التجديد فى الفكر الإسلامى لازمة من لوازم شريعتنا السمحة لا يمكن أن ينفك عنها، ولا يمكن للشريعة أن تساير حاجات الناس وتواكب متطلباتهم من دونه، فالأحكام المحسومة التى لا تقبل التغيير ولا التبديل فى الشريعة الإسلامية قليلة جداً؛ حيث تكاد تنحصر فى أركان الإسلام وبعض المحرمات المحدودة، وفى المقابل نجد أن ما لا يُحصى من فروع الشريعة الإسلامية مرن يقبل التطويع ليناسب زمان الناس وأحوالهم. ونظرة عجلى إلى تاريخ التجديد والمجددين فى الفكر الإسلامى تظهر لنا اتفاق العلماء على أن مجدد القرن الأول هو الخليفة عمر بن عبدالعزيز، ويتفقون كذلك على أنه يأتى على رأس القرن الثانى الإمام الشافعى، ثم يختلفون بعدهما، هل كان على رأس كل قرن مجدد واحد أو أكثر من مجدد، وإن كان ثمة اتفاق على أن التجديد فى الفكر الإسلامى لم ينقطع فى عصر من عصور الإسلام قديماً وحديثاً حتى انتهى إلى الشيخ شلتوت، ومصطفى الزرقا، وعلى الطنطاوى، والدكتور أحمد الشرباصى، مروراً بالشيخ محمد عبده، وغيره من العلماء الأفذاذ. وفى الحقيقة فإن الناظر المدقق فى تاريخ الإسلام والمستوعب لأحكام شريعته يدرك أن الإسلام دين متجدد حتى فى وصوله للناس؛ فأركان الإسلام وفرائضه الأساسية لم تنزل على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، دفعة واحدة؛ حيث بدأ الإسلام بركن واحد، وهو توحيد الله، عز وجل، والإيمان برسوله، وقد تمثل ذلك فى الشهادتين، ويكاد ينحصر أكثر من نصف مدة الرسالة فى إقرار هذا الركن، وترسيخه فى نفوس المسلمين، ثم يفرض الركن بعد الركن ويتخلل ذلك بيان المحرمات والسلوكيات والأخلاقيات حتى اكتمل الدين قبيل وفاة النبى، صلى الله عليه وسلم، وبناء الإسلام ركناً بعد ركن وفرض أحكامه حكماً بعد حكم هو نوع من التجديد؛ حيث ينحصر الإسلام فى فترة ما فى ركن معين، ثم يضاف ركن ثان، فثالث، حتى اكتمل الدين بفرائضه وسننه، وهكذا تعد كل مرحلة من المراحل صورة جديدة للإسلام لا تغنى عنها سابقتها. وهناك العديد من صور التجديد فى التاريخ الإسلامى، منها المنع من تدوين السنة النبوية ابتداءً، ثم الإذن بتدوينها، والنهى عن زيارة القبور، ثم الدعوة إلى زيارتها للاتعاظ وتذكُّر الآخرة، ووجوب الهجرة من بلاد الكفر ينتهى بفتح مكة، لتكون الهجرة بعد ذلك جهاداً ونية لا هجرة بدنية، كل هذا وغيره من مظاهر التجديد فى شريعة الإسلام، وليس أدل على ذلك من إقرار الرسول، صلى الله عليه وسلم، لآلية الاجتهاد فى استنباط الأحكام، وذلك عند سؤاله لسيدنا معاذ بن جبل حين أرسله إلى اليمن قاضياً: بِمَ تحكم؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيى ولا آلو. فقال صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذى وفق رسول رسول الله لما يرضى الله ورسوله. ولا شك أن الاجتهاد من قبل المؤهلين له هو آلية من آليات التجديد، ولِمَ لا وقد نصَّ عليه النبى، صلى الله عليه وسلم، صراحة حين قال: إذا حكم الحاكم، فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد؟! ففى هذا الحديث ليس إقراراً للاجتهاد والتجديد فقط، ولكن فيه أيضاً طمأنة للمجتهدين حتى لا يتهيبوا الاجتهاد واستنباط الأحكام المناسبة لزمان الناس وأحوالهم والمنضبطة بقواعد الشرع. وقد سار الصحابة، رضوان الله عليهم، على هذا النهج الذى أرساه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فاستطاعوا باجتهادهم حل كثير من المسائل التى لم تظهر فى زمن النبوة، ومن أبرزها مسألة الخلافة التى اجتهد فيها أهل الحل والعقد من الصحابة حتى انتهوا إلى أحقية أبى بكر الصديق بها، ثم بعد وفاته انتهوا إلى أحقية عمر بن الخطاب بها، ثم تولى عثمان بن عفان، ثم على بن أبى طالب، رضى الله عنهم جميعاً. والمدقق فى أمر الخلافة يجد أنها لم تكن على نمط واحد، وإنما كانت أنماطاً متعددة، فهى إن كانت فى كل صورها تعتمد على حاكم واحد للمسلمين، فإنها تختلف فى طرق اختياره؛ فطريقة اختيار الصديق، خالفت طريقة اختيار عمر، وهى بدورها اختلفت عن طريقة انتخاب عثمان بن عفان، وطريقة تولى الخليفة الرابع على بن أبى طالب تختلف عن الطرق الثلاث. ومن المسائل التى اجتهد فيها الصحابة مسألة الردة؛ حيث انتهى الصديق إلى قتال المرتدين مع استقامتهم على بعض أركان الإسلام، ومنها أيضاً وقف عمر بن الخطاب صرف الزكاة للمؤلفة قلوبهم مع أنه منصوص عليه فى القرآن الكريم، وإشراكه الإخوة الأشقاء مع الإخوة لأم فيما يعرف بالمسألة العمرية أو الحجرية، وقد أشرك الصديق قبله الجدتين فى سدس واحد. وقد استمرت مسيرة التجديد والاجتهاد لاستنباط الأحكام الشرعية فيما لم يرد فيه نقل من الكتاب والسنة، وبلغت هذه المسيرة ذروة سنامها بظهور المذاهب الفقهية؛ حيث لا تكاد تخلو كتب المذهب الواحد من أكثر من رواية فى المسألة الواحدة، فالإمام الشافعى على سبيل المثال يقال إن له مذهبين: قديم وهو ما كان فى العراق، وجديد وهو ما قاله فى مصر؛ حيث تغير رأيه فى كثير من المسائل نظراً لتغير الأعراف والأحوال بين العراق ومصر، ولم يقتصر الأمر عند الإمام أبى حنيفة على تعدد اجتهاده فى المسألة الواحدة، بل سلك مسلكاً أنكره عليه كثير من أقرانه؛ حيث افتراضه مسائل لم تقع واستنباط أحكامها الفقهية، وهو ما عرف فيما بعد ب«الفقه الافتراضى». وهكذا استمرت مسيرة التجديد فى الفكر الإسلامى ابتداء من عصر النبوة مروراً بزمن الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى العصر الحديث، وستستمر هذه المسيرة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ فهذه سنة الله فى الكون، وهى قاعدة مسلَّمة فى شريعتنا، وحقيقة ثابتة فى تاريخ إسلامنا، ولولا أن شهادتى مجروحة، لذكرت جهود بعض المجددين الأحياء الذين يعيشون بيننا الآن.