كتل صماء ضخمة.. هى الشاهد الأخير على الدماء التى سالت فى شارع محمد محمود ولم تزل آثارها باقية، لتبرهن على ضحايا سقطوا واحدا تلو الآخر طيلة 5 أيام. الحوائط الأسمنتية.. أحضروها لتكون حاجزا بين هؤلاء الذين يقبع بينهم «الباشا الجدع»، ويصفهم البعض بحماة الدولة وسادتها، وبين من يهتفون «ثوار أحرار» ويُلصق بهم آخرون اتهامات ب«الفوضوية». بعد مقتل 42 مصريا، سقطوا شهداء، حان الوقت أن يكون الحل فى «نيوجيرتى»، اسم الحجر أو بالأحرى «المصدات الخرسانية»، ذلك الحاجز المستخدم عادة كفواصل للطرق أو فى مداخل القرى لحماية الفلاحين من الطرق السريعة، أو فى أسوأ الأحوال كطوق حول وزارة سيادية، غير أن ثورة وثوار يثابرون على ندائها الثانى «حرية»، كانت سببا فى استخدام السلطة تلك الحواجز الأسمنتية مع غروب شمس يوم الأربعاء 23 نوفمبر. يحكى «شريف فرس» -مقاول بإحدى الشركات الخاصة- عن مكونات ذلك الحائط المستخدم فى شارع محمد محمود، قائلا: «داخل (فورمة حديد)، عبارة عن متر x متر مكعب، تصب 6 «شيكارات» أسمنتية ونصف متر رمل وماء، ويترك يوما كاملا داخل «الفورمة»، قبل أن توضع مادة عازلة تسمى (سيكا)، وهى أشهر المواد المستخدمة عليه لمنع تسرب المياه بعد عملية الصب». ويحكى جندى مجند -عشرينى- أخفى اسمه خوفاً من العقاب، كيف تلقى أوامره من أحد ضباط الجيش بأن يُساعد هو وزملاؤه المُجندون عامل الونش فى رفع تلك الكتل الخرسانية ورصّها على «التريلا» العملاقة، التابعة للقوات المسلحة، تمهيداً لنقلها من معسكر تجنيده بمركز «بنى يوسف» بالجيزة إلى شارع «محمد محمود» عصر اليوم الخامس من الأحداث.. لم يكن يدرى ماذا يحدث فى ذلك الشارع المتفرع من ميدان الثورة، رغم المسافة التى لا تتخطى «ساعة زمن» بينه وبين الأحداث الملتهبة، لم يعرف ماهية المتظاهرين: «ماكنتش أعرف دول إخوان ولا سلفيين ولا بتوع أبريل»، غير أن رفاق الخدمة القادمين من «شارع الدم» يخبرونه عن مشاهد مؤثرة، وأوامر تُنفذ. الحجر الذى تتراوح تكلفته ما بين 600 و700 جنيه، يصبح عديم القيمة بمجرد تفتيته، يقولها الجندى موضحاً أن هدم الأحجار ليس صعبا «لو عشرة جامدين جابوا حبل وربطوه فى إيد الحجر ينزل على طول.. ولو شاكوش ضخم وضربوا به من طرف الأسمنت يتفتت بسرعة»، الرجل الأربعينى الذى يعمل فى مجال المقاولات منذ أكثر من 20 سنة استخدم الأحجار فى مشروع ضخم قبل سنتين، مشيراً إلى أن أكثر شركات المقاولات المستخدمة لتلك النوعية هى «حسن علام والمقاولون العرب»، وعن سبب لجوء الجيش لتلك المصدات وقت الأحداث يقول باسما: «لما الواحد بيموت ويبدأ يفرفر بيستخدم أى وسيلة تنجيه». «المجند» الذى وجد أكثر من مرة فى أحداث الفترة الانتقالية كفرد تأمين يصف شعوره المتضارب فى إحداها: «لما بلاقى متظاهر جاى ناحيتى ببقى عايز أقوله.. حقك ما تخدوش منى أنا.. أنا بنفذ الأوامر»، إلا أن هذه الكلمات تخرج عن غير طيب خاطر من جهته: «أنا عارف كويس إن المتظاهر ده بيعمل خدمة ليا وللبلد.. عشان لما أخلص خدمتى ألاقى لُقمة نضيفة.. وشغل مناسب.. لكن حكم النفس وحش». «الجدار العازل» الذى وضعته السلطة لتوقف زحف الثوار على وزارة الداخلية، حسب زعمها، صار علامة حتى بعد انتهاء الأحداث، غير أنه لم يقف حائلا أمام خيال الشباب؛ فكانت رسومات الجرافيتى توصِل الشارع بما يتبعه عبر الجدار، مارا به رجل يمسك بيد صغيره نحو مشهد أشجار، فى ربيع يحلُم أن يكتمل.