لا يمكن فهم دوافع وأهداف المجزرة التي ارتكبتها عصابات جيش الاحتلال الإسرائيلي الثلاثاء 17 أكتوبر 2023م، حين قصفت المستشفى المعمداني بغزة وقتلت أكثر من 500 وأصابت المئات (600 وفق تقديرات حكومة غزة)، إلا في إطار فهم الأهداف الرئيسية لحكومة وجيش الاحتلال من الحرب الحالية منذ الإهانة التي تعرضت لها في أول أيام عملية «طوفان الأقصى» فجر السبت 7 أكتوبر 2023م. فالمجزرة تحمل كثيرا من الرسائل والدلالات، فهي غير مسبوقة في كلفتها البشرية وإن كانت تمثل تكريسا للإستراتجية العسكرية الإسرائيلية منذ إنشاء الكيان الصهيوني في مايو 1948م. فقد ارتكبت عصابات الصهاينة عشرات المذابح ضد الفلسطينيين سنة 1948م من أجل إجبارهم على النزوح إلى بلاد الجوار العربي حتى يتمكن اليهود بمساعدة الاحتلال البريطاني من السيطرة على فلسطين لإقامة وطن قومي لهم حسب وعد وزير الخارجية البريطاني جيمس بلفور سنة 1917م. قبل إعلان دولتهم المشئومة في مايو 1948م، دبرت عصابات اليهود المسلحة عدة مذابح أبرزها، مجزرة "دير ياسين" في 9 أبريل، حين نسفت عصابات صهيونية منازل القرية على رؤوس سكانها، واستهداف المواطنين الفارين من المجزرة استهدافا مباشر. وبحسب مصادر عربية ودولية فإن عدد قتلى المجزرة بلغ 254، بينهم 25 سيدة حامل تم بقر بطونهن وهن أحياء برؤوس الحراب. وبعدها بأيام دبروا مجزرة حيفا في 22 أبريل حين هاجموا المدينة ليلا، فاحتلوا البيوت والشوارع والمباني، وقتلوا نحو 150 عربيا، وجرحوا حوالي 400 آخرين. وفي 21 مايو نفذوا مجزرة "بيت دراس" شمال شرق غزة وحاصروها من كل الجهات وقصفوها بالمدفعية بشكل عشوائي ومكثّف، ما أسفر عن مقتل 260؛ بينهم نساء وأطفال وشيوخ. أما في مجزرة الرملة (غرة يونيو 1948) قتلوا المئات، ثم ألقوا جثثهم في الطريق العام عمدا من أجل إرهاب الناس ودفعهم نحو النزوح خوفا. وفي 11 يوليو 1948، دبروا مجزرة اللد التي راح ضحيتها نحو 426 فلسطينيا، وذلك في عدة أحداث منها اقتحام مسجد وقتل كل من فيه والذين بلغوا 167 مسلما. المذابح التي ترتكبها مليشيات جيش الاحتلال حاليا هي من هذه النوعية؛ وتستهدف بشكل أساسي بث الرعب والخوف في نفوس الفلسطينيين بعد الحالة المعنوية العالية في أعقاب الأيام الأولى من "طوفان الأقصى". كما تستهدف الانتقام بحد ذاته والذي تحول لهدف في ظل عدم قدرة الاحتلال على مواجهة المقاومة في حرب برية مباشرة؛ في محاولة لإعادة الهيبة لجيش الاحتلال. وتستهدف بشكل رئيس إجبار الفلسطينيين في غزة على النزوح جنوبا إلى سيناء وذلك ضمن مخططات صفقة القرن الملعونة. فإذا كانت القاهرة ترفض توطين الفلسطينيين في سيناء، في ظل السياق الحالي، كما ترغب الولاياتالمتحدة وإسرائيل والتحالف الصليبي الصهيوني؛ فإن القصف المكثف للأبراج والبيوت والمنازل والمدارس (قتل الاحتلال 6 فلسطينيين الثلاثاء في قصف لإحدى المدارس) والمستشفيات يحمل رسالة واضحة بأنه لا مكان آمن في غزة كلها. وبالتالي فإنها تريد إحالة المشكلة إلى مصر من أجل التخلص من غزة نهائيا وصداع المقاومة الذي يعكنن على الصهاينة. وقد أعلن المكتب الحكومي بغزة، الإثنين 16 أكتوبر، أن قوات الاحتلال الإسرائيلي ارتكبت 371 مجزرة بحق العائلات الفلسطينية منذ بداية العدوان. وقال المكتب الحكومي أن المجازر الإسرائيلية، أسفرت عن استشهاد نحو 2808 شهداء، غالبيتهم من الأطفال والنساء. كن هذه الأرقام تزايدت بشدة في أعقاب مجزرة المستشفى المعمداني لتصل إلى أكثر من 3500 شهيد وأكثر من 12.500 جريح بخلاف أكثر من ألف لا يزالون تحت الأنقاض. المذبحة تعيد إلى الأذهان بشاعة الجرائم اليهودية التي ترتكبها عصابة الاحتلال ضد كل العرب والمسلمين وغير المسلمين؛ تعيد التذكير بمذبحة بحر البقر في مصر؛ حين شن طيران الاحتلال قصفا على مدرسة قرية بحر البقر بمحافظة الشرقية في أبريل عام 1970؛ أدت إلى استشهاد 30 طفلًا وإصابة 50 آخرين من تلاميذ المدرسة التي تدمرت تماما. كما تعيد التذكير بمذبحة "صابرا وشاتيلا" في مخيم اللاجئين الفلسطينيين بلبنان في 16 سبتمبر 1982م، والتي أدت إلى مقتل نحو (2000 إلى 3500) خلال ثلاثة أيام فقط من هجوم جيش الاحتلال بقيادة ارئيل شارون، مدعومين من مليشيات حزب الكتائب اللبناني، وكان معظم الضحايا من الأطفال والنساء. ليس هناك قدسية لأي مكان عند عصابات الاحتلال وقادته الذين يعدون عتاة في البلطجة والإجرام وانعدام الإنسانية؛ فالمستشفى المعمداني يتبع الكنيسة الإنجيليكانية البريطانية، والتي تحتوي مسجدا وكنيسة؛ لكن الصهاينة لا يضعون اعتبارات للأماكن المقدسة عند أصحاب الديانات الأخرى؛ وهو ما يعيد التذكير بمذبحة الحرم الإبراهيمي (الخليل)، حين أطلق نقيب في جيش الاحتلال يُدعى باروخ غولدشتاين الرصاص بشكل كثيف على رؤوس المصلين، فقتل 30 فلسطينياً، وجرح أكثر من 300 آخرين. وهم ساجدون في صلاة فجر الجمعة 25 فبراير 1994م، والتي وافقت ليلة النصف من رمضان حينها. مذبحة المستشفى المعمداني ارتكبها جيش الاحتلال من أجل قياس ردود الأفعال، عند المقاومة في غزة ولبنان وإيران، وكذلك ردود الفعل الدولية في ظل الغطاء الذي تمنحه الولاياتالمتحدة وأوروبا لإسرائيل لترتكب ما تشاء من جرائم ومذابح دون خوف من مساءلة أو حساب؛ فإذا وجد الصهاينة رفضا عالميا واسعا لهذه الجريمة وتحركات جادة وملموسة لمواجهة هذه العربدة فلن تتكرر؛ أما إذا وجدت أن ردود الفعل توقفت عند حدود الشجب والإدانة والاستنكار؛ فإن هذه الجريمة سوف تمثل بداية للمرحلة الثانية من الحرب والتي ستشهد قصفا عنيفا في كل مكان بغزة دون اعتبار لأي شيء، في ظل مخاوف حكومة الاحتلال من الحرب البرية التي ستكبدهم خسائر فادحة في الأروح والمعدات. ما لم يكن هناك موقف عربي وإسلامي على مستوى الحدث فإن الاحتلال سيقصف مدارس الأونروا والمستشفيات والمساجد وكل شيء. وهو ما يتعين معه أن رد فعل مساو لحجم الجريمة التي تمثل جريمة إبادة ضد الإنسانية تستوجب محاكمة قادة الاحتلال وإلا فإن القادم أسوأ بكثير وسيطول الجميع دون استثناء.