«لو أنك قدمت لى فقط فنجاناً من الشاى فى ذلك المساء لما وصلت إلى هذه الحالة».. هذه العبارة قالتها والدة «شارلى شابلن» له عند زيارته لها بصحبة أخيه الأكبر «سيدنى» فى مصحة للأمراض العقلية ألحقها بها «شابلن» -وكان لا يزال طفلاً- بعد إصابتها بضلالات وهلاوس سمعية وبصرية ووساوس قهرية متسلطة دفعتها إلى أن تقرع أبواب المنازل وتوزع قطعاً من الفحم على السكان باعتبارها هدايا للأطفال بمناسبة قرب حلول «عيد الميلاد».. أبلغه أطفال الجيران بذلك عند عودته إلى منزله، مؤكدين له أنها قد أصابها الجنون.. وانفجر فى البكاء عندما رآها عند النافذة تحدق فى لا شىء فى ذهول.. ولما سألها عن تبرير لما فعلته أخبرته أنها كانت تبحث عن «سيدنى» الذى تتصور أن الجيران قد أخفوه عنها.. بينما حقيقة الأمر أن «سيدنى» كان قد وجد عملاً كنافخ للنفير على سفينة ركاب مبحرة إلى أفريقيا.. وغاب شهوراً بعيداً عنها، ريثما يتمكن من الحصول على أجر يسد رمقهم بعد تدهور أحوالهم المعيشية تدهوراً كبيراً.. بعد أن فقدت عملها كممثلة إثر ضياع صوتها واضطرارها أن تعمل خياطة فترة توقف عندها المصنع عن التعامل معها حينما اكتشف المسئولون به أخطاء فى عملها.. وسحبوا منها ماكينة الخياطة التى كانت تستأجرها وعجزت عن سداد أقساطها.. كما أصبح «شارلى» عاطلاً بعد عمله بعدد من المهن: بائع للزهور - صبى فى محل بقالة - ساعٍ فى عيادة طبية - خادم فى منزل ثرى - بائع فى مكتبة - عامل بمطبعة - نافخ للزجاج - بائع صحف. وانتهى به الأمر بالعمل كمدرس خصوصى للرقص مقابل شلنات خمسة.. ثم توقف عن ذلك لعدم وجود راغبين جدد فى التعلم.. يقول «شابلن» فى مذكراته التى ترجمها بأسلوبه الرشيق الكاتب الكبير الراحل «صلاح حافظ»: «كانت أمى تبدو شاحبة ولون شفتيها أزرق.. ومع أنها عرفتنا فإنها لم تبد حماساً لذلك فحيويتها القديمة كانت قد ذهبت.. ومع أن «سيدنى» حاول أن يدخل البهجة عليها محدثاً إياها عن التوفيق الذى أصابه والنقود التى جمعها وأسباب غيابه كل هذه المدة، فإن أمى ظلت تنصت وتهز رأسها شاردة الذهن ذاهلة عن نفسها».. وعندما طمأنها شارلى مؤكداً أنها سرعان ما سوف تسترد صحتها.. رددت فى شرود العبارة التى بدأت بها المقال.. كان يكفيها كوب من الشاى ليحفظ لها توازنها العقلى.. وهو ما أكده الطبيب ل«شابلن».. إن عقلها تأثر دون شك بسبب سوء التغذية.. إنه الفقر اللعين الذى قال عنه «على بن أبى طالب»: لو كان الفقر رجلاً لقتلته.. وبينما يرى «شابلن» أن آلهة الإيذاء تمل أحياناً لعبتها وتبدى شيئاً من الرحمة، حيث إن السنوات السبع الأخيرة من حياة الأم قضتها فى جو من الراحة والاطمئنان بعد تمتع «شارلى» وأخيه بشهرة وثروة تفوق كل ما خطر بخيالها.. إلا أنها لم تسترد عقلها أبداً بصورة كاملة.. وحينما تم استدعاؤه للمستشفى الذى ماتت به.. كان تعبير وجهها -كما يصفه- يبدو مهموماً كما لو كانت تتوقع مزيداً من الآلام.. وبدأ يداهمه فيض من الذكريات من كفاحها ومعاناتها وشجاعتها ومحنة عمرها الضائع الذى سبق أن عبرت عنه بجملة بليغة مؤثرة هى: «قد يحنى الإنسان رأسه.. ثم لا يلتقط شيئاً» فباطل الأباطيل الكل باطل وقبض الريح..