يبدو أن الدستور المصرى المرتقب يواجه مشكلات جمة مما يدعو إلى الحسرة والأسى. فبعد قيام الشعب المصرى بثورة سلمية رائعة أبهرت العالم، وأفرزت أجمل ما فى المصريين من الجنوح للسلم والإرادة الفولاذية، والتوحد من أجل تحقيق مثل عليا تمثلت فى التماس الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية، والتخلص من العسف والظلم الذى طال جميع المصريين تقريباً، وأصبح الأمل يحدو الجميع نحو التطلع إلى آفاق أرحب، وإقامة حياة ديمقراطية سليمة يتمتع فيها كل المصريين بحقوق متساوية بغض النظر عن النوع أو اللون أو العرق أو الانتماء السياسى أو الانتماء الدينى. فالدستور هو الوثيقة التوافقية التى تجمع شتات المواطنين، ولا تعكس واقعهم الضيق فقط، وإنما تعبر عن تطلعهم إلى مستقبل واعد يصون الحقوق والحريات للأجيال القادمة، فالدساتير تُصنع لحماية المحكومين من عسف الحكام، وتصون حقوق الأقليات والمهمشين والضعفاء من طغيان الأغلبية الحاكمة. لقد شاب تشكيل الجمعية التأسيسة للدستور عوار كبير، حيث اعتمد هذا التشكيل على المحاصصة والمغالبة بدلاً من التوافق والتفاهم، وبدت طريقة اختيار أعضاء الجمعية هزلية فجة من خلال فرض أسماء بعينها يعبر معظمها عن تيارات الإسلام السياسى، وخضعت للتصويت الشكلى من خلال أعضاء مجلس الشورى، الذى يواجه مخاطر الحل لنفس ظروف حل مجلس الشعب، ونتيجة هذا العوار الواضح قررت المحكمة حل الجمعية التأسيسية الأولى، وللأسف الشديد تم تشكيل الجمعية الثانية بذات المعايير المعيبة التى يتوقع حلها أيضاً. إن انسحاب قرابة ثلث أعضاء الجمعية التأسيسية من معظم القوى الوطنية يعبر بوضوح عن هذا الانقسام والتشرذم الناتج عن تغول قوى بعينها فى فرض آرائها وأحكامها بأسلوب المغالبة والتعالى لفرض هيمنتها، ليس فقط على الواقع الحالى، وإنما على مستقبل الأجيال القادمة. وبالرغم من تقديرنا لقيمة وقامة السيد المستشار حسام الغريانى رئيس الجمعية التأسيسية، إلا أن أسلوب إدارته للجلسات يغلب عليه السيطرة والهيمنة والاستعلاء، وبدا ذلك واضحاً من رده الانفعالى على الاستقالة المسببة المقدمة من العضوة السابقة منال الطيبى، وكذلك رفضه الحوار مع العديد من القامات الرفيعة مثل السيد عمرو موسى والدكتور جابر نصار، وكذلك اعترافه الضمنى بصعوبة الوصول إلى تفاهم مشترك، حين أدلى بتصريح محتواه أن ما لا يتم التوافق بشأنه يمكن تأجيله لجيل قادم مع أن الأمر الطبيعى أن يتم صياغة الدساتير لتعبر عن آمال الأمة وأحلامها فى المستقبل وليس للتعبير عن الواقع الحالى. لقد انتهجت الجمعية التأسيسية أسلوباً غريباً فى فرض شخصيات معينة تنتمى غالباً إلى حزب الحرية والعدالة لرئاسة اللجان من أجل فرض وتحرير نصوص معينة عفا عليها الزمن وأصبحت خارج التاريخ. والشىء الذى يدعو للأسى أن تخرج المسودة الأولى للدستور يوم 14 أكتوبر، التى تم بثها على الموقع الإلكترونى للجمعية دون مناقشة موادها والتوافق عليها من جانب أعضاء الجمعية، وفقاً لتصريحات العديد من الشخصيات البارزة فى الجمعية، ويقود دفة الحوار المجتمعى السيد الدكتور محمد البلتاجى بأسلوب أبعد ما يكون عن الحوار الحقيقى الذى يركز على الأمور الخلافية التى تتيح الوصول للصياغات الأفضل والتى تتفق مع آمال المصريين، وبدلاً من ذلك لجأ سيادته إلى صناعة حوارات مسرحية تضم المؤيدين والمناصرين للتيار الذى ينتمى إليه لتحرير النصوص الدستورية التى اتسمت بالركاكة الشديدة فى الصياغة، وانطوت على تهميش العديد من فئات المجتمع والانتقاص من حقوقهم المشروعة. كان الشعب المصرى يتطلع إلى دستور ثورى يعكس مطالب الثوار فى الحرية والعدالة الاجتماعية، ولكن للأسف سيطر على الأذهان الجنوح إلى إقامة دستور إصلاحى ومعدَّل لدستور 1971. لقد انسحب من عضوية الجمعية معظم رموز القوى الوطنية من الأحزاب والتيارات المدنية، فضلاً عن رفض معظم القضاة والعمال وأعضاء النقابات المهنية والكنائس لمواد الدستور. وللحديث بقية.