ليس الديكتاتور صدام حسين أول من ضحى به من البشر فى عيد الأضحى المبارك، الحكام العرب سبقوا الأمريكان إلى ذلك برجل قيل إنه أول فيلسوف عربى ويسبق الكندى فى فتح أبواب العقل العربى وإثارة الأسئلة. هذا هو الجعد بن درهم الذى كانت له مقولة مشهورة هى (اجمع للعقل) وقد أعجب محمد بن مروان الداهية، شقيق الخليفة الأموى وحاكم الجزيرة، بعقليته فاختاره معلماً لابنه مروان بن محمد آخر خلفاء الأمويين. الجعد ولد عام 46 هجرية، أسلم أبوه وكان قد ولد فى خراسان ثم هاجر وأقام وعاش فى دمشق وصار من موالى بنى أمية. كان يكثر من التردد والتعلم على يد وهب بن منبه، وهو واحد من كبار التابعين وأقدم من كتب فى الإسلام وأُخذت عنه قصص وأحاديث، وكان يلزم العبادة والعلم والزهد. كان الجعد حين يذهب إليه يغتسل ويقول (اجمع للعقل)، وكان وهب ينصح الجعد -الذى بدأ السؤال والتفكير والتفسير والتأويل وداعياً إلى تنزيه صفات الله والمبالغة فى توحيده ونفى الصفات التى توحى بالتشابه مع البشر مثل الكلام- قائلا ً: ويلك يا جعد.. اقصر المسألة عن ذلك (أى كف عن السؤال)، إنى لأظنك من الهالكين! ثم صار بنو أمية يطلبون الجعد نتيجة للمسائل والأفكار التى ينشرها، مما دعاه إلى الهرب من دمشق إلى الكوفة خوفاً من بنى أمية، وكان قال للحجاج بن يوسف أبياتاً تبدأ ب«أسدٌ علىَّ وفى الحروب نعامة» وتشبهه بالطائر لجبنه. فى العراق كانت له حرية أكثر نسبياً فى نشر آرائه والبحث عن إجابة لأسئلة عقله الملحة، وعندما استلم هشام بن عبدالملك الحكم فى دمشق عين خالد بن عبدالله القسرى والياً على الكوفة، الذى قال عنه الأصمعى إن امرأة شكت له: إن غلامك المجوسى أجبرنى على الفجور وغصبنى نفسى، فقال لها ساخراً: وكيف كانت قفلته؟ !وكان يُتهم فى دينه لأنه بنى كنيسة لأمه تتعبد فيها وهجاه الفرزدق لذلك ولما هو معروف عنه من فساد وقسوة. ولكن هذا الرجل أراد إثبات إخلاصه للحق وللدين، ونفى التهم عن نفسه، ونيل استحسان العامة والدينيين الذين حفلت كتبهم بعد ذلك بمدحه والثناء على فعله الشنيع الذى غصب به عمل الله تعالى، فقبض على الجعد، وفى أول يوم من أيام عيد الأضحى عام 105 هجرية صعد المنبر ووقف يخطب خطبة العيد وقال: من كان منكم مضح فلينطلق فليضح فليبارك الله فى أضحيته فإنى مضح بالجعد بن درهم ثم نزل من على المنبر فذبحه. وفى الكوفة كان الجهم بن صفوان قد تعلم من الجعد وأسس مذهبه الفكرى فى بدايات القرن الثانى الهجرى وواصل نشر أفكاره التى تعود فى أصولها وجذورها إلى بن درهم وطورها من خلال براعته وحوارته مع فلاسفة الهند ومناظراته فى المسجد مع مقاتل بن سليمان المفسر المعروف، ثم انتشرت هذه الأفكار وصار له أتباع كثيرون، واختلف فى أسباب مقتله سواء كان ذلك لفكره أم لاشتراكه فى الثورة على الأمويين، والحقيقة أن أحد السببين كاف للموت فى بلاد المسلمين وعند حكامهم فى الماضى والحاضر! ولكن أفكار بن صفوان وبن درهم لم تقتل مع مقتلهما ولم تنته أبداً بل نمت وصارت مع الوقت معتقدات، رغم اختلاف المؤرخين حول ذلك، فالحقيقة أنها تطورت باختلاف الواقع كما ولدت أخرى وتمحورت لتواجهه وتغيره وتضيف إليه عمقا وأفقاً فى الأرض والبلاد، وهذا يؤكده ظهور المعتزلة كجماعة من المفكرين انتشرت فى البصرة أواخر العصر الأموى ثم ازدهرت فى العصر العباسى وصار لها مفكروها العظام كالجاحظ فى الجزيرة العربية والكوفة وبغداد واليمن وخراسان وترمذ وأرمينيا، وكانوا قد بدأوا بإعطاء أهمية للتوحيد بنفس الأسئلة التى غرسها الجعد بن درهم ثم أعطوا أهمية أخرى لموضوع العدالة الاجتماعية رداً على المظالم التى زادت فى نهاية عصر الأمويين.