بينما يواجه الرئيس الأمريكى أوباما مصاعب كبيرة فى الكونجرس، ربما تحول دون نجاحه فى تمرير اتفاق التسوية السلمية للملف النووى الإيرانى، أمام معارضة قوية يمكن أن تحظى بأغلبية الأصوات فى المجلسين، يشنها الجمهوريون على الاتفاق، يؤازرهم حفنة من الديمقراطيين فى المجلسين، بدعوى أن الاتفاق يطلق يد طهران فى إعادة توجيه برنامجها النووى بعد عشر سنوات، بما يمكنها من إنتاج قنبلة نووية، وأن الاختيار الأفضل هو العودة إلى العقوبات الدولية لتطويع إرادة إيران وإلزامها بالتخلى الكامل عن برنامجها النووى، ترفض جميع الدول الأوروبية العودة مرة ثانية إلى مائدة التفاوض مع إيران، وتعتبر الاتفاق الذى وافقت عليه كل الدول الأوروبية، إضافة إلى روسيا والصين، أمراً مقضياً يتحتم احترامه، لأنه يحقق مصالح كل الأطراف، ويضمن عدم حصول إيران على سلاح نووى، ويغنى عن الدخول فى حرب جديدة فى الشرق الأوسط يصعب التنبؤ بنتائجها ويحقق الأمن والاستقرار للمجتمع الدولى.غير أن الأخطر من ذلك كله، هو تدفق البعثات الأوروبية على طهران فى أفواج متتابعة، تشغل فنادق العاصمة الإيرانية التى عادت إليها الحياة!، تعرض توسيع نطاق التعاون الاقتصادى فى كل المجالات، وتقدم العشرات من المشروعات الضخمة للاستثمار المشترك حتى قبل اجتماع مجلس الأمن للنظر فى استصدار قرار جديد برفع العقوبات!، بدعوى أن هناك سوقاً جديدة واسعة وغنية تضم 90 مليون مستهلك إيرانى تفتح الأبواب على مصاريعها، سوف يُرفع الحظر عن تجارتها البترولية، ويتدفّق على خزائنها أكثر من 130 مليار دولار أرصدة إيرانية مجمّدة فى بنوك الغرب والولاياتالمتحدة، بما يزيد من فرص تحسين اقتصاديات أوروبا ويخرجها من حالة النمو المتباطئ إلى طور نشيط تحقق فيه منافع ضخمة، خاصة أن السوق الإيرانية تحتاج إلى إعادة هيكلة كاملة للنهوض بصناعتى الغاز والبترول تزيد عائداتهما وتهيئ فرصاً واسعة لمشاركة أوروبية، كما تحتاج السوق الإيرانية إلى تحديث شبكة مواصلاتها البحرية والبرية والجوية، حيث تعتزم طهران شراء أكثر من 400 طائرة، لتجديد أسطولها الجوى، يمكن أن تحصل عليها من «إيرباص» الأوروبية أو «بوينج» الأمريكية، وفضلاً عن ذلك، هناك ثمة مشروعات ضخمة لتوليد الطاقة وتجديد صناعات السيارات تحتاج إلى استثمار مشترك، إضافة إلى أن الإيرانيين وقد عمرت خزائنهم من جديد سوف يشكلون جزءاً مهماً من سوق السياحة العالمية!لم ينتظر الأوروبيون الأمريكيين، وإنما هرعوا إلى طهران تباعاً فى نوع من الخروج الجماعى عن السطوة الأمريكية، تحقيقاً لمصالح أوروبا الاقتصادية، وكانت الطائرة الأولى التى هبطت على أرض مطار طهران هى طائرة وزير الخارجية الفرنسى مع مجموعة من رجال الأعمال، وبعدها بأيام هبطت طائرة ألمانية تضم مجموعة ضخمة من رؤساء شركات «سيمنس» و«كروب» و«فولكس فاجن» و«ديملر»، ولم يكن قد مر على إعلان اتفاق التسوية السلمية للملف النووى سوى خمسة أيام، ولم تتأخر كثيراً عن ذلك طائرة وزير الخارجية البريطانى فيليب حمود، تضم وفداً من رجال الأعمال البريطانيين، ليعيد افتتاح السفارة البريطانية فى طهران بعد أربعة أعوام من إغلاقها، وثمة أنباء مؤكدة عن أن الرئيس النمساوى هينز فيشر يعتزم أن يكون أول رئيس أوروبى يزور طهران الشهر المقبل.والواضح من هذا السيل الذى لا ينقطع من وفود رجال الأعمال الأوروبيين على إيران، أن هناك اختلافات جوهرية بين مصالح واشنطن التى تنتظر قرار الكونجرس، ومصالح أوروبا التى تلتزم جميع دولها برفض العودة إلى مائدة التفاوض مرة أخرى مع إيران لإعادة فرض العقوبات الاقتصادية، بدلاً من اتفاق التسوية، وتعتزم المضى قدماً فى فتح صفحة جديدة مع طهران، بل إن بعض الشركات الأوروبية وقعت بالفعل، ودون انتظار قرار مجلس الأمن، اتفاقات اقتصادية مع إيران، أبرزها مذكرة التفاهم التى وقعها واحد من أكبر بنوك إيطاليا لتمويل المشروعات الإيطالية الإيرانية المشتركة، دون اكتراث بالإجراءات العقابية التى يمكن أن يأخذها الكونجرس الأمريكى ضد الشركات الأوروبية التى تهرع إلى طهران من أجل الاتفاق على مشروعات استثمار مشتركة قبل موافقة الكونجرس على اتفاق التسوية السلمية.والواضح أيضاً من هذا التدفُّق المتواصل من السياسيين ورجال الأعمال الأوروبيين أن الولاياتالمتحدة لم تعد تملك القدرة على منع هذا السيل المتدفق، الأمر الذى جعلها تحت ضغوط عدد من الشركات الأمريكية الكبرى، تخشى من أن يسبقها الأوروبيون ويتحصّلون على جزء غير قليل من الكعكة الإيرانية!، لكن ما من شك أن طهران التى تخطط لتحسين علاقاتها مع واشنطن على المدى الزمنى المقبل فى إطار المنافسات الإقليمية فى المنطقة، سوف ترعى مصالح الولاياتالمتحدة قبل أى طرف أوروبى، وسوف تحتجز أطايب اللحم للأمريكيين، حرصاً على تقوية علاقاتها مع واشنطن، خاصة إذا تغلبت كفة الإصلاحيين فى الحوزة الدينية الإيرانية ورجحت على كفة المحافظين، ونجح الرئيس الإيرانى حسن روحانى فى الحصول على مدة رئاسية ثانية، وهو الأمر شبه المؤكد، بعد أن تصاعدت شعبيته هو ووزير خارجيته جواد ظريف الذى استقبله الإيرانيون استقبال الأبطال بعد عودته من مباحثات فيينا الأخيرة التى انتهت بإعلان اتفاق التسوية السلمية، والتزام الغرب والأمريكيين برفع العقوبات الاقتصادية عن إيران، وإنهاء الحظر على صادراتها البترولية، والإفراج عن أرصدتها المجمّدة فى بنوك أوروبا وأمريكا.وأظن أن إدارة الرئيس أوباما التى تعتبر اتفاق التسوية السلمية للملف النووى الإيرانى أهم إنجازاتها، وتسعى بكل السبل كى تكسب معركة تمرير الاتفاق داخل مجلسى الكونجرس، لن تتورّع عن استخدام تدفُّق الأوروبيين على السوق الإيرانية، بينما ينتظر رجال الأعمال الأمريكيون مماطلة الكونجرس، فزاعة تضغط بها على المعارضة الأمريكية لإضعاف جهودها، للحصول على غالبية نواب مجلسى الشيوخ والنواب، بحيث ترجح كفة الاتفاق، وهو أمر شديد الصعوبة، فى ظل التيار الأغلب داخل المجلسين، الذى تحرضه إسرائيل ويناصره رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذى يعتبر هزيمة الاتفاق داخل مجلسى الكونجرس شاغله الأول، ويحرّض منظمة «الايباك»، أقوى جماعات الضغط الصهيونية داخل الولاياتالمتحدة، على تشويه صورة الاتفاق، بدعوى أن اتفاق التسوية السلمية لا يلحق الأذى بأىٍّ من مكونات البنية الأساسية لبرنامج إيران النووى ويسمح لإيران بعد عشر سنوات بإعادة توجيه برنامجها لصنع سلاح نووى، وأن الحل الأمثل هو العودة إلى تطبيق العقوبات الاقتصادية على إيران، إلى أن ترضخ لمطالب إسرائيل وتقبل التدمير الشامل لبرنامجها النووى!، والتوقف النهائى عن تخصيب أى كميات من اليورانيوم، مهما قل حجمها أو قلّت درجة التخصيب!، وتنفق «الايباك» مئات الملايين من الدولارات على تحقيق هذه الأهداف، معظمها فى شكل عطايا ومساعدات انتخابية لأعضاء الكونجرس، كما أعلن الرئيس الأمريكى أوباما بوضوح قاطع.ورغم الانقسام الواضح فى صفوف اليهود الأمريكيين، ووجود تيار آخر (الشارع اليهودى) يعتقد أن تدخل منظمة «الايباك» اليهودية فى الشأن الأمريكى إلى هذا الحد، يمكن أن تكون له نتائج عكسية خطيرة تدمر العلاقات الاستراتيجية بين إسرائيل والولاياتالمتحدة، فإن رئيس الوزراء الإسرائيلى نتنياهو يصر على أن يمضى فى الشوط إلى نهايته، متحدياً الرئيس أوباما الذى لم يعد باقياً له فى السلطة سوى بضعة أشهر!خلاصة القول، إن الأوروبيين، صغيرهم وكبيرهم، ابتداءً من ألمانيا إلى فرنساوإيطاليا وإسبانيا، مروراً بإنجلترا، إضافة إلى دول أوروبا الشرقية، يرون جميعاً ضرورة توسيع حجم المشاركة والاستثمار المشترك مع إيران، أملاً فى تحسين اقتصاديات دول السوق الأوروبية، ولا تمانع الدول الأوروبية فى أن تخطو منفردة على هذا الطريق فى تحسين علاقاتها مع إيران، إن أصر الكونجرس الأمريكى على رفض اتفاق التسوية، والعودة إلى نظام العقوبات الدولية.ويبقى التساؤل المهم عن مصير العلاقات العربية - الفارسية بعد هذه التطورات التى تنبئ بإمكان نهوض إيران من أزمتها، لتصبح دولة ناهضة متقدمة تملك فرص تحسين جودة حياة شعبها وتعزيز مكانتها الإقليمية والدولية، وهل تظل هذه العلاقات على توترها المتصاعد، أم أن المصالح المشتركة تفرض ضرورة الحوار بين الطرفين، أملاً فى حل صحيح يحتوى هذه المشكلات، ويقلل فرص تدخل إيران فى الشأن العربى والخليجى؟، وإذا جاز القول إن إيران رغم نزعتها الفارسية فى التوسّع سوف تبقى جاراً تفرض الجغرافيا على العرب ضرورة التعايش وتحسين العلاقات معه، كما تفرض أخوة الدين ضرورة العمل المشترك بين إيران والدول العربية، لوأد محاولات الوقيعة بين السنة والشيعة التى تهدد بحرب طائفية لا يستطيع أحد أن يتنبّأ بنتائجها، يصبح الحوار بين إيران والعرب هو الحل الصحيح، خاصة أن السنة والشيعة كانا يتعايشان داخل العراق فى هدوء وأمن وسلام مشترك قبل الغزو الأمريكى لبغداد.