تسير سعاد فى المنزل ضيق المساحة متبرمة، لا تتوقف عن الشكوى من الحياة، ولا تألو جهداً فى الندب على حالها المائل، تطلب منها ابنتها ميرفت طلباً فترفضه فى عصبية شديدة، تحاول الأم خيرات أن تهدئ من روع ابنتها، تقنعها أن الحياة يلزمها قدر كافٍ من الهدوء، للقدرة على مواصلة العيش، تسخر منها سعاد، تذكرها بزوجها الذى طلقها، ولم يعبأ بأنه يترك لها أبناء ثلاثة: سمر وميرفت ومصطفى، أبناء فى عمر الزهور، يحتاجون للمزيد من الرى، والاعتناء، لعل المحصول يكون يانعاً أكثر مما هى عليه. تصمت الأم، لا تجد سبيلاً مع الابنة، وشكواها الدائمة من الحياة، تعذرها فى إحساسها، حيث عانت الأمرّين فى حياتها، لم يوفقها الله فى زواجها، بل كانت ثمرته كالقيد الذى يدمى المعصم، إذ لا تتوقف طلبات الأبناء، من مدارس، لعلاج، لتعليم، دورة لم تجد سعاد سوى العمل «دادة» حلاً للصرف على أمها القعيدة خيرات، وأبنائها الثلاثة، الذين ترغب فى إعدادهم بالشكل الذى يكفل لهم ألا يعانوا مثلها. كلما يشتد الضغط عليها، وتكثر الطلبات الأسرية، ترفع أكف يديها متضرعة إلى الله، تشكو إليه ضيق هذين اليدين، وضعفها وقلة حيلتها وهوانها على الناس، تطلب منه أن يقبض روحها، تدعو على نفسها، تحلم بأن تفارق الحياة بما تحمل لها من مرارات، تجترها كل ليلة. هكذا تمضى حياة سعاد من أزمة إلى أخرى، تعمل فى معهد نور الأزهر المنكوب ك«دادة» منذ عامين تقريباً، تحكى والدتها يوم السبت الدامى قائلةً إنها حملت مجموعة من الطلبة من قرى الشيخ والى والحواتكة والمندرة، يوم ككل الأيام، وفعل تقدم عليه سعاد فى كل صباح، لكن لم تلبث دقائق قليلة أن مضت، حتى سمعت ميرفت ابنة سعاد بعواء سيارات الإسعاف ينطلق مفزعاً، وحركات غير اعتيادية من الأهالى فى القرية، انقبض قلبها، أخذت تجهش بالبكاء دون حتى أن تتأكد من علاقة أمها بالإسعاف، سمعت كلاماً يلقى فى طريقها أن أتوبيس المعهد تحطم فى حادثة على المزلقان، أخبرت جدتها خيرات، التى لم تمنعها حركتها الثقيلة من الركوض ناحية الحادث، ما إن يتكرر لفظ الحادث مجدداً أمام سعاد، حتى تصدر آهات مكتومة وحارقة من صدرها، تحاول التنفيث عما يجول بخاطرها، لكن الأجهزة وحالتها تقف دون ذلك. تقول خيرات إنها حين وصلت إلى موقع الحادثة لم تجد من القول إلا الدعاء والحسبنة على عامل مزلقان السكة الحديد، الذى تسبب فى الأزمة، على حد وصفها، ما إن شاهدت كتل اللحم متناثرة فى الطريق، لا يتبين من يمتلك تلك الرأس، أو إلى من تعود هذه الذراع، حتى خرت أرضاً، أهالت على رأسها التراب، تريد أن تدفن نفسها حية بجوار هؤلاء البراعم، هى العجوز التى امتد بها العمر، لتنظر كيف يتم اغتيال أحلام الطفولة، وتنزوى براءة الصغار، أخذت تلعن اليوم الذى عملت فيه سعاد فى المعهد، جارّةً عليها من الويلات ما لا ينسى، المعاناة لم تفارقها حتى ساعة فعلها للخير، تذهب لحمل الأطفال بنفسها، وتساعدهم فى ركوب الحافلة، تلك الحافلة التى كانت وسيلة مواصلاتهم الفورية للموت. فجأة، تلوح بارقة أمل، يخبرها البعض بأن ابنتها لم تمت، يصيبها مس من فرح، وتقفز من جهة لأخرى باحثة عن وجه ابنتها، معها أحفادها، الذين لم يتوقفوا عن النحيب على والدتهم، تشاهدها أخيراًً، فى حالة يرثى لها، لا تستطيع الحديث، لكن ثمة نبض فى قلبها يشى بأنها على قيد الحياة. تنتقل سعاد إلى المستشفى، هناك ترقد، تدخل فى نوبة جديدة من المرارة، يصيبها الوهن، ويتسلل إليها شبح العجز، إذ إن كسراً قد طال القدم والذراع والضلوع، تقول والدتها خيرات باكية «أنا مخلفتش غيرها وحيدة من غير حتى أخ، مش عاوزة غير أنها ترجع تمشى على رجلها تانى». تحكى عن كونها الوحيدة التى تصرف على المنزل، ترعاها أحسن رعاية، وترغب فى تعليم أبنائها أفضل تعليم. تتكلم سعاد أخيراًً، كلمات قليلة، يغلب عليها آهات الألم، تقول «أنا مش فاكرة إيه اللى حصل، أنا كنت فى الأتوبيس، وفجأة مدرتش بروحى ومعرفش مين اللى جابنى هنا». «الله ينتقم من اللى ماسك السكك الحديد كلها» هكذا تتحدث خيرات، تلقى باللوم على السكك الحديدية، وتبعد الذنب أو شبهته عن سائق الأتوبيس، تصفه بالغلبان الطيب، الذى لم يخطئ. تتحدث ميرفت، ابنة سعاد، عيناها لا تتحول عن الأم الراقدة على سريرها، للمرة الأولى تراها عاجزة عن الحركة، تلك السيدة التى ملأت القرية جيئة وذهاباً، تعولهم، دون سابق إنذار لا يتحرك لسانها إلا بحساب، أحست أن الظهر الذى تتعكز عليه فى الدنيا قد انكسر، بعد أن انكسر من قبل حين حدث الانفصال بين أبيها وأمها، تستغرب من دعوات الأم على نفسها قبل الحادث، من فرط ما قاست من خيبات «معقولة يعنى ربنا سمع كلامها، وكان حيريّحها وتموت؟.. بس أنا عارفة إن أمى حترتاح لمّا تبقى بتمشى وإحنا فى ضهرها».