ربما تكون الثورية السورية هى أكثر الأزمات الإقليمية والدولية حدة التى يواجهها المجتمع الدولى منذ فترة طويلة، فلم يكن رئيس النظام السورى بشّار الأسد مبالغا، حين سئل بعد الثورة التونسية والمصرية وقبل الثورة السورية عما إذا كان من الممكن أن تندلع ثورة فى بلاده فأجاب بالنفى، مشيرا إلى أن "سوريا مختلفة"!. ولما اشتعلت الثورة هدد ب"إشعال الشرق الأوسط فى ست ساعات"، كما أنه فى حوار آخر مع صحيفة -الصنداى تليجراف بتاريخ 30 أكتوبر 2011- قال: إن "سوريا اليوم هى مركز الثقل فى المنطقة.. سوريا مختلفة كل الاختلاف عن مصر وتونس واليمن.. إنها الفالق الذى إذا لعبتم به سوف تتسببون بزلزال.. هل تريدون رؤية أفغانستان أخرى أو العشرات من أفغانستان؟ أى مشكلة فى سوريا ستحرق المنطقة بأسرها.. إذا كان المشروع هو تقسيم سوريا، فهذا يعنى تقسيم المنطقة". وعلى ما يبدو أن التصريحات السابقة لبشار لم تخرج اعتباطا أو انفعالا لما يحدث من اهتزاز موقفه فى سوريا، فما نشاهده اليوم بعد مرور شهور عديدة على هذه التصريحات، يجعلنا ندرك أن الثورة السورية تعيش كابوسا كبيرا، لن يتوقف عند سوريا وحدها بل يمتد أثره للمحيط العربى بكامله، بل ربما إعادة ترتيب النظام العالمى الجديد. فى الحقيقة ينظر اللاعبون الكبار فى الأزمة السورية (الولاياتالمتحدة – أوروبا – روسيا – الصين – إيران – إسرائيل) على أن سوريا هى مركز الثقل فى النظام العالمى وليس العالم العربى فحسب، كما أن إعادة تشكيل الأوضاع فى سوريا قد تحدد بشكل كبير، طبيعة النظام العالمى الجديد ومراكز القوى فيه، وهو ما يجعل من الثورة السورية أزمة شديدة التعقيد، يسعى كل طرف من الأطراف إلى الحصول على أفضل المكاسب منها. ولنتأمل ما قاله الناطق باسم الخارجية الروسية "ألكسندر لوكاشيفيتش" فى مؤتمر صحفى عقده بموسكو فى 21 يونيو الماضى: "من الواضح تماما أن الوضع السورى مرتبط بأسس النظام العالمى المستقبلى، وكيفية تسوية الوضع ستحدد إلى حد كبير كيف سيكون هيكل نظام الأمن الدولى الجديد والوضع فى العالم عموما". أما ألكسندر أورلوف، السفير الروسى فى باريس (20/7/2012)، فقال: "إن ما تدافع عنه روسيا ليس نظام بشار الأسد.. لكنه النظام الدولى"، كما نذكر بتصريح الرئيس الروسى فلاديمير بوتين حين قال فى 11/7/2012: "إن نفوذ الغرب آخذ فى الاضمحلال مع تراجع اقتصاده.. وأنه (أى الغرب) مشارك فى دبلوماسية منفردة خارج الأممالمتحدة للحفاظ على نفوذه فى السياسة العالمية. وفى إسرائيل نشرت صحيفة هاآرتس بتاريخ (1/4/2011) مقالا تحت عنوان: "الأسد ملك إسرائيل"، جاء فيه: "إن كثيرين فى تل أبيب يصلّون من قلوبهم للرب بأن يحفظ سلامة النظام السورى، الذى لم يحارب إسرائيل منذ عام 1973 رغم شعاراته المستمرة وعدائه الظاهر لها"، وأوضحت الصحيفة الإسرائيلية أن "نظام الأسد يتشابه مع نظام صدام حسين، وهما كانا يحملان شعارات المعاداة لتل أبيب كوسيلة لإلهاء الشعب ومنعه من المطالبة بحقوقه"، لافتة فى النهاية إلى أن الإسرائيليين "ينظرون للنظام الحاكم فى دمشق من وجهة نظر مصالحهم، متحدين على أن الأسد الابن، مثله مثل الأب، محبوب ويستحق بالفعل لقب ملك إسرائيل)!!، هذا هو الموقف الإسرائيلى الذى نعرف جيدا أنه تابع للموقف الأمريكى أو مؤيد له. وإيران بطبيعة الحال لا يخفى على أحد أنها تعتبر سقوط نظام بشار، سقوط وانهيار لمشروعها الشيعى الصفوى بالمنطقة الذى يمتد من لبنان غربا مرورا بسوريا فالعراق فالبحرين فاليمن، ويقف نظام بشّار فى القلب من هذا المشروع، الذى إن سقط فلن يقوم للمشروع الإيرانى قائمة مرة أخرى. وهنا يتضح أنه لا أحد يعمل من أجل مصلحة الشعب السورى، لذلك نجد أن كثرة الدم المراق والمجازر، ليست ذات قيمة كبيرة لدى اللاعبين الدوليين، اللهم إلا من تصريحات الاستهلاك الإعلامى، بل إن اللاعبين الكبار متفقون على أمرين، رغم ما قد يبدو فى المشهد السياسى أنه صدام أو صراع بين هذه الأطراف، الأول أنه لا يمكن استبدال نظام بشّار الأسد بنظام آخر، فحكم العائلة أو الطائفة العلوية لا بد من استمراره؛ فهو صناعة غربية بالأساس ثبت أركانها الاحتلال الفرنسى الذى مكن لهم رغم كونهم أقلية ليظلوا دائما فى حاجة للاستقواء بالخارج لضمان بقائهم فى الحكم، والثانى أنه لا مانع من تنحى الأسد شرط أن يتم استبداله بوجه آخر من قلب النظام أو حتى من أطرافه كأسوأ احتمال. لذلك قد يتعجب البعض إذا قلت إنه قد يكون انشقاق بعض رجال النظام أمرا مرتبا بين بشّار واللاعبين الدوليين فى مسرحية سياسية محنكة؛ بحيث يسهل تقبلهم شعبيا على أساس أنهم انقلبوا على النظام وانشقوا عنه، وبهذا يستمر نظام الحكم السورى الحالى نفسه فى قيادة سوريا مع تغيير بعض الوجوه. والأنباء التى تتوالى عن الاتصالات بين المخابرات الأمريكية وعدد من القادة المنشقين واللقاءات التى تتم فى الأردن وتركيا بين بعض هؤلاء وأجهزة الاستخبارات، يعد جزءا من هذا السيناريو الذى يتم التحضير له الآن لتغيير النظام من داخله، أو إعادة توزيع الأدوار من جديد. خلاصة القول: إن تدويل الأزمة السورية هو السبب فى إطالة أمدها حتى الآن، والحل يكمن فى نجاح الشعب فى انتزاع حريته دون انتظار معونة من الخارج، الذى يستخدمهم أكثر منه يساعدهم، رغم أنه بطبيعة الحال يجب على الجميع أن يتفهم الاستغاثات الشعبية والإنسانية المتكررة للشعب السورى، التى تنطلق من وطأة واقع دموى وحشى تجاوز كل أشكال العنف الإنسانى المعروفة تاريخيا، عندها يصبح نداء الاستغاثة للعالم لوقف هذا الوحش السادى مقدم على أى شىء آخر حفاظا على حياته، بينما يجب على المعارضة السورية أن تتفاعل مع نضال الداخل وتكف ولو قليلا عن نضالات الخارج الذى ثبت فشله إن لم يكن تعويقه لمسار الثورة.