خطاب «المغيبين فى الأرض»، ذلك هو الملمح الرئيس الذى يمكن أن نصف به خطاب «الاتحادية» الذى ألقاه الرئيس «محمد مرسى» يوم الجمعة الماضى. فقد بدا الرئيس «غائباً» عن الموضوع الأساسى الذى كان يفترض أن يتحدث فيه: (الإعلان الدستورى الجديد) إلى حد كبير. يشهد على ذلك أن الرئيس نسى شعار الثورة التى حاول أن يقدم قراراته الأخير كمنصة دفاع عنها، وهو شعار «كرامة.. حرية.. عدالة اجتماعية»، وقد بدا الخطاب وكأنه خطاب «مغيبين» حينما اجتهد الرئيس فى تبرير قراراته فى «الاستفراد بالسلطة» والمضادة لحرية وكرامة المواطن، برفع مقولة «حماية الثورة»!، الأخطر من ذلك أن الرئيس نسى أن يستخدم أهم قرار اتخذه ويمكن وصفه ب«المطلب الثورى»، والمتمثل فى إعادة محاكمة قتلة ثوار يناير!، مما أعطى المستمع انطباعاً بأن مسألة إعادة المحاكمة لا تمثل أكثر من شعار للاستهلاك المحلى. من ملامح «التغييب» فى الخطاب أيضاً ذلك «الانفلات» المستمر من «الموضوع الرئيس» والتفرع إلى موضوعات أخرى، تتصل بمناسبات دينية أحياناً، وبأحداث تشهدها الدول المحيطة من ناحية أخرى، من ذلك على سبيل المثال: حديث الرئيس عن الثورة السورية وتأكيده أنه لن يهدأ حتى تنتصر هذه الثورة، فى الوقت الذى احتاج فيه المصريون إلى أن يحدثهم الرئيس عن نصرة الثورة المصرية، أما أبرز ملامح «التغييب» التى ميزت الخطاب فتتصل بحالة الثقة التى كان يتحدث بها الرئيس وهو يتكلم عن شعبه الذى يؤيد قراراته، فى حين كان عشرات الآلاف من أبناء هذا الشعب يهتفون بسقوطه فى ميادين مصر ومحافظاتها، ويقوم مئات من الشباب المحتقن من الجماعة بحرق مقارها، ومقار حزب الحرية والعدالة الذى ترأسه الدكتور «مرسى» قبل أن يرأس الجمهورية. يبدو الخطاب أيضاً فى لغته وتركيبه الموضوعى معبراً عن «حالة الفوضى» التى بدأت تتفاعل على الأرض منذ اللحظة الأولى لصدور الإعلان الدستورى. فإصرار الرئيس على «الارتجال» جعل خطابه متعدد المشارب والموضوعات، يختلط فيه الماضى بالحاضر بالمستقبل، والدينى بالدنيوى، والإخوانى بالمصرى، والوطنى بالإقليمى، والموضوعى بالوعظى، بصورة لافتة للنظر، لذلك فقد قل ظهور الأفكار المتماسكة فى الخطاب بصورة ملحوظة، ومن اللافت أنها ارتبطت فى ظهورها بالمواضع التى انفلت فيها الخطاب من الحديث عن الإعلان الدستورى، فى حين طغت حالة من السيولة على الأفكار التى طرحها الرئيس فى معرض تفنيد وتبرير مواد إعلانه، فلا تعرف وهو يتحدث عن القانون ودولة القانون، هل هو مع المفهوم أم لا؟، ولا تعرف حين يتحدث عن المعارضة هل هو معها أم ضدها، وهل يرى بين المصريين أعداءً له أم لا؟، وهل هو مع تطبيق الشريعة أم لا؟. الأفكار المتصلة بموضوع الخطاب بدت متضاربة ومتعاكسة ومتناقضة فى الكثير من الأحيان. وبقدر ما يعبر هذا الخطاب عن حالة «الارتباك» التى يبدو أن مؤسسة الرئاسة تعانى منها، فإنه يعبر أيضاً عن حالة الفوضى التى دفعت هذه المؤسسة مسارات الأحداث إليها، بعد الإعلان الدستورى الذى فوجئ المصريون بصدوره يوم الخميس الماضى. ويبدو هذا الملمح جوهراً أساسياً داخل هذا الخطاب ظهرت له الكثير من الأعراض والمؤشرات على المستوى التفصيلى. يتصل أول هذه المؤشرات بما يمكن وصفه بسمة «فقد السيطرة». لا تدل على هذه السمة الموضوعات التى اشتمل عليها الخطاب فقط، بل تظهر أيضاً فى مكان إلقائه: «قصر الاتحادية» وتحت مظلة حماية «الحشود الإخوانية». ويعبر هذا الاختيار للمكان عن أن الرئيس فقد السيطرة على ميدان التحرير، وعجز بعد ما يزيد بقليل على 150 يوماً من توليه الحكم عن النزول إلى ميدان التحرير، كيف يتأتى ذلك والميدان يحتشد بعشرات الألوف الهاتفة بسقوطه وسقوط جماعته. وقد بدا موضوع «فقد السيطرة» مضحكاً فى الكثير من المواضع التى وجدنا فيها «الحشود الموالية» تهتف له بمطالب تعامل معها «مرسى» بدرجة واضحة من «المراوغة»، الأمر الذى يؤشر -من جديد- إلى حالة الارتباك التى وصلت إليها مؤسسة الرئاسة. فقد هتف المحتشدون أكثر من مرة مطالبين بتطهير الإعلام من منظور أن وسائله تحولت إلى أداة لاستعداء الشعب على الرئيس. وفى كل مرة كان الرئيس يراوغ أمام هتاف الحشود الإخوانية بهذا المطلب، مرة بالحديث عن ترحيبه بالمعارضة، بشرط أن تكون معارضة حقيقية!، ولم يبين الرئيس ما يقصده بمفهوم «المعارضة الحقيقية»، ومرة بالحديث فى موضوع آخر خارج سياق الهتاف. وقد تكرر هذا الأمر أيضاً، عندما هتف المحتشدون «الشعب يريد تطبيق شرع الله»، فكان أن راوغ الرئيس من جديد بالحديث عن العدل ومجموعة القيم العامة التى يتأسس عليها الإسلام فى عودة إلى طريقته «الوعظية» الأثيرة، التى ظهرت واضحة فى الدقائق التى بدأها بالاعتذار عن دخوله فى موضوع الإعلان الدستورى الذى أشعل الشارع المصرى وقسم مصر على «اثنين»، قبل أن يهنئ المحتشدين بذكرى هجرة النبى محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وحلول الاحتفال بيوم عاشوراء، ليظهر من جديد وجه «الدروشة» فى أداء الرئيس الخطابى. وقد ظهرت سمة «الدروشة» بصورة جلية فى المواضع التى حاول فيها الرئيس «طمأنة» المصريين بأن القرارات التى اتخذها والصلاحيات الكثيرة التى قبض عليها بيديه لن تستخدم ضد الشعب، بل ستستخدم ضد «أعداء الشعب»، وذلك من خلال التأكيد أنه لا يحب الظلم ولا يرضى بظلم أحد، وإنما سوف يستخدم «أدوات القدرة على المصريين» بصورة عادلة. فهو يقدم نفسه كشخصية متصلة بالله تعالى تتمتع ب«الإلهام» الذى يمكنها من فعل الصواب وتحقيق العدل، وبالتالى: لا تفزعن من تركيز السلطة فى يديه اطمئناناً إلى عدله وإلهامه السماوى. فكما تطمئن لعدل العلى القدير خالق العباد (الحق المطلق) الذى يقول فى كتابه الكريم «ولا يظلم ربك أحداً»، عليك أن تطمئن إلى أن الرئيس «لا يظلم من رعيته أحداً»، فارتح بالاً وهو يضع هذه السلطات فى يده، بل وعليك أن تؤيده فى ذلك، لأنه يحميك بالسلطة المطلقة من ظلم «طواغيت» الأرض. تتبلور السمة التالية للخطاب حول فكرة «العجز عن التبرير». فقد ظهر الرئيس عاجزاً عن تبرير قراراته، وبدلاً من أن يقدم أسباباً مقنعة يبرر بها جنوحه إلى «الاستفراد بالسلطة» على هذا النحو، أخذ يستحضر مجموعة من العفاريت اللفظية التى تصف خطورة ممارسات «الفلول» و«أعداء الثورة» و«الثورة المضادة» على «الاستقرار» و«عجلة الإنتاج»، وأن الفلول تجتمع الآن فى «المزانق» و«الحارات» ليعملوا ضده ويؤلبوا الرأى العام على ما اتخذه من قرارات يستهدف بها من يكيدون للثورة. وقد يسأل أحد المتابعين للخطاب متعجباً: لماذا لا يقوم الرئيس بالقبض على هذه الفلول التى تريد شراً بهذا البلد، ويقف مكتفياً بمتابعتهم فقط وجمع معلومات عنهم ليبلغ مستمعيه بها؟. والخطاب فى هذا الموضع يكشف بامتياز الرؤية الإخوانية التى يتبناها الرئيس، رغم محاولاته التفلت منها بتكرار الحديث عن أنه لا يوجه كلمته إلى المحتشدين أمام قصر الاتحادية فقط، بل إلى المتظاهرين فى ميدان التحرير وميادين مصر الأخرى. ويكشف هذا الأداء عن رغبة الرئيس فى «الاستغراق فى الوهم» وإقناع نفسه، ولا أقول الشارع، لأن الشارع كان يتابع الهتافات المطالبة بإسقاطه وجماعته عبر شاشات التليفزيون، بأنه يحظى بنوع من الرضا من جانب الشعب، وأن المصريين جميعاً -وليس الإخوان فقط- يؤيدونه، لأنه ينطق بلسان الثورة. ننتقل بعد ذلك إلى سمة «يكاد المريب يقول خذونى». وقد ظهرت فى المواضع التى تحدث فيها الرئيس عن أن القرارات التى اشتمل عليها الإعلان الدستورى الجديد، لم تأت انحيازاً لأحد أو ضد أحد. وهو يريد بذلك أن يقول إنه لم يسع من خلال هذه القرارات إلى حماية الإخوان المسلمين، من خلال تحصين مجلس الشورى، والجمعية التأسيسية لصياغة الدستور، أو الثأر الشخصى من القضاء، بعد الإهانة التى وجهها إليه، بضرب عرض الحائط بقراره السابق بإقالة المستشار عبدالمجيد محمود، لكن لفظ «إخوانى» الذى تكرر على لسان الدكتور «مرسى»، حتى وهو يتحدث عن المعارضين الذين وصفهم ب«إخوانى فى المعارضة»، كشف بجلاء أن «الإخوان» هم جل همه، وأن قراراته جاءت فى سياق الحماية لمؤسساتهم، وكأداة للثأر -الشخصى والجماعى- من تثبيت «عبدالمجيد محمود» فى موقعه كنائب عام، وهو الأمر الذى يدلل أيضاً على أن الرئيس اتخذ هذا القرار من زاوية «الثأر» وليس من زاوية «الثورة» التى كانت تطالب منذ مرحلة مبكرة من قيامها بإقالة النائب العام. السمة الأخيرة التى يمكن التوقف أمامها داخل خطاب الاتحادية تتعلق ب«الاحتفاء بالشرطة»، فقد حرص الرئيس على التعبير عن حفاوته بدور الشرطة فى حماية الأمن، وكان الجيش غائباً فى هذا السياق، وأكد المعاناة التى تكابدها الشرطة فى مواجهة الأطفال والصبية الصغار المأجورين الذين اعترفوا بأن هناك من يدفع لهم حتى يشاركوا فى مشاغبة الشرطة فى محمد محمود، دون أن يحدد لنا أسماء من يمولون ذلك، وبلغة مباركية قحة أخذ الرئيس يتحدث عن «القلة المندسة» و«البلطجية» الذين يضربون «الاستقرار» ويعطلون «عجلة الإنتاج». وكان حريصاً على التأكيد على استدعاء فكرة «بقرة الاستقرار المقدسة» من متحف «المخلوع»، ليعطى نفس الرسالة التى سبق وشدد عليها «مبارك»، عندما اشتد غضب الشعب عليه، وتفاقمت المظاهرات ضده، فخرج على المصريين يوعيهم بخطورة الشغب والمظاهرات على «استقرار مصر»، ويؤكد لهم معادلة «أنا أو الفوضى». ومن عجب أن الرئيس «مرسى» حام حول نفس الفكرة بتلقائية عجيبة، وربما رددها صراحة فى خطاب مقبل.