كانت مفاجأة كبيرة بالنسبة لى فى صباح يوم الانتخابات أن أقرأ قراراً جديداً لمحافظ البنك المركزى يتفاخر فيه بخفض قيمة الجنيه المصرى أمام الدولار 10 قروش، وكان قد خفضه 10 قروش أخرى مثلها قبلها بأيام قليلة. وكنت قد قرأت تصريحاً له يبدو منه أنه سعيد بهذا الخفض الذى حققه كأنه انتصار كبير، وبلغ إجمالى الخفض الرسمى الذى حققه محافظ البنك المركزى نسبة 27%. وكان كل خفض فى قيمة الجنيه يصب فى خانة الضرر لأى مواطن مصرى، خاصة البسطاء الذين يعتمدون فى غذائهم على أرخص أنواع الطعام.. فحتى هذا الطعام الرخيص نستورد معظمه من الخارج. ومعنى هذا أننا نحتاج عدد جنيهات أكبر لتدبير الدولار بغرض شراء هذه المواد الأساسية من الخارج. فكأن محافظ البنك المركزى كان يستهدف فى قراراته النيل من المواطن البسيط.. ولم يكن الدكتور هشام رامز قابلاً للتفاوض أو الكلام فى قراراته التى كانت بالتأكيد خاطئة. وكان المستغرب جداً حتى من أعضاء المجموعة الاقتصادية أنفسهم أنه يتخذ القرار قبل الاجتماع، كما لو كان يستهدف توصيل رسالة للسادة أعضاء المجموعة الاقتصادية بأنه لا لزوم لهم، وأنه هو صاحب القرار.. وبكل أسف لم يكن يخطر أحداً بهذه القرارات، حتى إن رئيس الوزراء السابق والحالى كانا يعلمان بهذه القرارات من الإعلام فى بعض الأحيان. ولا أدرى لماذا لم يكن يتدخل السيد رئيس الوزراء السابق أو الحالى فى وقف أو تعديل هذه القرارات؟ ولم يكن مقبولاً لدى أن يستخدم رئيس الوزراء سلطاته للتنسيق على الأقل مع محافظ البنك المركزى، فالسياسة النقدية جزء رئيسى من حياة المواطن، وينبغى مراعاة البعد الاجتماعى والسياسى فيها. والمؤكد أن صندوق النقد الدولى كان يطلب من مصر إصلاحات اقتصادية بشكل مستمر لسنوات وعقود طويلة، وكان من بين هذه الإصلاحات كما كان يدعى خفض قيمة الجنيه، إلا أن المؤكد أيضاً أن البحث عن رضاء صندوق النقد الدولى ليس هدفاً، ولا يجب أن يكون هدفاً لأى مسئول مصرى.. فالهدف الأول هو خدمة المواطن المصرى.. وأذكر حينما سئل رئيس وزراء ماليزيا الأسبق مهاتير محمد عما اتبعه من سياسات لإصلاح الاقتصاد هناك قال إنه كلما كان صندوق النقد يطلب إصدار قرارات معينة، أقوم بإصدار عكسها. وعلى مدى شهور سبع مضت عقب انعقاد المؤتمر الاقتصادى بشرم الشيخ، والذى أفرز آمالاً عريضة لنمو اقتصادى هائل وقتها، بذل محافظ البنك المركزى جهوداً جبارة لإجهاض هذا المؤتمر عن طريق إصدار قرارات تمنع أى مستثمر من المغامرة بأمواله فى مصر.. فأصدر قراراً لا أعلم إن كان استشار فيه الرئيس أم لا بمنع إيداع أو سحب أكثر من 10 آلاف دولار يومياً أو 50 ألف دولار شهرياً.. وقد أتفهم تحديد قيمة السحب وإن كانت غير دستورية من وجهة نظرى حيث لا يوجد أى قوة تمنع مواطن من سحب أمواله وقتما يحتاجها.. إلا أننى لا أتفهم أبداً تحديد الإيداع.. فكيف يمنع محافظ البنك المركزى أى شخص من إيداع عملة صعبة فى البنوك.. وكيف تجذب استثمارات أجنبية لمصر حسبما كان هدف مؤتمر شرم الشيخ فى مارس الماضى؟! هل يستثمر المستثمر الأجنبى بالجنيه المصرى مثلاً؟! والأهم أن المصريين فى الخارج الذين كنا نعتبرهم مصدراً للعملة الصعبة المطلوبة لتدبير الاحتياجات الأساسية، توقفوا عن توريد إيداعاتهم لمصر.. فكيف يتعب المغترب المصرى، ويودع دولاراته التى جناها بعرقه فى البنوك المصرية، وحينما يحتاجها لأى سبب، نقول له لا تسحب أكثر من 10 آلاف دولار فقط من أموالك.. فكانت النتيجة أن تضاءلت هذه الإيداعات الدولارية من المصريين بالخارج لدرجة غير مسبوقة. وحسبما كان يعلن محافظ البنك المركزى، فإن الهدف من هذه القرارات هو توحيد سعر الصرف الأجنبى فى مصر، ولكنه فشل فى تحقيق هذا الهدف حينما زاد الفارق بين السعر الرسمى وسعر السوق السوداء بدرجة غير مسبوقة. وإذا كانت الدولة تشكو من تسريب الدولار فى عمليات استيراد سلع ترفيهية واستفزازية، فكما فعلت حكومات سابقة، يمكن منع استيراد هذه السلع وقصر الاستيراد على السلع الأساسية والمهمة، أما رفع الأسعار بهذا الشكل نتيجة قرارات أجمع الخبراء والمواطنون على أنها خاطئة، فهذا أمر غير مبرر على الإطلاق. وهنا ينبغى التأكيد على أمر مهم، فالسياسة العامة للدولة ينبغى أن تكون واضحة وبالذات فى المسائل الاقتصادية، فليس كل وزير مسئولاً فى جزيرة منعزلة عن بقية الحكومة، وليس محافظ البنك المركزى رغم سلطته المستقلة منعزلاً عن نفس الحكومة، فهو بحكم منصبه يمثل الشخصية الثانية فى المجموعة الاقتصادية بعد رئيس الوزراء. فالدولة تنجح بالجهد الجماعى وليس الاستعراض الشخصى. والغريب أن السيد محافظ البنك المركزى صرح متباهياً بأنه لن يتراجع فى أى من قراراته طالما ظل محافظاً للبنك المركزى. ولذلك فحسب رأيى الشخصى، ولأننى كتبت عن هذه القرارات الهوجاء لمحافظ البنك المركزى كثيراً، أرى أن قرار إقالته قد جاء متأخراً جداً، وهذا يضع محافظ البنك المركزى الجديد، الذى سيتسلم عمله يوم 27 نوفمبر المقبل، فى مأزق.. فعليه أن يسارع بإصدار قرارات تعيد الثقة للنظام المصرفى والنقدى فى مصر أملاً فى تعويض ما فات.. وهذا درس مهم فى أسلوب الإدارة؛ فالانتظار على الخطأ يؤدى لأخطاء أكبر. تمنياتى بالتوفيق للسيد طارق عامر محافظ البنك المركزى الجديد.