما يمتعه بنفوذ واضح داخل مؤسسات الدولة، فضلا عن كونه أحد أبناء المؤسسة العسكرية الذى شغل منصب قائد القوات الجوية وعضو المجلس العسكري لفترة ليست بالقصيرة، وهو الأمر الذى يضع رجل مبارك فى مقدمة المتهمين بالوقوف خلف التسريبات من أجل الانتقام من الطريقة التى تعامل بها الانقلاب معه، ورغبته فى اعتلاء كرسى الحكم عبر فضح قائد الانقلاب والتشهير بعصابته. المخابرات تتحرك فى أعقاب توالي التسريبات صدر قرارا مفاجئا بإقالة اللواء فريد التهامي من منصبه كرئيس لجهاز المخابرات العامة، وهو القرار الذى أثار العديد من علامات الاستفهام حول دور الرجل فى التسريبات التى أربكت عصابة الانقلاب وهزت ثقة –تلميذه السيسي- فى اتباعه، مع تأكيد المحللن أن الجهاز بأكمله يعمل ضد قائد الانقلاب الذى تعمد تهميش الجهاز لصالح المخابرات الحربية التى تسيطر على إدارة البلاد. ويبرز فى المشهد أسماء مراد موافى الرجل الذى أُجبر على عدم خوض السباق الرئاسى، إلى جانب اللواء محمد رأفت شحاتة الذى كلفه الرئيس محمد مرسي بأعمال رئيس المخابرات العامة المصرية، وهو أحد الكوادر المهمة داخل الجهاز، والتي لها اتصالات مباشرة مع كافة الفصائل الفلسطينية، قبل أن يطيح به الانقلاب، لحساب أستاذ السيسي –فريد التهامي- والذى انقلب عليه فيما بعد لصالح خالد فوزي. صدقى صبحي مع تزايد الاحتمالات حول رجل التسريبات، رجح الخبراء فكرة ضلوع وزير دفاع الانقلاب صدقى صبحي فى الأمر مع تردى أحوال البلاد وانهيار الاقتصاد وزيادة الهوة المجتمعية ودخول الوطن فى نفق مظلم، ما قد يدفعه إلى تصدر المشهد وتقديم السيسي وعصابته قربانا للثوار من أجل مصالحة يحلمون بها ويستجدونها. ورجح من الطرح غياب الرجل القوي داخل الجيش عن مشهد التسريبات بأكمله رغم ظهور السيسي نفسه فى آخر التسريبات وما سبقها، ورئيس أركانه محمود حجازي، ومدير مكتبه عباس كامل، ورجل الأعمال القذرة ممدوح شاهين، وقائد القوات البحرية، إلا أن صبحي بقى خارج المشهد وهو ما يثير تكهنات حول رغبته فى التخلص من عبأ السيسي وزبانيته والانخراط فى مصالحة تنقذ البلاد من تلك الهوة العميقة، والتى تبقى فرصة انجازها فى وجود قائد الانقلاب صفر. رجال من دهب البعض ذهب إلى ضلوع الشرفاء من أبناء المسلحة فى فضح ممارسات القادة الفاسدين، والتأكيد على أن لعبة السياسة ليست فى مصلحة الجيش خاصة وأنه فقد الظهير الشعبي الداعم والمساند، وبات فى أكثر الأحيان يقف فى مواجهات لا تخصه انتقصت كثيرا من رصيده لدى الشعب وكلفته الكثير من دماء جنوده فى سيناء. شرفاء الجيش أو من ينتمي إلى المشروع الإسلامي داخل المؤسسة العسكرية وهم كثر، يرغبون فى كشف عورات قواد الانقلاب، دون أن يحدث انقسام حاد وعنيف داخل المؤسسة، بحيث يمكنها التخلص من خبثها دون أن تهتز أركانها أو تشقق جدرانها الخلافات والصرعات، بحيث تتجاوز تلك المرحلة الحرجة بأقل الخسائر. دولة مبارك ذهب الكثير من المحللين إلى أن المخلوع مبارك لم يغب عن المشهد منذ 11 فبراير 2011 وحتى الآن، بل تسير البلاد وفقا لما يقرره وعصابته التى ضمنت له الأمان وعدم الملاحقة والمحاكمة العادلة طوال السنوات ال4 الماضية، فضلا عن توغل دولة مبارك داخل كافة مؤسسات الدولة "العميقة" إلى جانب سيطرة إعلام مبارك على مفاصل المنظومة والتى تعتبر نفسها السبب الأهم فى إسقاط أول رئيس شرعى منتخب. دولة مبارك التى صعدت بالسيسي لا ترغب فى تسمين "كلب" يتأكلها فيما بعد، أو يبتزها ويحاربها فى مصالحها، لذلك تعمل جاهدة على إسقاط قائد الانقلاب، ودفع الملايين مقابل تسريب فضائح عصابته وسقطاته وتعريته أمام الرأي العام، لتمرير سلطة جديدةتعيد توزيع الغنائم.