هذا الوقور الهادئ الذى مرت عليه قوافل الأيام والسنين والقرون بالمحن والعواصف والفتن الهوجاء، وهو محتفظٌ بوقاره الشامخ الموصول بالسماء، يرهبه الكل، ويجله الكل، ويعرف كل المصريين باختلاف أديانهم قَدره وحرمته. هذا الذى يبقى دائماً قطعة السكينة فى محيط الضجيج الذى نحياه جميعاً، وموئل اللائذين بالله فى مَعِيَّةِ الملائكة، وصُحبة الساجدين الذين يقصدونه لينهلوا من ضياء العلم ما يُقيم قلوبهم على درب الهدى، ويسمو بأرواحهم إلى معارج النور، ويجلو أبصارهم لتبصرَ الحق من الباطل، والزيف من الصدق، فكان عنواناً على الاستقامة، وميزاناً يقوم بالعدل إذا طاشت الأفهام والأذهان والتصورات، ويقود الجماهير فى حركات التحرر والتصدى لجيوش الغزاة فى تاريخ مصر كلها؛ لما له من مكانة وهيبةٍ؛ فإنه المسجد! وكم كان خطيراً أن ينقلب هذا كله فى زمان الانفلات من كل قيد والانقلاب على كل شىء وإهدار حرمة كل شىء: الإنسان والبنيان والشرع جميعاً! وانتقلنا من هذا السمت الذى لا يقترب بذهنه من حرمة المسجد (لا بيده، أو بالحجارة المجرمة، والشتائم البذيئة)، إلى أمر آخر لا تعرفه هذه الأرض إلا على يد جيش نابليون الذى دنس ساحة الأزهر وتكلم عنه الجبرتى قديماً فى «عجائب الآثار»، والأستاذ محمد جلال كشك فى كتابه «ودخلت الخيل الأزهر»، وشيخنا العلامة محمود محمد شاكر فى «رسالة فى الطريق إلى ثقافتنا» حديثا! والحجر يبقى حجراً، حتى يوضع جداراً فى مسجدٍ، فينتقل من معنى الحجر إلى رفِعة الحُرمة التى تفرض حوله سور الرهبة والجلال؛ فهو بيت الملك الجبار الذى يقول: «ومن أظلم ممن منع مساجدَ الله أن يُذكر فيها اسمه وسعى فى خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم فى الدنيا خِزيٌ ولهم فى الآخرة عذاب عظيم»! فهى جريمةٌ مضاعفةٌ لا تخضع لتبريرات الساسة، ولا لتصارع المتحاربين الفانين، الذين لا يقوم الواحد منهم لغضب الرب العظيم، ولو حشدَ من بين يديه ومن خلفه ما حشد من جيوش التبرير، أو الاستنكار الخافت أو المتأخر الذى لا ترجمةَ له إلا التبرير! ولم يكن من وراء هذا الجدار إلا شيخ طعن فى السن وجاوز السابعة والثمانين عاماً، ومن ورائه تاريخ حافل بمصادمة الظلم والبغى، يزيد سنه جلالاً وتقديرا! ولم يكن من وراء هذا الجدار إلا مصلون لا شأن لهم بضجيج المولوتوف ولا حجارة الإجرام! ولم يكن من وراء هذا الجدار إلا فتاةٌ خرجت تصلى، أو امرأة صحبت أطفالها فى مصلى النساء، ولم يكن فى جاهلية أو إسلام اعتداء على امرأة قط، أو محاصرتها، أو ترويعها وترويع أطفالها، وإذا رأيت من يمر بهذا الفعل بارداً، أو مبررا؛ فاعلم أنه انخلع من حد الإنسان، فصار أى شىء آخر سوى أن يكون إنساناً! الاعتداء على بيت الجبار، للمرة الثانية، منذ اقتحام مسجد النور بالعباسية، ثم محاصرة مسجد القائد إبراهيم بالإسكندرية، لم يكن إلا بعد هذه الاستهانة الشاملة بالدم والعرض والوطن والعقل، وانتهاك الحرمات التى ما كان أحدٌ ليظنَّ أن يفعلها منتسبٌ إلى أرض الكنانة! ولكى تكتمل اللوحة الدامية، جاء تخاذل الأمن مشهوداً واضحاً لا لبس فيه، وهو يرى بيت الله عز وجل محاصرا ست عشرة ساعة، بينما هبت الكتائب ونزل الوزير لأن هناك رجلا قال إنه سيذهب لزيارة قسم الدقى! ولكى تكتمل اللوحة داميةً فإن الكاميرات التى ترصد الحركة والخطوة والهمسة والتصريح، وتبقى مسلطةً الليل والنهار فى شارع من الشوارع، ترصد الحدث وتضخمه أو تصغره كما تحب.. هذه الكاميرات انطفأت فجأةً، فلم تلتفت إلى هذا «الحصار»، ولم ترصد عملية «تحرير الشيخ الأسير»، ولم تحاول مساندته ولو من باب الإنسانية أو الوطنية أو المهنية الإعلامية.. لماذا؟! أنت تعلم وأنا أعلم!