تابعنا جميعا على مدار الأسبوع الماضي تلك الدعاوى بتقنين "البغاء" واعتباره ممارسة عادية يجب أن يقبلها المجتمع ويتكيف معها؛ وفي هذا الإطار يبدو أن الانقلاب بعد أن حارب المجتمع ككل من كافة مداخله الاقتصادية والسياسية والحقوقية؛ ومع ذلك لم ينجح في تثبيت أركانه؛ فلم يبق أمامه سوى هذا المحضن القيمي والسلوكي الأخير الذي يمثل التربة الخصبة للتربية على العزة والكرامة تلك التي يعاديها الانقلاب ويحارب المطالبين بها. وقد ارتبطت أفكار "تقنين البغاء" بالاحتلال البريطاني في مصر؛ ومن الأهمية هنا ذكر أن جهود جماعة الإخوان كانت من أهم عوامل النجاح في إلغاء تلك الممارسة في شكلها الرسمي؛ حيث تم إلغاؤه عام 1949 وليس بعد ثورة يوليو كما يذكر البعض.
ويبدو أن الترابط واضح كما يراه د.أحمد رامي -القيادي في حزب الحرية والعدالة- حيث قال عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك، تعليقا على حادثة الاعتداء على فتاة التحرير: "إن هناك خلطا متعمدا عند بعض غلاة العلمانيين بين مواجهة الاخوان ومعاداة الإسلام". وإن كان الأمر هنا لا يقتصر على معادة دين الإسلام أو العقيدة وإنما ينسحب إلى الحرب على كل ما يتصل بثوابت الأخلاق والقيم.
يُذكر أن الكاتب القبطي المؤيد للانقلاب كمال غبريال قد نادى على صفحته الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك أن يكون "البغاء" مقننا وتحت إشراف الحكومة خاصة الشرطة ووزارة الصحة؛ لكي تختفي ظاهرة الاغتصاب والتحرش المتزايدة في الشوارع ووسائل المواصلات. وقد أضاف "غبريال" أوصافا أخرى تجعل من المرأة شيئا مهانا ومبتذلا. كذلك فقد ادعى المخرج الشاب "عمرو سلامة" أنه من الممكن أن يختار المجتمع تقنين "الدعارة" إذا كانت هي أقل الضررين مقارنة بتفشي "التحرش"، وقال إن هذا تساؤل مطروح للنقاش.
من جانبه قال الشيخ هاشم إسلام في فتوى شرعية بعث بنسخة منها إلى "الحرية والعدالة": إنه من الثابت أنك إذا أردت هلاك وإهلاك أي مجتمع فسلط عليه "البغاء"، وقديما قال أعداء الإسلام: كأس وغانية تفعلان في الأمة الإسلامية ما لا يفعله مدفع وصاروخ. وأضاف: إن مثل هذا التقنين يعني إعادة الرق والعبودية بشكل أشد من رق وعبودية الجاهلية الأولى؛ فهو يعني تجارة "الرقيق الأبيض" ومثل ذلك كالذي فعله "موشى ديان" القائد الصهيوني الأسبق؛ والذي أمر بعد هزيمتنا في حرب 1967 بإنزال ألفين من العاهرات في شوارع القدس لفتنة وإفساد شباب المسلمين.
تمهيد لقبول الانحلال ومن جانبها ترى سمية محفوظ -الناشطة بحركة نساء ضد الانقلاب- أنه كان من الأولى إذا كان هناك من يريد مصلحة البلاد وبدلا عن الحديث عن تقنين "البغاء" أن يتم تيسير سبل الزواج للشباب، وتوفير المساكن والوظائف، والقروض الحسنة. لكن من يتحدث لا يريد أية مصلحة لهذه البلاد. وتؤكد "محفوظ" في حديثها ل"الحرية والعدالة" أن مثل تلك الدعوات حتى ولو لم يتم الاستجابة لها بإصدار قانون، فهي تنحر في المجتمع من داخله عن طريق الإلحاح على تلك الأفكار والآراء؛ بحيث يصبح تداولها ليس مستهجنا أو مرفوضا، ومن ثم يتحقق لها القبول في المجتمع حتى ودون قانون، وهو الأمر الذي كانت منظمات حقوق المرأة تعمل عليه منذ ما يقرب من 15 عاما حين كانت تتحدث عن أمور على استحياء وفي الغرف المغلقة، وبعد سنوات صار الحديث عنها متصدرا كافة وسائل الإعلام بل صار لأصحابها حقوق وينادون بها صراحة وبلا مواربة. وتشير "محفوظ" أن ثوابت الدين الإسلامي والذي حث على مكارم الأخلاق، وبجانبه دائرة الأخلاق الأساسية التي تمثل المشترك الإنساني، كل ذلك يريد الانقلاب أن يقوضه وأن يحاربه في شكل التعدي على إنسانية المرأة التي كرمها الإسلام وكفل لها حقوقها وصانها بعد أن كانت الحضارات والأعراف القديمة تتناسى أن للمرأة حقوقا وكيانا وإنسانية، أي أن الانقلاب الآن عاد بالمرأة إلى عصر ما قبل التكريم، إلى العصر الجاهلي الذي تغيب فيه إنسانيتها ولا يرى فيها المجتمع سوى جسد فقط. وتتوقع "محفوظ" أن هبّة ثورية نسائية من كافة التيارات والاتجاهات لا بد أن تندلع ردا على تلك الإهانة المباشرة التي توجهت لنساء مصر، وتشبيههن بما لا يليق ذكره من إسفاف وتجنٍّ لا يصح السكوت عليه.
جريمة حقيقية وفي السياق نفسه تقول منال خضر -المنسق العام للتحالف الثوري لنساء مصر-: إن مثل هذه الدعوات تمثل جريمة حقيقية؛ لما فيها من تعدٍّ مباشر على أصول وثوابت الدين، وأصول وثوابت الأخلاق المصرية، فهناك الآن من يريد أن يعبث بالعمق الأخلاقي القيمي الحضاري الذي يُضرب به المثل على مدار تاريخ مصر، الآن يريدون لتلك الحالة القيمية التي طالما فخرنا بها، يريدون لها أن تتوارى لتحل محلها مظاهر الفحش والرذائل. فقديما كانت القرية والشارع المصري الأصيل إنما يعبر عن الخوف على المرأة والحفاظ عليها من كل معتد، كان كبير "الحارة" ينادَى إذا ما تعرضت أي فتاة لخطر أن "بناتنا" في خطر، معتبرا أن أي فتاة تتبع "حارته" أو الحي الذي يعيش فيه هي ابنته ويجب عليه الهبّة لإنقاذها. وردا على الادعاء بأن "البغاء" كان مقننا في مصر من قبل، تقول "خضر": إن هذا كان إبان الاحتلال الإنجليزي الذي عانت منه مصر لعقود طويلة، ومن قبله كان هناك احتلال فرنسيا، ومن ثم كانت قوى المستعمر تلك تعمل بفكرة الإقصاء للأخلاق والفضيلة، كجزء من مخططات السيطرة عن طريق تقويض الأمة من محاضن التربية والخير التي تمثل التربة الخصبة المناهضة لكل مستعمر، وعليه يكون أي حديث حالي عن عودة "البغاء" هو استعادة صريحة لنفس مخططات الاستعمار، وتعبيرا واضحا عن استمداد نفس الآليات والأساليب، وهو ما يثبت أن مصر في ظل الانقلاب تعيش نفس الأجواء الاستعمارية القديمة التي ما جاءت إلا لمحاربة الأمة في كل ثوابتها. فكيف يعقل أننا بعد أن تحررنا نعيد الآن بأنفسنا قوانين المستعمر وأنماط حياته التي فرضها علينا من قبل.
وتلفت "خضر" النظر إلى أنه من الواضح والجلي الآن أن الانقلاب ما جاء إلا ليدعم أركان الانحلال والاحتلال معا؛ فكما اغتصب السلطة يريد أن ييسر سبل اغتصاب الأخلاق والقيم، وأن يقدم نموذجا مغايرا عن المرأة المصرية التي عرفها العالم كله رمزا للقوة والصمود والبسالة في كافة الميادين، حيث حفظ العالم نماذج نفرتيتي، حتشبثوت، أم المؤمنين مارية القبطية، والسيدة هاجر زوج نبي الله إبراهيم -عليه السلام-، وسميرة موسى أول عالمة ذرة مصرية. والآن يصدر الانقلاب وجوها مخالفة لا حظ لها من علم أو دين ولا تصلح قدوة أو مثلا للأجيال، يريد الانقلاب لتلك النماذج أن تتصدر وأن تسود وكأنها هي المرأة المصرية. تاركا الفلاحة والعاملة والأم والمربية. وتظن "خضر" أن الشعب المصري هو نفسه من سيلفظ تلك الدعوات الغريبة ويعتبرها كأن لم تكن وليست أكثر من تعبير عن خلل اجتماعي طارئ سرعان ما سيتبدد، والتعويل في الأخلاق هنا على الشعب المصري كله بغض النظر عن رؤيته أو توجهه السياسي؛ بدليل أننا نجد وسط مؤيدي السيسي أنفسهم الشاب الذي صفع أخته عندما وجدها ترقص أمام لجان انتخابات رئاسة الدم، وأيضا هناك الزوج الذي أقسم على زوجته يمين الطلاق عندما شاهدها ترقص أمام اللجان، فالخير لا يزال موجودا في هذا الشعب الأصيل، وهو للأسف خير مستهدف من قبل الانقلاب وقادته، وهو ما يجعلنا نرى مثل تلك الدعوات المشبوهة يوما بعد يوم.